جاءت انتقادات شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، للدعوة إلى تأسيس ما يُعرف بالديانة الإبراهيمية، لتمثل ضربة لواحدة من أيقونات التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، وتثير تساؤلات حول مغزى توقيت هذا الهجوم الذي يأتي بعد شهور من إطلاق هذه المبادرة وتأثيره على العلاقة بين شيخ الأزهر والإمارات والتي كان البعض يصفها بالتحالف.
وتربط الإمام علاقة وثيقة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، ومع الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي وحاكم البلاد الفعلي الذي كان حريصاً على إعلان أنه طبع قُبلة على جبين الإمام في عام 2017.
وهي علاقة يُعتقد أنها أحد أسباب حماية شيخ الأزهر في مواجهة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي دخل في خلافات متعددة مع الطيب، وصلت إلى قوله علناً: "تعبتني يا فضيلة الإمام"، ليصبح الطيب هو الشخص الوحيد في مصر الذي اختلف مع السيسي ولم يُعزل أو يهمَّش أو حتى يُعتقل.
ولكن الآن العلاقة بين الإمارات وشيخ الأزهر لا تبدو على ما يرام، وهو ما ظهر في انتقاد شيخ الأزهر الدعوة إلى الديانة الإبراهيمية، التي يُنظر إليها على أنها فكرة تتبناها الإمارات ضمن مبادراتها للتطبيع بعد اتفاق السلام الإبراهيمي الذي أُبرم في ضيافة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالبيت الأبيض في أغسطس/آب، بمشاركة وزيري خارجية الإمارات والبحرين وبرضاء سعودي، أعقبته مشاركة مغربية وسودانية في مسيرة التطبيع.
وجاء انتقاد شيخ الأزهر للدعوة إلى الديانة الإبراهيمية خلال احتفالية بيت العائلة المصرية، التي أقيمت يوم الإثنين 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بمناسبة مرور 10 سنوات على تأسيس البيت عام 2011، وهو مؤسسة أُنشئت بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، بقرار من رئيس الوزراء المصري عصام شرف وقتها، تضمَّن أن يكون البيت برئاسة شيخ الأزهر، وبابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومقره الرئيسي مشيخة الأزهر بالقاهرة، ويعمل على استعادة القيم العليا في الإسلام والمسيحية، ويهدف إلى الحفاظ على النسيج الوطني ومنع الفتنة الطائفية.
حديث الطيب الذي تناول الموضوع لأول مرة، لم يذكر الإمارات بالاسم، وبحسب صفحة الأزهر على موقع فيسبوك، جاء من أجل إيضاح ما كان يُعتقد أنه بحاجة إلى توضيح، أو التنبيه إليه، وقطعاً لما وصفها بالشكوك والظنون التي يُثيرها البعض، وردّاً على منتقدي التقارب والحوار بين الأديان بدعوى الترويج لديانة موحدة تسمى "الإبراهيمية".
وأكد شيخ الأزهر أن "اجتماع الخلق على دِينٍ واحدٍ أو رسالةٍ سماوية واحدة أمرٌ مستحيل، حيث يختلفُ الناس اختلافاً جذرياً، في ألوانهم وعقائدهم، وعقولهم ولغاتهم".
اللافت أنه بعد هذه الانتقادات للديانة الإبراهيمية، أصدر المجلس الأعلى للأزهر برئاسة الطيب بياناً قبل أيام، أعرب فيه عن شكره وتقديره لدولة الإمارات والشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، على إتمام إنشاء مكتبة الأزهر الجديدة.
كما أعرب الطيب عن سعادته بالحديث مع بن زايد، وتهنئته بفوز دولة الإمارات العربية المتحدة باستضافة قمة المناخ، ووصف الإمارات بأنها "جزء عزيز من القلب العربي والإسلامي، يسعد كل عربي بنجاحاته وتمثيله المشرف لوطننا العربي في المحافل الدولية".
