تصاعد التوتر في أزمة المهاجرين بين فرنسا وبريطانيا، وسط اتهامات متبادلة بالابتزاز وتساؤلات حول ما إذا كانت الحكومتان تصعدان لأسباب انتخابية داخلية، وهو أمر تكرر في الخلاف حول الصيد بين البلدين قبل أسابيع.
وعادت أزمة المهاجرين بين فرنسا وبريطانيا إلى الواجهة بعد أن بلغ عدد عابري المانش غير القانونيين مستوى قياسياً يوم الخميس الماضي، عندما تمكن 1185 مهاجراً من الوصول إلى الأراضي البريطانية، وفقاً لوزارة الداخلية البريطانية.
هذا العدد المتزايد من القوارب مُحرج بشكل متزايد لوزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل، التي اكتسبت سمعة؛ لكونها صارمة فيما يتعلق بالهجرة والقانون والنظام.
وقال وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين، لوسائل إعلام فرنسية، إن فرنسا "لا تحتاج إلى درس من البريطانيين" بشأن الخلاف بين باريس ولندن فيما يتعلق بالتعامل مع المهاجرين الذين يحاولون عبور القناة للوصول إلى الشواطئ البريطانية.
وقال دارمانين لشبكة CNews: "يجب على البريطانيين التوقف عن استخدامنا كأكياس ملاكمة لسياساتهم الداخلية"، وستلتقي الوزيرة الفرنسية وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل في باريس".
وقال دارمانين: "سأخبر نظيرتي البريطانية بأن المنظمات غير الحكومية التي تمنع الشرطة من العمل هي في الغالب منظمات غير حكومية بريطانية"، "مع مواطنين بريطانيين يقومون بممارسة التحريض على الأراضي الفرنسية".
جادل الوزير الفرنسي بأنَّ تدفق الأشخاص الذين يخاطرون بحياتهم للوصول إلى المملكة المتحدة له علاقة بسوق العمل البريطاني، "الذي يعمل بالمملكة المتحدة في الغالب بفضل جيش احتياطي، كما يقول ماركس، من العمال غير النظاميين الذين يمكن توظيفهم بتكلفة منخفضة".
وقال رئاسة الحكومة البريطانية إن المملكة المتحدة تواصل اعتبار فرنسا "حليفاً وثيقاً" وتريد "العمل بشكل بنّاء" لمعالجة معابر القناة.
معاناة كبيرة في معسكرات المهاجرين بفرنسا
وفقاً لتقرير صدر مؤخراً عن منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فإن الشرطة الفرنسية تنفذ عمليات لطرد المهاجرين في ميناء كاليه، ولكن في الواقع لم تمنع عمليات الإجلاء الناس من السفر إلى الحدود البريطانية الفرنسية؛ على أمل الوصول بطريقة ما إلى بريطانيا. في الواقع، تزايدت أعداد اللاجئين بشمال فرنسا في الأشهر الأخيرة.
حياة النازحين في كاليه وما حولها متعبة ومرهقة وخطيرة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Independent البريطانية.
تقتحم الشرطة الفرنسية المواقع التي من المعروف أن اللاجئين يتجمعون فيها. يتم تدمير أي خيام أو أقمشة مشمعة في المنطقة، بينما غالباً ما تتم مصادرة أكياس النوم والبطانيات وغيرها من المتعلقات. أولئك الذين دُمرت ملاجئهم يُتركون أكثر عرضة للعوامل الجوية، ويتجمدون.
مع قليل من الدعم من الجهات الحكومية، تعمل حفنة من الجمعيات الخيرية على مراقبة عنف الشرطة الفرنسية ولتوفير الخدمات والإمدادات الأساسية للاجئين في شمال فرنسا. توزع منظمة المعونة الجماعية (Collective Aid) مئات الملابس كل يوم، بينما تقوم مجموعة كاليه الغذائية بتزويد السلع المجففة ومئات اللترات من الماء كل أسبوع، وأولئك الذين دُمرت ملاجئهم يُتركون أكثر عرضة للعوامل الجوية.
هذه الإجراءات لا تفعل شيئاً لمنع الناس من القدوم إلى كاليه أو محاولة العبور إلى المملكة المتحدة، فهي تعمل فقط على جعل الظروف أسوأ ودفع مجتمع ضعيف بشكل لا يصدَّق، إلى الهامش.
تحث الجمعيات الخيرية على الأرض السلطات على وقف عمليات الإجلاء ودعم حقوق اللاجئين في فرنسا، كما تتعرض الحكومة البريطانية لانتقادات؛ لتجاهلها هذا الوضع.
يتم العبور بشكل عام في ظروف شديدة الخطورة على متن قوارب صغيرة، ويمثل المرحلة الأخيرة من الرحلة للأشخاص الذين سافروا آلاف الأميال من دول، ضمنها أفغانستان وسوريا، مروراً بأوروبا ثم عبر البحر إلى المملكة المتحدة.
