كان سركوت عصمت يشعر بالبرد والجوع والخوف، وهو عالق بين القوات البولندية والبيلاروسية على جانبي الحدود الشرقية لـ الاتحاد الأوروبي. وسركوت، سائق التاكسي العراقي البالغ من العمر 19 عاماً، واحد من آلاف الأشخاص في الشرق الأوسط الذين حاولوا العبور إلى الاتحاد الأوروبي في الأشهر الأخيرة عبر باب خلفي فتحته بيلاروسيا.
يقول عصمت لصحيفة The Washington Post الأمريكية، إنه كان قد غادر منزله في بلدة دهوك بإقليم كردستان العراق قبل أسبوعين، بعد أن باع السيارة التي يعمل عليها. وقد دفع 2600 دولار لشركة سفر محلية مقابل حافلة تقلّه إلى تركيا، وإقامة في أحد فنادق إسطنبول، وتذكرة طيران إلى مينسك، وثلاث ليالٍ في فندق بالعاصمة البيلاروسية.
وكان يتمنى أن يدخل بولندا ويذهب منها إلى ألمانيا للانضمام إلى شقيقه الأكبر، سَروار، الذي تمكن من إتمام رحلة الهجرة بنجاح.
"أنا خائف وأريد العودة"
لكن أحلام عصمت تحطمت قريباً من الحدود البولندية. إذ أوقفته القوات البيلاروسية هو وآخرين في مجموعته، وقال إنهم ضربوهم واستولوا على أغراضهم، التي من بينها أمواله وهاتفه المحمول. وقد حوصرت المجموعة في غابة لعدة أيام، ولم يُسمح لها بدخول بولندا أو العودة إلى مينسك.
وقال في مقابلة عبر هاتف جوال مستعار: "أنا خائف وأريد العودة، لكنني لا أملك فلساً واحداً. ووضعنا مُزرٍ جداً هنا". وأضاف: "حين سافرت، قالوا لي إن الرحلة سهلة، ولن تستغرق سوى ثلاثة أيام لتصل إلى أوروبا". ولكن تبين أن هذا لم يكن صحيحاً.
لطالما كانت الوظائف والاستقرار في أوروبا إغراءً قوياً لكثيرين في دول الشرق الأوسط، الذين دمرتهم الحروب والشعور بالعجز. على أن الدخول القانوني لأوروبا أصبح شبه مستحيل، حيث شدد الاتحاد الأوروبي قيوده على الحدود في السنوات الأخيرة. وكل عام، يحاول عشرات الآلاف الدخول، ويشرعون في رحلات خطيرة، وأحياناً مُهلكة ومميتة، براً وبحراً.
وحالت هذه المخاطر دون إقدام آخرين على هذه الرحلة، إلى أن لاحت فرصة الدخول السهل إلى أوروبا مطلع هذا العام.
إذ عمد رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، الغاضب من فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على نظامه الاستبدادي بعد حملته الداخلية القاسية التي شنها على المعارضة، إلى تخفيف القيود الحدودية على المهاجرين المتجهين إلى الغرب. واتهمه مسؤولون في الاتحاد الأوروبي باستغلال المهاجرين، فيما أنكر لوكاشينكو ذلك وقال إن أوروبا تنتهك حقوقهم بحرمانهم من المرور الآمن إليها.
آلاف اللاجئين العراقيين والسوريين عالقون على عتبة الاتحاد الأوروبي
وسهّلت بيلاروسيا استخراج التأشيرات السياحية للعراقيين والسوريين وحتى غيرهم من الشرق الأوسط وإفريقيا. وهذا يعني أنه أصبح بإمكانهم الآن الوصول إلى أبواب أوروبا على متن طائرات مريحة إلى بيلاروسيا، والتسلل منها إلى بولندا وليتوانيا ولاتفيا، وجميعها دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي.
ويشرع الآلاف في هذه الرحلة منذ الصيف. وأدى ذلك في الأسابيع الأخيرة إلى تنامي المواجهات المتوترة على حدود بيلاروسيا ومشاهد لمهاجرين يائسين يتجمعون في الغابات وسط درجات حرارة شديدة الانخفاض. وأرسلت بولندا من جانبها شرطة مكافحة الشغب وجنوداً لدعم حرس الحدود. ووقع ما لا يقل عن ثماني حالات وفاة بين اللاجئين.
يقول ميكانيكي سيارات سوري يبلغ من العمر 44 عاماً، إنه لا يبالي بدوافع لوكاشينكو أو التقارير التي تتحدث عن المعاناة على حدود بيلاروسيا.