وفي هذا التقرير نرصد تطوُّر العلاقة بين الإمارات وشيخ الأزهر، كيف نشأت ومتى، وهل هي علاقة تبعية أم تحالف أم تبادل مصالح، ولماذا يبدو ما خفي فيها أكثر من المعلن؟
أبرز المحطات في العلاقة بين الإمارات وشيخ الأزهر
البداية قبيل الإطاحة بمرسي
يبدو أنَّ توثُّق العلاقة بين الإمارات وشيخ الأزهر بدأ عام 2013 بالتزامن مع التوسع في التحركات التي شهدتها مصر للإطاحة بالرئيس المصري المنتخب المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي، وهي الفترة التي شهدت تدخُّلاً إماراتياً فجّاً في الشؤون المصرية عبر نَسْجِ علاقات قوية مع مؤسسات الدولة والإعلام والشخصيات المعارضة المصرية الرئيسية لحكم الإخوان المسلمين مثل أحمد شفيق، المرشح الرئاسي السابق الذي هُزم أمام الرئيس مرسي في انتخابات الرئاسة عام 2012.
وبعد الإطاحة بمرسي كان موقف الطيب مما حدث في مصر يحمل توجهات متباينة، فالرجل عُرف بمواقفه المناهضة لـ"الإخوان" بعد ثورة يناير/كانون الثاني وما قبلها، وكان أحد أبرز المشاركين في لقاء 3 يوليو/تموز 2013، الذي عُقد بقيادة السيسي وأفضى إلى عزل مرسي، ولكن الطيب سرعان ما تبرّأ من الدماء التي سالت في مجزرة رابعة العدوية حينما فضَّت قوات الشرطة والجيش المصرية اعتصام مؤيدي مرسي، الرافضين لعزله في أغسطس/آب 2013، مما أدى إلى مقتل 817 منهم، حسب منظمة هيومان رايتس واتش، و2000 شخص، حسب مصادر جماعة الإخوان وحينها قال شيخ الأزهر في حديث تلفزيوني، إن الأزهر ليس لديه علم بما حدث، ثم أعلن الاعتصام إلى أن تزول الغمة.
جائزتان وإطلاق سراح المعتقلين المصريين
خلال تلك الفترة، جمعت عدة لقاءات بين الطيب الذي سبق أن عمِل في جامعة الإمارات (حكومية)، ومحمد بن زايد، رجل الإمارات القوي.
ففي أبريل/نيسان 2013، هنأ ولي عهد أبوظبي، الشيخَ "الطيب" بمناسبة اختياره شخصية العام الثقافية التي أعلنت عنها جائزة "الشيخ زايد للكتاب" في دورتها السابعة ونال بموجبها مليون درهم إماراتي (272 ألف دولار)، وفقاً لبيان صادر عن وكالة أنباء الإمارات.
جاء هذا الاختيار في ذروة توتر علاقات الإمارات مع حكومة محمد مرسي، وتم ذلك بالتوازي مع إطلاق أبوظبي سراح أكثر من 100 سجين مصري مع استثناء معتقلي الإخوان المصريين بالإمارات الذين وُجهت لهم اتهامات بدعم الإرهاب.
وسرعان ما نال الطيب مليون درهم أخرى عقب عزل مرسي، إذ فاز في يوليو/تموز من العام التالي بجائزة شخصية العام الإسلامية عبر جائزة دبي للقرآن الكريم.
متى بدأ التعاون المؤسسي بينهما؟
في 19 يوليو/تموز 2014، شهدت العاصمة أبوظبي إطلاق مجلس حكماء المسلمين، الذي يمثل أحد أهم مفاصل العلاقة بين الإمارات وشيخ الأزهر ونقطة تحويلها إلى عملية مؤسسية.
ويصف المجلس نفسه بأنه أول هيئة دولية مستقلة تهدف إلى تعزيز السلم في العالم الإسلامي، يترأسها أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، والشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، على أن تكون أبوظبي مقراً للمجلس.
وبرر السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، تشكيل المجلس "الذي تم تأسيسه ودعمه من قِبل القادة الإماراتيين بهدف تحديث طريقة تدريس الإسلام في المدارس، وتطوير برامج تدريب جديدة للأئمة، وتحديث التفاسير القرآنية"، وفقاً لما قاله في جلسةٍ عُقدت بجامعة الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2015.
يمكن وصف المجلس بأنه محاولة إماراتية لتأسيس ذراع دينية منافسة للمؤسسات الدينية التقليدية في العالم الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يضم علماء مستقلين، بينهم علماء مقربون لجماعة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي المعتدل، ومدعوم من قطر وتركياو ويرأسه الشيخ يوسف القرضاوي.
