بات السودان على مفترق طرق في ظل تصاعد الاحتجاجات على انقلاب الجيش على الحكومة الانتقالية، في وقت يلجأ فيه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، إلى التلويح بالعصا والجزرة عبر تعزيز القمع، وفي الوقت ذاته تسريب أنباء عن إمكانية الاتفاق مع رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك الذي تحول تدريجياً لرمز للقوى المدنية بالبلاد.
وبعد أيام من إعلان قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، تشكيل مجلس سيادة جديد يستبعد تحالف المدنيين المشارك في السلطة منذ عام 2019، خرجت حشود ضخمة إلى الشوارع في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى؛ للاحتجاج على خطوة البرهان.
وكانت مجموعات الاحتجاج المعروفة باسم "لجان المقاومة"، وقوى الحرية والتغيير، قد دعت إلى احتجاجات في 17 نوفمبر/تشرين الثاني؛ للمطالبة بعودة الحكومة المدنية، والإفراج عن المسؤولين السابقين الذين اعتُقلوا بعد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/تشرين الأول.
وفي محاولة لمنع المظاهرات استخدمت قوات الأمن بالعاصمة السودانية الخرطوم قنابل الغاز المسيل للدموع؛ لتفريق احتجاجات جديدة على الانقلاب العسكري.
يبدو أن القمع لم يأتِ بنتيجة
وقطعت السلطات خطوط الهاتف والإنترنت، وسدت الجسور؛ في محاولة لمنع الناس من التجمع. ودعا نشطاء الناسَ في جميع أنحاء البلاد إلى النزول إلى الشوارع؛ للاحتفال باليوم الذي كان من المفترض أن يتولى فيه مدنيٌّ قيادة مجلس السيادة الحاكم.
ويقول الأطباء إنه منذ استيلاء الجيش على السلطة قُتل 24 شخصاً على الأقل خلال الاحتجاجات.
وفي الأسبوع الماضي عيّن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الذي قاد الانقلاب، نفسه رئيساً لمجلس السيادة الجديد.
ويأتي هذا مع توقف مستمر لخدمة الإنترنت منذ الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على الرغم من حكم قضائي يلزم شركات الاتصالات بإعادة الخدمة.
ومنذ انقطاع الإنترنت اعتمدت الدعوات إلى التظاهر على الطَّرق على الأبواب، والمكالمات التليفونية وتوزيع المنشورات.
وانتشرت قوات الأمن في المدينة بشكل مكثف؛ تحسباً لخروج المظاهرات.
وذكرت مواقع محلية على الإنترنت نقلاً عن التلفزيون الرسمي، أن "السلطات السودانية أعلنت إغلاق أربعة جسور في الخرطوم اعتباراً من منتصف ليل الثلاثاء/الأربعاء، قبل ساعات من انطلاق المظاهرات المطالبة بعودة الحكم المدني".
وأضاف الموقع أن "تلفزيون السودان الرسمي نقل عن إدارة المرور الحكومية إعلان إغلاق أربعة من بين 10 جسور تربط مدن الخرطوم وبحري وأم درمان".
حملة اعتقالات واسعة
ونفذت سلطات الأمن السودانية حملة اعتقالات واسعة، أمس الثلاثاء، شملت العشرات من النشطاء والفاعلين في تحالف قوى الحرية والتغيير، من بينهم نور الدين صلاح الدين عضو المكتب السياسي لحزب المؤتمر السوداني.
وجاءت حملة الاعتقالات الجديدة التي نفذت في عدد من أحياء العاصمة الخرطوم ومدن سودانية أخرى، قبيل ساعات من انطلاق مسيرات جديدة رافضة لقرار قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، حل مجلسي الوزراء والسيادة وإعلان الطوارئ في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الثاني.
البرهان يلوح بورقة إطلاق سراح حمدوك
ولكن إضافة إلى عمليات القمع لوَّحت السلطة بانفتاح جزئي؛ في محاولة لتخفيف زخم الاحتجاجات.
