تدهور مستمر تتعرَّض له الليرة التركية منذ عدة سنوات، دون أن تتم معرفة السبب الحقيقي وراء هذا التراجع، فهل الأمر له علاقة بالخارج و"المؤامرات" التي تتعرض لها البلاد كما يقول البعض؟ أم هو خلل في السياسة النقدية لتركيا العضو في منظمة الاقتصاديات العشرين الأكبر في العالم؟ أم ماذا؟
لماذا تنخفض الليرة التركية باستمرار؟. هذا السؤال بات يشغل الكثيرين في العالم أو على الأقل المهتمين بالشأن التركي بسبب الأدوار التي تقوم بها أنقرة في الشرق الأوسط.
في هذا التقرير سنحاول الإجابة عن هذا السؤال.
خفض سعر الفائدة أحد الأسباب
لا يخفى على المتابع للشأن التركي قيام الرئيس رجب طيب أردوغان بخفض سعر الفائدة بعدما وصل 18% قبل عدة أشهر، إلى أن وصل الخميس 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلى 15% بعد قرار البنك المركزي خفض سعر الفائدة 1% بمعدل 100 نقطة.
بعد هذا القرار انخفض سعر الليرة التركية أمام الدولار ليصل إلى 11.20 قرش في سوق العملات استكمالاً لحالة الانخفاض المستمرة منذ عام والذي فقدت فيه الليرة 35% من قيمتها.
يقول موقع Middle East Eye البريطاني إنه وبدلاً من إصدار تصريحات لتشجيع الأسواق على دعم العملة المحلية، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الأربعاء 17 نوفمبر/تشرين الثاني أنّه لن يتوقف عن معارضة أسعار الفائدة المرتفعة طيلة فترة بقائه في المنصب. كما برهن على موقفه من أسعار الفائدة مستشهداً بآيات من القرآن.
وعقب التصريحات، سجّلت الليرة تراجعاً قياسياً جديداً بنسبة 2%، ليصل سعرها مقابل الدولار إلى 10.56 ليرة.
ترى الأسواق أنّ البنك المركزي التركي فقد استقلاليته ومصداقيته بسبب رضوخه لضغوط الرئيس من أجل خفض أسعار الفائدة، لكن ترى الحكومة التركية أنه لابد من تناغم سياسات البنك المركزي مع رؤية الرئيس الأمر الذي تعمل به الكثير من الدول في العالم وليس تركيا فقط.
وبعد إقالة عددٍ من محافظي البنك، أصبح شهاب كافجي أوغلو في المنصب. وكان كافجي أوغلو في السابق من كتَّاب الأعمدة في صحيفة Yeni Safak الحكومية، ويدعم وجهة نظر الرئيس الداعية لخفض سعر الفائدة.
ولكن مع وصول معدل التضخم السنوي إلى نحو 20% داخل تركيا، تماشياً مع الاتجاه العالمي؛ قرّر البنك المركزي خفض أسعار الفائدة بنسبة 2% الشهر الماضي من 18% إلى 16%. مما أسفر عن معدل فائدة حقيقية سلبية.
ومن المتوقع أن تدفع هذه الخطوة بالليرة التركية إلى دوامة هبوط، بينما يبتعد المواطنون عن العملة المحلية ويتجهون إلى العملات الأجنبية مثل الدولار واليورو لحماية استثماراتهم. في حين بدأ بعض المستثمرين سحب أموالهم من البنوك، بعد أن أغرقوا الأسواق التركية بأموال ساخنة من أجل التربح من أسعار الفائدة المرتفعة وهذا ما لا يرده الرئيس التركي الذي يسعى إلى ضخ الأموال في السوق من أجل خفض التضخم وتحفيذ السوق على العمل وليس التربح السريع دون استفادة المواطن التركي
ومن المتوقع أن ترتفع معدلات التضخم خلال الأشهر المقبلة، في جميع أنحاء العالم وليس تركيا فقط، مما قد يزيد ضعف الليرة في المستقبل القريب مع غياب الحماية لأسعار الفائدة. وبهذا سندخل في حلقةٍ مفرغة لأنّ انخفاض قيمة الليرة يزيد تضخم أسعار السلع، التي يتم استيراد غالبيتها؛ حيث تستورد تركيا كامل استهلاكها من الغاز والنفط تقريباً.
نقص احتياطيات النقد الأجنبي
يفتقر البنك المركزي التركي أيضاً إلى احتياطيات النقد الأجنبي بسبب سياسات المحافظين السابقين الذين تدخلوا في الأسواق للحفاظ على قوة الليرة، عن طريق ضخ الدولارات الأمريكية في السوق عبر الباب الخلفي.
لكن هذه السياسة جاءت بنتائج عكسية وتسببت في تصفية احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي بالكامل؛ حيث وصلت احتياطيات النقد الأجنبي في البنك المركزي حالياً إلى سالب 35 مليار دولار.
وفي الوقت ذاته، يتعيّن على الشركات والحكومة التركية سداد ديون خارجية بقيمة 13 مليار دولار خلال الشهرين المقبلين، بحسب وكالة Bloomberg الأمريكية. كما يجب سداد أكثر من نصف ذلك الدين- حوالي ثمانية ملايين دولار- خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
لماذا يريد أردوغان خفض أسعار الفائدة؟
يرى الرئيس أن خفض أسعار الفائدة سيزيد النمو الاقتصادي، ويقلل البطالة، ويشجِّع على زيادة الصادرات.
