لفتت تصريحات رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، باحتمال اختفاء مدن عالمية كبرى من بينها الإسكندرية، إلى مخاطر التغير المناخي على مصر، فما مدى حقيقة المخاطر التي تحدث عنها جونسون، وهل الإسكندرية معرضة حقاً للغرق؟
وخلال قمة المناخ العالمية بمدينة غلاسكو الأسكتلندية، أطلق جونسون تحذيراً صادماً، قال فيه: "استعدوا لفراق أحبابكم"، محذراً من اختفاء 3 مدن على مستوى العالم، من بينها الإسكندرية، وذلك في حال لم يتم اتخاذ إجراءات للحيلولة دون ارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض.
وفي أغسطس/آب الماضي، وصف تقرير أمميٌّ التغيرات المناخية في العالم بغير المسبوقة، محذراً من ارتفاع أسرع من المتوقع لدرجات الحرارة، سوف تستمر تداعياته آلاف السنين، وهو ما اعتبره الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بمثابة "إنذار أحمر" للعالم.
والواقع أن الإسكندرية قد تكون معرضة لخطر الغرق، من جراء ارتفاع منسوب مياه البحر بسبب ذوبان الجليد في القطبين جراء التغير المناخي، ولكنها ليست بالضرورة أكثر المناطق تعرضاً في مصر لخطر التغير المناخي.
مخاطر التغير المناخي على مصر تصل إلى ذروتها في هذه المناطق
في عام 2017، نشر موقع "بوابة الأهرام" الحكومي تقريراً بعنوان "5 مناطق مهددة بالغرق في الدلتا.. والري تبحث إنقاذها مع هيئات دولية".
وأوضح المهندس العربي محمد القشاوي، مدير الإدارة العامة لحماية الشواطئ بشرق الدلتا في ذلك الوقت، لـ"بوابة الأهرام"، أن المناطق التي سيتم توجيه المنحة لحمايتها من أخطار التغيرات المناخية، تتركز في 5 مناطق رئيسية هي: (المنطقة المنخفضة شمال الطريق الدولي الساحلي بين البرلس ورشيد بنطاق محافظة كفر الشيخ- المنطقة المنخفضة شرق وغرب ميناء دمياط- المنطقة المنخفضة غرب مدينة بورسعيد شرق وغرب قرية الديبة- غرب مصيف جمصة بمحافظة الدقهلية- غرب مصب فرع رشيد بمحافظة البحيرة.
يُظهر هذا أن الإسكندرية ليست أولى من المناطق المهددة بخطر الغرق، ولكن باقي مناطق الدلتا بصفة عامة، لاسيما شمالها وبالأخص شمالها الشرقي، هي الأكثر تعرضاً لهذا التحديد.
وتقع الإسكندرية على أطراف الدلتا وأحياناً تعتبر جزءاً من الدلتا وأحياناً تعتبر خارجها.
ويمكن اعتبار أطراف الإسكندرية جغرافياً من الدلتا ولكن المدينة نفسها خارج حدودها نسبياً، وهذا يجعل الإسكندرية أقل تعرضاً لخطر الغرق، من جراء ارتفاع مياه البحر مقارنة بشمال الدلتا، أي المسافة بين رشيد وبورسعيد، لأن الإسكندرية ليست واقعة على السهل الرسوبي للدلتا الذي تكوّن على مدار ملايين السنين من طمي نهر النيل، حيث يبلغ الارتفاع في الإسكندرية نحو 5 أمتار في المتوسط، بينما جزء كبير من الدلتا منسوب سطحها أقل من متر عن سطح البحر.
ولا يعني ذلك أن الإسكندرية غير معرّضة للخطر، فهي تقع ضمن المناطق الساحلية التي ترتفع أقل من 10 أمتار عن مستوى سطح البحر، ويقطنها نحو 680 مليون شخص (ما نسبته 10% من سكان العالم)، وهي المناطق الأكثر عرضة للتضرر من ظاهرة ارتفاع مستوى سطح البحر.
سلة غذاء مصر في خطر
الواقع أن مخاطر التغير المناخي على مصر، الأكبر والأكثر إلحاحاً، تتعرض لها دلتا النيل وتحديداً المنطقة الشمالية بين رشيد ودمياط وقد تمتد لبورسعيد.