فلقد قال "مالك عقار" عضو مجلس السيادة السوداني، الذي شكله حمدوك بعد حل المجلس الأول الذي يشارك فيه المدنيون، إن القيادة العسكرية التي سيطرت على السلطات في البلاد تنوي الإفراج عن جميع المسؤولين المعتقلين الذين تم احتجازهم خلال الأحداث الأخيرة.
وأضاف أنه "سيتم الإفراج عن المعتقلين وبينهم (رئيس الوزراء المقال عبد الله) حمدوك خلال يومين".
وصرح عضو مجلس السيادة: "حمدوك أخبرني خلال لقائنا، بأنه يتفق مع ما يقره السودانيون".
وكان البرهان يحاول الزج باسم حمدوك، والتلميح إلى أنه قبل بما حدث، بل تم تسريب تقارير عن احتمال توليه رئاسة الحكومة، ولكن رئيس الوزراء السوداني المخلوع، عبد الله حمدوك، نفى موافقته على العودة إلى قيادة الحكومة.
ونقلت وكالة رويترز، مطلع الشهر، عن مصادر مقربة من حمدوك، أن المفاوضات لاتزال مستمرة بينه وبين القادة العسكريين الذين استولوا على السلطة، فيما يتمسك حمدوك بعودة الأمور في السودان إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب العسكري الأخير.
وأعلن المتحدث باسم رئيس الوزراء السوداني المعزول، في 3 نوفمبر/تشرين الثاني، أنه يشترط إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وإعادة وضع المؤسسات الدستورية لما قبل انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول، قبل الدخول في أي حوار لتسوية الأزمة. وأفادت مصادر قريبة من حمدوك بأن الجيش لايزال يتفاوض معه للتوصل إلى اتفاق يعيده رئيساً للوزراء، نافيةً أنباء عن موافقته حالياً على العودة لرئاسة الحكومة.
وكان الجيش السوداني قد أطلق سراح عبد الله حمدوك نهاية الشهر الماضي، وأعاده إلى منزله وسط حراسة مشددة تشير إلى خضوعه لشكل من أشكال الإقامة الجبرية.
وساطات دولية
والتقت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، مولي فيي، رئيسَ الوزراء السوداني المعزول عبد الله حمدوك، خلال زيارتها الخرطوم أمس الثلاثاء، وناقشت معه سبل استعادة مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد.
ولكن اللافت ما نُسب من تصريحات إلى المسؤولة الأمريكية، حيث أشادت مساعدة وزير الخارجية بالدور الذي اضطلعت به القوات المسلحة إبان ثورة ديسمبر/كانون الأول، من خلال انحيازها إلى تطلعات الشعب السوداني.
وقالت إن ما حدث في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كان نتيجة إخفاقات تخللت الفترة الماضية.
والأحد، قال رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي، إنه سيرسل مبعوثاً إلى السودان في المستقبل القريب؛ لتشجيع جميع الأطراف على التوصل بشكل عاجل إلى حل سياسي لهذه الأزمة الجديدة في البلاد.
وجدد رئيس المفوضية دعوته الجيش السوداني إلى الانخراط في عملية سياسية، تؤدي إلى عودة النظام الدستوري، تماشياً مع المرسوم الدستوري المتفق عليه في أغسطس/آب 2019 واتفاقية جوبا للسلام.
قوى إعلان الحرية والتغيير تصعّد موقفها
من جانبها، دعت قوى إعلان الحرية والتغيير في السودان، الإثنين، المجلس السيادي إلى منح الحرية كاملة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك والسماح بعودته لمزاولة مهامه وفقاً للوثيقة الدستورية.
كما طالبت بمحاكمة من تثبت مسؤوليتهم عن مقتل وجرح عدد من الأشخاص يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وفي ظل جهود ووساطات محلية ودولية متعثرة لحل الأزمة الحالية في البلاد، أكد تجمع المهنيين السودانيين، في بيان، الإثنين الماضي، أنه لن يكون جزءاً من أي تسوية مع الجيش السوداني؛ مشيراً إلى أن الطريق الوحيد لحل الأزمة هو "التأسيس لسلطة وطنية مدنية انتقالية كاملة نابعة من القوى الثورية والمتمسكة بأهداف التغيير الجذري وثورة ديسمبر".