فالإمارات تهدف من خلال تأسيس مجلس الحكماء إلى تقويض اتحاد علماء المسلمين الذي دعم الربيع العربي الذي يخالف مصالحها، الأمر الذي جعل أبوظبي تستعين بالشيخ عبد الله بن بيه، النائب السابق للشيخ يوسف للقرضاوي، مؤسس الاتحاد؛ في محاولة لخلق كيان بديل للاتحاد ومنافس له تتحكم فيه"، حسب وجهة نظر الأكاديمي في جامعة حمد بن خليفة، معتز الخطيب.
أول فرع للأزهر خارج مصر
في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، وقَّع شيخ الأزهر، والدكتور محمد مطر الكعبي رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات اتفاقية لإنشاء فرع لجامعة الأزهر في الإمارات، ليصبح أول فرع للأزهر خارج مصر، حسب وكيل الأزهر في ذلك الوقت الدكتور عباس شومان، مشيراً إلى أن "الأزهر تلقى العديد من الدعوات لإنشاء فروع في دول كثيرة".
وقال شومان وقتها: "نحن على بثقة بأنَّ فرع الجامعة هناك سيؤدي دوره كمنارة للعلم في أرض صالحة"، مشيراً إلى أن الاتفاقية تأتي في إطار التعاون المستمر بين الأزهر والمؤسسة الدينية الإماراتية، مؤكداً أن دولة الإمارات من أكبر الداعمين للأزهر.
ومن جانبه، قال الكعبي إن "القيادة الإماراتية حريصة على تقوية أواصر التعاون مع الأزهر الشريف، باعتباره المؤسسة العريقة في مجالَي التعليم والدعوة على المستوى العالمي"، مشدداً على مواصلة دعم بلاده للأزهر حتى يواصل أداء رسالته التي تتبنى الفكر الوسطي للإسلام.
قُبلة على رأس الإمام، وفقاً لبيان رسمي
وفي يوليو/تموز 2017، داخل مجلسه الخاص في قصر البحر بالعاصمة الإماراتية، استقبل ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، شيخَ الأزهر، على هامش زيارته العاصمة الإماراتية؛ لترؤس اجتماع مجلس حكماء المسلمين.
وانتهى لقاء بن زايد والطيب بـ"قُبلة" على جبين شيخ الأزهر، الذي "أشاد بجهود دولة الإمارات ودورها في دعم قضايا الإسلام والمسلمين"، وفقاً لما جاء في بيان رسمي صادر عن وكالة أنباء الإمارات "وام"، وفيما بعد نَشَرَ نشطاء محسوبون على الإمارات هذه الصورة.
تمويل إماراتي لأنشطة الأزهر
انعكست العلاقة المتنامية بين مشيخة الأزهر والإمارات، عبر تمويل أبوظبي للأزهر.
ففي أبريل/نيسان 2013، أعلنت الإمارات عن مبادرة لتمويل مشروعات في مؤسسة الأزهر بمصر، تبلغ تكلفة إنشائها نحو 250 مليون درهم إماراتي (نحو 66 مليون دولار)، وتتضمن المشروعات ترميم مكتبة الأزهر وصيانتها وترميم مقتنياتها من المخطوطات والمطبوعات وترقيمها، وتوفير أنظمة حماية وتعقُّب إلكتروني لمراقبتها وتعقُّبها والمحافظة عليها، وكذلك تمويل إنشاء 4 مبانٍ سكنية لطلاب الأزهر في القاهرة، وتمويل أعمال تصميم إنشاء مكتبة جديدة على أحدث النظم المكتبية العالمية للأزهر.
كما موَّلت الإمارات إرسال وفود أزهرية دورية إلى العواصم الأوروبية ضمن مشروع يسمى "قوافل السلام"، أطلقه "مجلس حكماء المسلمين"، بدءاً من شهر رمضان من عام 2015 الذي شهد انطلاق الوفود إلى 14 عاصمة أوروبية، بحسب الموقع الرسمي لمجلس حكماء المسلمين.