عادةً ما يهدفون إلى العبور في أقصر نقطة، من الساحل الفرنسي الشمالي حول كاليه باتجاه دوفر والساحل الجنوبي لإنجلترا، على بُعد 33 كيلومتراً فقط.
هذه قضية طويلة الأمد، وقد جربت فرنسا والمملكة المتحدة على مر السنين مقاربات مشتركة مختلفة لمعالجة المشكلة.
جذور أزمة المهاجرين بين فرنسا وبريطانيا
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وقَّعت المملكة المتحدة وفرنسا اتفاقاً لمنع عبور المهاجرين عبر القناة الإنجليزية.
وفي يوليو/تموز 2021، تعهدت بريطانيا بتقديم 62.7 مليون يورو للفترة من 2021 إلى 2022؛ لمساعدة فرنسا على وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين عبر القناة.
وشمل ذلك مضاعفة دوريات الشرطة على طول أجزاء معينة من الساحل الفرنسي.
ومع ذلك، فقد نُقل عن حكومة المملكة المتحدة منذ ذلك الحين قولها إنها قد تقوم بتعليق هذه الأموال.
عبَر 828 شخصاً من فرنسا في يوم واحد بأواخر أغسطس/آب، حيث استغل المهربون الطقس الملائم في أواخر الصيف.
يثبت العدد المتزايد من القوارب أنه محرج بشكل متزايد لوزير الداخلية البريطانية بريتي باتيل، التي اكتسبت سمعة لكونها صارمة فيما يتعلق بالهجرة والقانون والنظام.
غضِب مسؤولون فرنسيون من تلميحات بأن بريطانيا قد تحجب بعض من الـ62.7 مليون يورو (74.2 مليون دولار) التي وعدت بها في وقت سابق هذا العام لتمويل أعمال الشرطة والدوريات في شمال فرنسا، ما لم يتم بذل المزيد لمنع عبور المهاجرين.
وفقاً لتقارير إعلامية بريطانية، هددت وزيرة الداخلية البريطانية، في سبتمبر/أيلول، بحجب الأموال، في ضوء الأعداد القياسية للمهاجرين الوافدين من فرنسا.
وسبق أن اتهم وزير الداخلية الفرنسي نظيرته البريطانية بالتخطيط لـ"ابتزاز مالي" وانتهاك القانون البحري الدولي، في خلاف دبلوماسي متعمق بشأن جهود منع المهاجرين من عبور القنال البحري بالقوارب.
وقال مصدر بوزارة الداخلية الفرنسية إنه "لم تكن هناك أي مسألة تتعلق بجعل المدفوعات مشروطة بأهداف رقمية لمنع الهجرة".
كما أثار غضبَ باريس ما أفادت به الحكومة البريطانية من خطط لبدء إعادة القوارب التي تحمل مهاجرين قبل عبورهم إلى مياه المملكة المتحدة في القنال الإنجليزي.
وقال جيرالد دارمانين إن خطط المملكة المتحدة لإعادة قوارب الأشخاص المعرضين للخطر إلى المياه الفرنسية لن تقبلها حكومته.
وافقت وزيرة الداخلية البريطانية التي اشتُهرت بكونه صارمة بشأن الهجرة والجريمة، على الاستراتيجية المتشددة الجديدة، حسب تقارير صحفية.
وقد حذَّر دارمانين سابقاً في رسالة، من أن التكتيكات الجديدة "ستخاطر بالتأثير السلبي على تعاوننا".
وكتب في الرسالة المؤرخة بـ6 سبتمبر/أيلول 2021: "حماية الأرواح البشرية في البحر لها الأولوية على اعتبارات الجنسية والوضع وسياسة الهجرة، من منطلق الاحترام الصارم للقانون البحري الدولي الذي يحكم البحث والإنقاذ في البحر".
وقال ستيف فالديز سيموندز، مدير حقوق اللاجئين والمهاجرين بمنظمة العفو الدولية في المملكة المتحدة: "إن خطة الحكومة ضد اللاجئين لا معنى لها وخطيرة، ومن شبه المؤكد أنها غير قانونية".
وأضاف سيموندز: "اعتراض السفن في القنال الإنجليزي يمثل مخاطرة كبيرة بشكل لا يصدَّق، ودفع الناس إلى الوراء سيُعرِّض حياتهم للخطر، وهو ما يتعارض تماماً مع الواجب القانوني المتمثل في الإنقاذ بالبحر".
ورفض المتحدث الرسمي باسم رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، مزاعم الابتزاز المالي، وقال إن " مسؤولي بلاده قدموا لنظرائهم الفرنسيين مبالغ مالية كبيرة في السابق، واتفقوا على اتفاقية ثنائية أخرى مدعومة بملايين الجنيهات الإسترلينية".
ماكرون يعاقب بريطانيا
ومع تعثر المفاوضات بين الجانبين، تصاعدت أزمة المهاجرين بين فرنسا وبريطانيا مع وصول أعداد اللاجئين لرقم قياسي.