إذ قال وزير التجارة التركي محمد موش يوم الأربعاء إنّ الناتج المحلي الإجمالي لتركيا ارتفع بنسبة 21.7% خلال الربع الثاني من العام الجاري، بعد زيادةٍ بنسبة 7.2% خلال الربع الأول.
كما قال أيضاً إنّ الصادرات بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق عند 181.8 مليار دولار خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الجاري، بزيادةٍ وصلت إلى 33.9% مقارنةً بالعام الماضي. بينما تراجعت معدلات البطالة بنسبة 1% في سبتمبر/أيلول، لتنخفض من 12.7% العام الماضي إلى 11.5% العام الجاري.
جرس إنذار
مع ذلك، يُحذّر الخبراء من أنّ انخفاض الليرة يفرض تكلفةً باهظة على المواطن التركي العادي، الذي يُكافح من أجل العيش وسط ارتفاع الأسعار.
حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية، مثل الطماطم والبطاطس والخس، بنسبةٍ تتراوح بين 62% و70% خلال الـ12 شهراً الماضية وفقاً للإحصاءات الرسمية. كما ارتفعت أسعار سلع مثل الدجاج بنسبة 68%، والبيض بنسبة 47%، وزيت دوّار الشمس بنسبة 41%، والمعكرونة بنسبة 40%، والحليب والزبادي بنسبة 37%.
في حين تجاوز خط الفقر الـ10 آلاف ليرة تركية (950 دولاراً) في الشهر، أي أعلى من الحد الأدنى للأجور الذي لا يزال عند 2.825 ليرة تركية (269 دولاراً). ويتقاضى أكثر من 42% من العاملين التركيين الحد الأدنى الرسمي للأجور.
بينما ارتفعت أسعار السكن بنسبة 30%، مما أثار مشكلة إسكان في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة.
وتحاول الدولة التركية زيادة الحد الأدني للأجور مطلع العام المقبل 2022 لكي تحافظ على استقرار الوضع الاقتصادي في البلاد، عقب الزيادة الكبيرة التي حصلت في الأسواق خلال الأشهر الماضية.
طفرة كبيرة في التصدير
قال رئيس فرع حزب "العدالة والتنمية" في إسطنبول، عثمان نوري كاباك تبه، إن تركيا تشهد طفرة في التصدير، وتتمتع بجميع المزايا التي يبحث عنها المستثمر.
جاء ذلك في مقابلة مع الأناضول، على هامش دعوة وجهها لممثلي وسائل الإعلام الدولية.
ولدى سؤاله عن تراجع سعر صرف الليرة رغم وجود مؤشرات على نمو الاقتصاد التركي بمعدل كبير وتراجع معدل البطالة وزيادة الصادرات، أرجع كاباك تبه ذلك إلى تداعيات جائحة كورونا على العالم بأسره ومضاربات الدوائر المالية العالمية ضد تركيا.
وقال إنه "في الوقت الحالي، ترتبط هذه التقلبات اليومية في أسعار العملات الأجنبية بعلاقة مباشرة مع البيئة التي أوجدها الوباء، فضلاً عن عوامل المضاربات للدوائر المالية الدولية".
وأوضح كاباك تبه أن الجائحة تسببت في حدوث أزمة اقتصادية في جميع أنحاء العالم، وقد أثرت هذه الأزمة على كل من الأسواق المالية وخطوط الإنتاج والعمالة.
هل يمكن وقف نزيف الليرة التركية أم لا؟
مع تحقيق هذه المعدلات المرتفعة من النمو في البلاد والتي وصلت إلى نحو 9% بالإضافة إلى عملية الزيادة المستمرة في الاحتياطي الأجنبي، حيث بلغ في 21 أكتوبر/تشرين الأول الجاري 125 ملياراً و729 مليون دولار، بالبنك المركزي وارتفاع حجم الصادرات إلى مستويات غير مسبوقة، فمن المتوقع التحسن التدريجي في سعر العملة المحلية على المديين المتوسط والبعيد.
ويرى بعض الخبراء أن هناك حلولاً عدة لوقف نزيف الليرة، حيث قال يرى ستيف إتش هانكي أستاذ الاقتصاد التطبيقي بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، إن هناك طريقة لإنقاذ الليرة من دوامة الموت وسحق التضخم فور إنشاء تركيا مجلس عملة يصدر أوراقاً وعملات نقدية قابلة للتحويل حسب الطلب داخل عملة تثبيت أجنبية بسعر صرف ثابت، مشيراً إلى أن هذا المجلس مطالب بأن يحتفظ باحتياطيات عملات التثبيت بما يعادل 100% من التزاماته النقدية.
وفي تعليق معهد التمويل الدولي على تقلبات سعر صرف الليرة التركية، يقول روبن بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي (IIF)، إن جميع التحليلات الحالية حول الليرة التركية عبارة عن "ثرثرة تهدف إلى بث الذعر".
ويضيف بروكس، خلال تغريدات نشرها عبر حسابه على تويتر حول التقلبات التي يشهدها سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، إن البعض يتوقع أن يستمر الوضع الحالي في ما يخص الليرة التركية والدولار إلى ما لا نهاية: "لا تلتفتوا لأي من هذه التحليلات. جميعها عبارة عن هراء".
وأردف: "حركة تدفق الودائع الأجنبية تسير في منحنى أفقي بالنظر إلى متوسط الحركة خلال الأسابيع الـ13 الأخيرة".
وأشار إلى أن الأزمة التي شهدتها تركيا في أغسطس/آب 2018، كانت أكبر مما يحدث الآن، مؤكداً أن تركيا ستتمكن أيضاً من التخلص مما تعيشه الآن، كما فعلت ذلك في 2018.