قوبل هذا التمويل بانتقادات، حيث يرى سلام الكواكبي نائب مدير مبادرة الإصلاح العربي (مؤسسة بحثية)، أن تمويل المؤسسات الدينية مثل مشيخة الأزهر، أدى إلى تراجع مواقفها الإصلاحية مقابل تطرُّفها في دعم أنظمة بعينها، أي إن هناك معادلة قائمة لصالح الأنظمة غير الديمقراطية غالباً، فيما تظل رسالة الدين الأخلاقية الخاسرَ الأكبر.
غير أن عميد كلية العلوم الإسلامية بجامعة الأزهر الدكتور عبد المنعم فؤاد، أحد المتحدثين باسم المشيخة، يعتبر أن هذا الدور يأتي انطلاقاً من كون الأزهر مؤسسة عالمية لا ينحصر دورها داخل مصر، قائلاً: "المشيخة تتعامل مع التبرعات المالية من دولة الإمارات وهذه الوفود وغيرها من العلاقات المتنامية، باعتبارها تقديراً لدور المشيخة ورسالتها، خصوصاً مع تطابق رؤية الإمارات والأزهر للإسلام".
ويقول مصدر مطلع لـ"عربي بوست"، إن الإمارات تموّل بعض الأنشطة التي يوجهها شيخ الأزهر في العالم الإسلامي، ولكن لا يوجّه أي تمويل إماراتي له شخصياً أو لمعاونيه، حسب المصدر.
فالرجل معروف بنظافة اليد، حتى إنه تبرّع بقيمة جائزة الشيخ زايد (مليون درهم) الممنوحة له عام 2013. ولكن عبر الدعم المالي الهائل للأزهر، موّلت الإمارات عدة مشاريع في الأزهر، إضافة إلى تكفّلها بتكاليف إقامة مركز الأزهر العالمي لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وفقاً لتقرير لموقع رصيف 22.
وفي عام 2017، اتخذ الأزهر موقفاً غريباً على مؤسسة دينية تسعى إلى تقديم نفسها كمؤسسة مصرية ذات توجُّه إسلامي عالمي، حينما أشاد الأزهر بفرض الحصار على قطر من قِبل السعودية والإمارات ومصر والبحرين، وهو الحصار الذي انتهى بعد ذلك بالمصالحة الخليجية التي شملت مصر وبدأت في قمة العُلا بالسعودية في مطلع عام 2021، ولكن اللافت في بيان الأزهر المؤيد للحصار والذي صدر في يونيو/حزيران 2017، أنه صدر عن مؤسسة الأزهر، وليس من شيخه.
ذروة التحالف: عندما نجا الإمام من خطة الجنرال
بلغ التحالف بين الإمارات وشيخ الأزهر ذروته في عام 2019، عندما لوَّح السلطات في مصر عبر أدواتها الإعلامية ومؤيدين لها، بإمكانية تعديل الدستور؛ للسماح بعزل شيخ الأزهر، أو إلغاء تحصين المنصب، وأن يكون منصبه لفترة محدودة، وذلك بسبب خلافات شيخ الأزهر المتكررة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
قيل إن وساطة مشتركة قام بها وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، والرئيس المصري السابق عدلي منصور، أدت إلى إلغاء إدراج الأزهر في التعديلات الدستورية التي أُجيزت في فبراير/شباط 2019، حسبما نقل موقع "مدى مصر" عن مصادر قريبة من مشيخة الأزهر.
في المقابل، قبِل الطيب بالاستغناء عن أبرز رجاله المخلصين، وعلى رأسهم وكيل الأزهر السابق الدكتور عباس شومان، والمستشار القانوني السابق للمشيخة محمد عبد السلام، وذلك ضمن صفقة تمَّت بوساطة إماراتية، أدت إلى تخلي الرئيس عن بنود ستؤدي إلى إلغاء استقلال الأزهر، والتي كانت ستُدرج بالتعديلات الدستورية.
في 4 فبراير/شباط 2019، جَنَتِ الإمارات واحدة من أكبر نتائج علاقتها مع شيخ الأزهر حينما تم توقيع وثيقة "الأخوة الإنسانية" بين البابا فرنسيس بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر، على أرض الإمارات برعاية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، في مشهد علاقات عامة مُهم جداً للإمارات التي تقدم نفسها كممثل للإسلام الحضاري الحديث الذي يستطيع إرضاء الغرب.