باختصار، تعتقد المملكة المتحدة أن فرنسا لا تفعل ما يكفي لوقف العبور، بينما تقول فرنسا إن المملكة المتحدة قد حنثت بوعدها بتمويل تدابير مكافحة الاتجار بالبشر.
وقال وزير الداخلية الفرنسي إن فرنسا أوقفت خلال الأشهر الثلاثة الماضية 65% من محاولات عبور المهاجرين غير الشرعيين، ارتفاعاً من 50%.
وأضاف أن الجانب الفرنسي استأجر مزيداً من رجال الدرك واشترى مزيداً من المعدات التكنولوجية؛ وبالتالي "نجح في تقليل ضغط الهجرة بشكل كبير".
قال دارمانين: "احتفظت فرنسا بالحدود لصالح أصدقائنا البريطانيين لأكثر من 20 عاماً". وقال إن فرنسا "حليف لبريطانيا"، لكنها "ليست تابعة لها".
الساحل الشمالي مجرد جانب واحد من جوانب حراسة الحدود لفرنسا، التي يتعين عليها أيضاً التعامل مع عبور المهاجرين على ساحلها المتوسطي وعلى اليابسة.
ويعتقد وزراء بريطانيون أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يستغل الأزمة "لمعاقبة بريطانيا على خروجها من الاتحاد الأوروبي"، حسبما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
تصعيد انتخابي، وحلفاء ماكرون يستغلون الأزمة لمهاجمة منافسه على الرئاسة
تبدو الانتخابات كلمة السر في أزمة المهاجرين بين فرنسا وبريطانيا.
فلقد كانت "استعادة السيطرة" على الحدود البريطانية جزءاً أساسياً من الحملة لإخراج البلاد من الاتحاد الأوروبي في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
كما أن هناك شكوكاً بأن التصعيد المتوالي مع البريطانيين محاولة لتقوية موقف ماكرون في الانتخابات الرئاسية المقررة العام القادم 2022.
وقال وزير الداخلية: "نحن بحاجة إلى التفاوض حول معاهدة حول هذا الأمر، لأن السيد ميشيل بارنييه لم يفعل ذلك عندما تفاوض بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يلزمنا بقضايا الهجرة"، مضيفاً أن فرنسا ستدافع عن المشروع عندما تتولى مهمة رئاسة الاتحاد الأوروبي الدورية في يناير/كانون الثاني 2022.
بارنييه، الذي يرشح نفسه الآن للرئاسة في، كان مفاوض الاتحاد الأوروبي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد خلال المحادثات المشحونة حول صفقة لتنظيم العلاقات بين أوروبا والمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وسبق أن ألقى كريستوف كاستانير، رئيس مجموعة تابعة لماكرون في الجمعية الوطنية الفرنسية، باللوم على بارنييه في مشكلات اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في ظل الخلاف حول تصاريح الصيد بين البلدين.
ويأتي ذلك في وقت يحقق فيه بارنييه، الذي يخوض الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين المحافظين، ارتفاعاً في استطلاعات الرأي وأصبح منافساً قوياً لماكرون.
ويتبنى بارنييه سياسة متشددة ضد الهجرة، حيث يقترح سن قانون يقضي بوقف الهجرة، ستحظر فرنسا بموجبه الهجرة من خارج الاتحاد الأوروبي لمدة تصل إلى خمس سنوات.
وقال المسؤول السابق بالمفوضية الأوروبية إنه سيعلّق سياسة الهجرة و"يعيد سلطة الدولة الفرنسية" إذا تم انتخابه.
من يبتز الآخر؟
المفارقة هنا أن أزمة المهاجرين بين فرنسا وبريطانيا تبدو تكراراً لأزمة روسيا البيضاء مع بولندا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك هناك أوجه تشابه مع مشكلات سابقة بين تركيا واليونان، والمغرب وإسبانيا.
ففرنسا تتهم بريطانيا بعدم الوفاء بالتزاماتها المالية، فيما يتعلق بمسألة الهجرة إضافة إلى إعادة اللاجئين بالقوة، وهي اتهامات مشابهة لاتهامات اليونان لتركيا، ولكن اللافت هنا في الحالة الفرنسية أن هناك تكراراً في وتيرة الأزمات بين فرنسا وبريطانيا، وهي أزمات تبدو فيها باريس هي صاحبة اليد العليا، والأعلى صوتاً، والأكثر تكراراً للتهديدات، وضمن ذلك الوصول إلى درجة التهديد بقطع الكهرباء عن بريطانيا.
وهو ما يؤشر بشكل كبير إلى سياسات ماكرون في إشعال الأزمات مع بريطانيا وقبلها الجزائر وتركيا؛ لتعزيز موقفه الانتخابي، ليبدو أنه ليس هناك فارق كبير بين ماكرون ورئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو الذي تتهمه الدول الأوروبية بابتزاز الاتحاد الأوروبي عبر تشجيع الهجرة غير الشرعية من دول الشرق الأوسط.