تكرار نموذج البشير
ويشير كل ذلك إلى مأزق كبير يتجه إليه السودان.
إذ يحاول الجيش الجمع بين اليد الحديدية عبر قمع التظاهرات واعتقال النشطاء ومحاولة تبريد الأزمة عبر التلويح بالإفراج عن حمدوك، وحتى إعادته لرئاسة الحكومة، في وقت يتمسك الأخير بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه.
من جانبها تبدو قوى الحرية والتغيير قد رفعت سقف مطالبها، عبر السعي إلى محاكمة المسؤولين عن عمليات القتل، وأيضاً تشكيل ما تصفه بسلطة مدنية انتقالية كاملة، دون تركيز على فكرة الانتخابات وهو ما يعني رغبتها في قيادة السلطة الجديدة، وإبعاد قيادة البرهان الذي لم يعد محل ثقتها.
المشكلة أن هذا المطلب يعني انقلاب الجيش على البرهان، بما أن الأخير لن يتنازل من تلقاء نفسه، خاصةً أنه إذا فعل ذلك فقد ينتهي به الأمر إلى الدخول للسجن مثل البشير، وفي الوقت ذاته، فإن هذا المطلب من قبل القوى المدنية يعني أنها تريد أن تنصّب نفسها لسنوات كسلطة انتقالية دون انتخابات، وهو أمر يعني ليس فقط استبعاد الجيش؛ بل أيضاً الإسلاميين، إضافة إلى الدخول في متاهة تمثيل قوى المناطق المهمشة في الشرق والجنوب والغرب، وهي قوى متعددة تتنازع كل منها تمثيل إقليمها.
وكما حدث في الأزمة الأخيرة عندما انسحبت قوى دارفورية من ائتلاف الحرية والتغيير، وتحالفت مع العسكريين، وكذلك الأمر بالنسبة لقوى من الشرق السوداني، فإن تشكيل سلطة انتقالية غير منتخبة يعني سلسلة من نزاعات ادعاء الشرعية.
فالواقع أنه رغم امتلاك قوى الحرية والتغيير ناصية الشارع، خاصة في الخرطوم والمدن الكبرى، فإن السودان أكبر وأكثر تنوعاً من أن تسيطر عليه، وحتى لو تمكنت من الحصول على تنازلات صعبة من الجيش، فقد ينتهي الأمر في أفضل الأحوال بحلول جنرال جديد محل البرهان، وقد يكون هذا الجنرال هو الفريق محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي" الذي يبدو أنه ينأى بنفسه عن تصدّر الخلاف الحالي.
وحتى لو تمكنت قوى الحرية والتغيير من تنصيب سلطة تسيطر عليها، وهو أمر صعب، فإن ممارسة هذه السلطة للحكم في بلد معقد مثل السودان، أمرٌ فرص نجاحه ضئيلة، خاصة في ظل مشاكل البلاد العديدة، وضعف شرعية مثل هذه السلطة.
وفي الوقت ذاته، فإن رهان البرهان على القمع لوأد التظاهرات لن ينجح في الأغلب، فهو يحتاج إلى قدر كبير من العنف والاعتقالات لوقف الحراك في الشارع، خاصة إذا لم يجذب قوى الكفاح المسلح المنتمية إلى الإقاليم والإسلاميين إلى صفه، كما أن هذا العنف قد يؤدي إلى رد فعل محلي ودولي كبير، والأهم أن هذا العنف قد يكون مبرراً لأن يأتي جنرال من خلفه ليفعل به مثلما فعل هو مع البشير، ويقدم نفسه كمنقذ للبلاد.
ولذا قد تكون المسارعة بالإعداد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية الحلَّ الأنسب للأزمة السودانية، ولكن لا الجيش يريدها؛ حتى لا يسلم السلطة، ولا القوى المدنية تريدها؛ لأنها تخشى خسارتها، ولا قوى التمرد الإقليمية تريدها؛ لأنها ستُظهر حجمها المحدود حتى في الإقاليم التي تدّعي تمثيلها.