مؤتمر الشيشان.. أول خلاف علني
في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أعلن الشيخ أحمد الطيب أن الأزهر بريء من مؤتمر الشيشان أو مؤتمر غروزني الذي نظَّمته جهات محسوبة على الإمارات وروسيا، واعتبر بيانه الختامي أن الإخوان المسلمين والسلفيين ليسوا من أهل السُّنة والجماعة.
ورفض الطيب اتهامه بـ"إقصاء طائفة دون أخرى"، مشدداً على أنه وفقاً لـ"منهج التعليم بالأزهر الذي تربى عليه"، فإن "السلفيين من جملة أهل السُّنة والجماعة"، ولكنه لم يشر إلى الموقف من استبعاد المؤتمر للإخوان المسلمين من أهل السُّنة والجماعة.
وأضاف الطيب أن الوفد الأزهري الذي شارك في المؤتمر لم يكن على علم بالبيان الختامي، وأنه لم يُعرض عليهم قبل إصداره، "بل لم يكن وفد الأزهر الرسمي في غروزني حين أعلن، ومن ثَمَّ فإن الأزهر غير مسؤول عن هذا البيان، وما يُسأل عنه فقط هو الكلمة التي ألقاها شيخ الأزهر".
الموقف من التطبيع الإماراتي.. بداية الأزمة الصامتة
عكس موقف سلفه الشيخ محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الراحل المؤيد والمشارك في التطبيع وضمن ذلك عقده لقاءات مع حاخامات إسرائيليين، فإن أحمد الطيب أعلن بعد توليه مشيخة الأزهر عام 2010، رفضه التطبيع رغم أن مصر هي أول دولة عربية وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل.
كان تقارب الطيب مع الذائقة الشعبية الرافضة للتطبيع بشدة بداية لنهج مختلف عن سلفه، الذي كان يتهم بمحاولة إرضاء السلطة بشكل مستفز.
ولكن بعد إعلان دولة الإمارات إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل فيما عُرف باتفاقات أبراهام في أغسطس/آب 2020، لم يحدث رد فعل من شيخ الأزهر، وأثيرت انتقادات بسبب عدم إعلان الأزهر موقفه، وطُرح تساؤل بشأن تخلي الأزهر عن دعم القضية الفلسطينية كما كان في السابق.
ولكن يجدر الانتباه إلى أنه قبل ذلك بعامين وتحديداً في عام 2017، هاجمت هيئة كبار العلماء بالأزهر القرار الأمريكي بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ووصفته بـ"المجحف"، وهو القرار الذي نُظر إليه على أن جزء من صفقة القرن التي تبنَّتها الإمارات مع إدارة ترامب ومهَدت لاتفاقات أبراهام. كما حذَّر الأزهر في ذلك الوقت من محاولات التطبيع مع "الاحتلال" قبل قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
كما أنه رغم عدم صدور بيان إدانة من الأزهر للتطبيع الإماراتي في أغسطس/آب 2020، فإن تقارير أفادت بأن هذا التطبيع زاد الهوة التي كانت قد بدأت تنشأ أصلاً بين شيخ الأزهر أحمد الطيب، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وسط حديث عن أزمة مكتومة بين الطرفين، بعد إصدار الأزهر بياناً داعماً لحقوق الفلسطينيين.
وقالت مصادر في ذلك الوقت، لصحيفة لـ"الأخبار" اللبنانية، إن شيخ الأزهر لا يرغب في أي استغلال إماراتي لاسمه ولمكانته الدينية، في التطبيع.
ووفق هذه المصادر، فإن أواصر الوُد بين الطيب وأبوظبي انقطعت بالفعل قبل شهور من اتفاق أبراهام، فضلاً عن رفض شيخ الأزهر تلبية دعوة وُجِّهت إليه، لزيارة العاصمة الإماراتية.
ونُظر إلى بيان الأزهر، الذي صدر في ذلك الوقت، والداعي إلى إحياء القضية الفلسطينية والتعريف بها دوماً، ومواجهة الحملات الممنهجة الهادفة إلى طمس القضية، بأنه الأجرأ في مواجهة أبوظبي، التي ضغطت على القاهرة في ذلك الوقت؛ لبدء مسار تطبيع شعبي واسع.