وهو عازم على السفر إلى بيلاروسيا مع ابنيه، 16 و17 عاماً، ثم التوجه إلى ألمانيا. ويأمل أن يتمكن هناك من العثور على عمل واستقدام زوجته وطفليه الأصغرين إليه.
وقال: "لا مستقبل هنا للشباب، سواء في التعليم أو الثقافة أو الحياة الاجتماعية"، وطلب عدم ذكر اسمه؛ خوفاً من أن يؤدي الإفصاح عنه إلى تعطيل خططه.
وقال إنه لا أمل على الإطلاق في أن يتحسن الوضع، ومن الأفضل له أن يخاطر الآن ولا يرى أبناءه في سوريا يتعذبون. وقال إن الوضع شديد السوء لدرجة أن ابنه الأكبر لا يستطيع حتى الحصول على الكتاب المدرسي المطلوب للصف العاشر في اللغة الإنجليزية.
وحين سمع بما يحدث في بيلاروسيا عبر الشبكات الاجتماعية، توجه إلى شركة سفر في دمشق تعرض صفقات شاملة مقابل 4000 دولار للشخص الواحد. وتقدم بطلب للحصول على التأشيرة واقترض المال لتوفير تكاليف السفر لنفسه وابنيه.
وقال الميكانيكي السوري إنه سيتوجه إلى بيلاروسيا فور حصوله على التأشيرة. ولن يردعه شيء إذا وصل لهذه المرحلة. وقال إنه مستعد للمحاولة أربع أو خمس مرات.
وأضاف للصحيفة الأمريكية: "هناك أشخاص نجحوا في الوصول من المرة الأولى، وآخرون من المرة الثانية وآخرون من المرة الثالثة، لكنهم وصلوا في النهاية. ولا بد لي من تأمين مستقبل أبنائي".
رحلة الإجبار على العودة
يقول كامِران حسان، وهو عراقي، إنه وعائلته المكونة من أربعة أفراد، أجبروا على العودة إلى وطنهم. وكانوا قد سافروا إلى بولندا ولكن أُلقي القبض عليهم. وبعد قضائهم ثلاثة أسابيع بمركز احتجاز، وُضعوا في حافلة مع عراقيين آخرين. وقيل لهم إنهم سيُنقلون إلى معسكر آخر في وارسو، لكنهم نُقلوا إلى المطار.
وقال حسان متحدثاً من محافظة السليمانية في إقليم كردستان بالعراق: "وضعونا بالقوة على الطائرة". وقال حسان إن أحد الرجال فقد وعيه حين علم بأمر ترحيله، "لأنه باع كل ما يملكه" ليسافر. وحمله مرافقون بولنديون على نقالة إلى الطائرة العائدة إلى العراق.
أما عن والدة سركوت عصمت، عادلة سليم، فبدا أن محنته في بيلاروسيا أكدت مخاوفها. وكانت قد ناشدته ألا يذهب.
وكان ابنها الأكبر سروار، البالغ من العمر 22 عاماً، قد سافر إلى بيلاروسيا منذ ثلاثة أشهر، ووصل إلى ألمانيا أوائل أكتوبر/تشرين الأول، بعد أن أمضى 10 أيام مختبئاً في غابة. وقالت إنه مصاب بمشكلات مزمنة في القلب، ويُعالَج بأحد مستشفيات ألمانيا، ولم تسمح له الأسرة بالرحيل إلا لأنه كان مريضاً ولم يتمكنوا من مساعدته بأي شكل في دهوك.
وقالت: "حاولنا إقناع سركوت بعدم الذهاب، لكنه أصر بشدة". ولا يزال سركوت مديناً بمبلغ 10 آلاف دولار على سيارة الأجرة التي باعها لدفع تكاليف الرحلة، وهو المبلغ الذي يتعيّن على والده، المقاتل في البيشمركة، سداده الآن من دخله الشهري البالغ قدره 1000 دولار تقريباً.
ويبدو الآن أن كل تلك الأموال قد ذهبت هباءً. وسُمح لسركوت، الخميس 11 نوفمبر/تشرين الثاني، بمغادرة الغابة والتوجه إلى مينسك استعداداً للعودة الى العراق.
وتقول والدته، وهي ربَّة منزل تبلغ من العمر 45 عاماً، إن كل ما تريده هو أن يكون ابنها في المنزل. وقالت: "يتصل بنا ويبكي قائلاً: أريد العودة إلى العراق. لا أريد شيئاً آخر سوى العودة؛ أشعر بالبرد والجوع".