وحسب هذه التقارير فإن مما زاد هوة الخلاف بين الطرفين، رفض الطيب المشاركة في الحملة السعودية الإماراتية على جماعة الإخوان المسلمين، أو تأييد بيان هيئة كبار العلماء السعودية ضد الجماعة، الذي اعتبرها "إرهابية"، حيث قيل إن شيخ الأزهر الذي يترأس مجلس حكماء المسلمين، رفض الزج باسمه، أو اسم الأزهر في معركة سياسية بالأساس بين الجماعة وأنظمة الحكم في مصر والسعودية والإمارات.
وأفادت صحيفة "الأخبار" اللبنانية في ذلك الوقت، بأنه فضلاً عن شعور شيخ الأزهر بأن أبوظبي لم تعد تدعمه في مواجهة السيسي كما كانت من قبل، وتحديداً في معركته الأخيرة بعد رفض الدولة تجديد تولّي الدكتور حسن الشافعي رئاسة "مجمع اللغة العربية"، وهو مقرّب من الإمام، رغم أن نتيجة الانتخابات كانت لمصلحته مرَّتين، وأن شيخ الأزهر يقر بأن الإمارات بالفعل حَمَته من العزل، لكنه يرى أن ما قدّمه إلى الإمارات حتى الآن كافٍ، وأنه لا يريد أن يتورّط معها أكثر من ذلك حتى لو كَلّفه الأمر العزل".
ما وراء تأخُّر انتقاد شيخ الأزهر للدعوة إلى الديانة الإبراهيمية؟
تبدو مهاجمة شيخ الأزهر للمبادرة الإبراهيمية في هذا التوقيت أمراً لافتاً، لسببين:
الأول: أن الإمارات أقرب حليف يحتاجه شيخ الأزهر في مواجهاته المختلفة مع السيسي.
الثاني: أن مبادرة الديانة الإبراهيمية مرَّت عليها شهور إن لم يكن سنوات، فما الداعي إلى مهاجمتها الآن.
واللافت أيضاً أن هجوم شيخ الأزهر على مبادرة الديانة الإبراهيمية، صاحبه هجوم حاد من الإعلام المصري على هذه المبادرة وإن خلا هذا الهجوم من الإشارة إلى دور الإمارات فيها، حتى إن الكاتب الصحفي بجريدة "الأخبار" المصرية (حكومية) سعيد الخولي، قد كتب في مقال له عن الموضوع تحت عنوان "إنهم يدعون لدين جديد"، وذلك في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي.
وبالعودة إلى شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نرصد موقفاً مُهماً في العلاقة بين السيسي والطيب.
إذ أهدى الطيب إلى السيسي نسخة من مصحف الأزهر الشريف، استغرق العمل فيها قرابة عشرين عاماً، واستُخدمت فيه الزخارف الهندسية المستوحاة من المخطوطات القرآنية النفيسة، التي ترجع للحقبتين الإيلخانية والمملوكية.
لا يُعلم هل هجوم شيخ الأزهر على مبادرة الديانة الإبراهيمية جزء من حملة مصرية مُنسقة على هذه المبادرة الإماراتية فقط، أم جزء من مناوشات سياسية أكبر تجرى بين الحليفين، مثلما حدث من قبلُ في أزمة مصر مع إثيوبيا التي كُشف فيها عن تقديم الإمارات دعماً لأديس أبابا في ذورة خلافات الأخيرة مع القاهرة.
أم أن شيخ الأزهر قرر النأي بنفسه عن الإمارات وسعى إلى تحسين علاقته مع السيسي بعد أن شعر بتمادي الإمارات في محاولتها التلاعب بعلاقته بها لصالح أهدافها السياسية بطريقة تستلزم منه الرد.
وقد يكون هذا التغيُّر في موقف شيخ الأزهر من الإمارات قد بدأ مع التطبيع الإماراتي مع إسرائيل وقبله صفقة القرن، وهما الموقفان اللذين انتقدهما شيخ الأزهر ضمناً، كما سبقت الإشارة.
ولكن هجوم الإعلام المصري المنسق على مبادرة الديانة الإبراهيمية يشير إلى أن هذا موقف الدولة المصرية وليس شيخ الأزهر فقط.
طبيعة العلاقة المركبة بين الطرفين.. تحالف أم تبعية؟
تحاول الإمارات منح نفسها مكانة دينية رفيعة في عالم اليوم ضمن حملة علاقات عامة للبلاد، ولكن يرى المسؤولون الإماراتيون أن "مشكلتهم أنهم يمتلكون الإدارة والفكر والمال، لكن لا يملكون لا الحَرَم مثل السعودية ولا الأزهر مثل مصر"، بحسب ما نقله موقع "رصيف 22" عن مسؤول إماراتي في جلسة مغلقة.
كما أن الإمارات تحتفي بالطيب، في ضوء جذور الشيخ الصوفية التي تتلاقى مع توجهات الإمارات، لإعلاء الصوفية في مواجهة "الإخوان" والسلفيين.
لذا في مقابل هذا الدعم الإماراتي الذي كان مُفيداً بالأخص في مواجهة السيسي، وأيضاً في جهود الطيب لتطوير الأزهر، أعطى شيخ الأزهر الإمارات شرعية تريد ادعاءها بأنها أحد ممثلي الإسلام المعتدل أو حتى أبرزهم.
وظهر ذلك واضحاً في توقيع وثيقة "الأخوة الإنسانية" بين بابا الفاتيكان والطيب في أبوظبي، وتأسيس مجلس حكماء المسلمين.
ولكن كما ظهر فيما يتعلق بالديانة الإبراهيمية والتطبيع وقبلهما مؤتمر الشيشان، لم يعطِ الطيب الإمارات شيكاً على بياض، إذ تُظهر هذه المواقف استقلالية الرجل المغلَّفة بقدر كبير من الدبلوماسية التي قد تلجأ أحياناً إلى رد حاسم وسريع كما حدث تجاه مؤتمر الشيشان الذي قد تكون سرعة الرد فيه مدفوعة من التوجس والغضب السعوديين من استثناء السلفيين من أهل السنة.
ولكن أحياناً هذه الدبلوماسية تلجأ إلى النقد الضمني، كما في حالة التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، أو النقد المتأخر دون تسمية أطراف بعينها، كما هو الحال مع الديانة الإبراهيمية، حيث لم يسمِّ الطيب الإمارات في انتقاده للمبادرة، ثم سارع بعد هذا الانتقاد الحاد للاتصال بولي عهد أبوظبي لتهنئته باستضافة الإمارات لقمة المناخ القادمة.
ويمكن القول إن الظاهر حتى الآن، أن الرجل يحاول أن يلعب بالسياسة؛ لحماية استقلال المؤسسة الدينية عن السياسيين، فلقد تحالف مع الإمارات لكي يدعم استقلالية منصبه كشيخ للأزهر أمام سلطة السيسي المطلقة. والآن يبدو أنه يحسن علاقته مع السيسي وينأى بنفسه عن الإمارات؛ بل وصل الأمر به إلى مهاجمة آخر موضاتها الدينية، وهو هجوم حتى لو جاء متأخراً فإنه كفيل بوأد المبادرة، ووصمها بأنها محاولة لابتداع دين جديد غير الإسلام.
وحتى في علاقته مع الغرب، يؤكد الرجل التعايش والقيم ولكنه ينتقد مواقف الغرب وازدواجية معاييره، ودعمه لإسرائيل، كما كان له موقف قوي من تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الإسلام، ويرفض التجاوب مع دعوات تكفير داعش رغم تجريمه للتنظيم المتطرف.
يحاول شيخ الأزهر أن يفعل ما هو طبيعي في وقت غير طبيعي، إنه يريد أن تكون مؤسسة الأزهر مستقلة مثل المؤسسات الدينية في الغرب والمؤسسة الدينية الشيعية في العراق، بحيث يمكن أن تختلف مع الحكومات والدول القوية ولكن ليس بالضرورة أن تعاديها، بل يمكن أن تتعاون معها أو حتى تتلقى دعمها دون أن تكون تابعة لها.
ويبدو هذا أمراً شبه مستحيل في وقت فقدت فيه كل المؤسسات، سواء كانت قضائية أو دينية أو حقوقية، في العالم العربي استقلالها الذي كان محدوداً أصلاً قبل الربيع العربي، الذي أدت هزيمته إلى هيمنة مطلقة للأنظمة على المجتمعات العربية.