وهي كارثة لمصر كلها، ليس فقط لأن الدلتا تضم أكثر من نصف سكان مصر، أي إنها أكبر أقاليم البلاد، ولكنها أيضاً تمثل سلة غذاء البلاد، فلقد وفرت الدلتا أغلب الموارد التي قامت عليه حضارة مصر منذ آلاف السنين والتي تتباهى بها القاهرة والأسكندرية.
وباستثناء بنغلاديش، فإنه لا يوجد دلتا في العالم أكثر أهمية للبلد الذي يضمها مثل دلتا النيل.
أكبر أقاليم مصر معرّض للاختفاء
ومؤخراً، أكد وزير الموارد المائية والري المصري محمد عبد العاطي، أن أكثر من ثلث دلتا نهر النيل معرض للغرق، بسبب التغيرات المناخية، نتيجة الارتفاع المتوقع لمستوى مياه البحار جراء ذوبان الجليد في القطبين.
وبحسب ما نقلته جريدة "الأهرام" الحكومية، أتت تصريحات الوزير المصري خلال جلسة فنية لعرض ومناقشة مشروع "التكيف مع التغيرات المناخية في الساحل الشمالي ودلتا النيل"، في ثاني أيام أسبوع القاهرة الرابع للمياه، والذي عُقد بالعاصمة المصرية خلال الفترة الممتدة بين 24 و28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعنوان "المياه والسكان والتغيرات العالمية.. التحديات والفرص".
كما شارك عالم الفضاء المصري بوكالة ناسا الأمريكية عصام حجي، في دراسة علمية أكدت أنّ غرق مناطق شمال الدلتا سيحدث في المستقبل، وسيكون أشد وطأة نتيجة التآكل المستمر للشواطئ، وهو ما أرجعه إلى التخطيط العمراني غير السليم.
وبحسب الدراسة المنشورة في 27 يناير/كانون الثاني الماضي، بمجلة "نيتشر ساينتفك ريبورتس" (Nature Scientific Reports)، فإن المناطق الساحلية للدلتا المكتظة بالسكان أكثر تعرضاً للهشاشة، بنسبة تصل إلى 70% بالمقارنة بأي منطقة ساحلية أخرى شرق حوض البحر المتوسط.
ولفت المتحدث باسم وزارة الري المصرية، محمد غانم، إلى أن منسوب سطح البحر سيستمر في الارتفاع حتى عام 2100، مشدداً على ضرورة اتخاذ خطوات استباقية؛ لتلافي الخسائر البشرية والاستثمارات، خاصةً أن ثلث مساحة الدلتا معرض للغرق، بسبب ارتفاع منسوب سطح البحر، مطالباً دول العالم بالتحرك في ملف التغيرات المناخية على المياه.
وفقاً لدراسة أجراها باحثو جامعة إنديانا الأمريكية، فإن "دلتات الأنهار تشغل 0.5% من سطح الأرض، ومع ذلك فهي تضم 4.5% من سكان العالم، أي ما مجموعه 339 مليون شخص؛ نظراً إلى أن دلتا الأنهار تتشكل عند المحيط عند مستوى سطح البحر أو تحته، فهي معرضة بشدة للعواصف، التي من المتوقع أن تحدث بشكل متكرر، بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر الناجم عن تغير المناخ والفيضانات الساحلية.
وسبق أن توقع رئيس هيئة الأرصاد المصرية السابق، أحمد عبد العال، تأثير التغيرات المناخية على شمال البلاد نتيجة ذوبان القطب الشمالي وارتفاع مستوى البحار والمحيطات. ورجّح عبد العال أن يحدث ذلك بعد 50 عاماً، في حال لم يتم اتخاذ إجراء من الدولة بردم مساحة من البحر المتوسط بمسافة تصل إلى 10 كيلومترات لحماية الدلتا.
بينما توقع الدكتور علاء النهري، نائب رئيس هيئة الاستشعار عن بعد وممثل مصر في لجنة الاستخدام السلمي للفضاء بالأمم المتحدة، أن الدلتا ستغرق بعد أقل من 90 عاماً، وذلك بسبب الخلل فى الاحتباس الحراري الذى أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة فوق سطح الأرض من 0.8 إلى 1.3 درجة مئوية كمتوسط عالمي، مما أدى إلى ذوبان كميات ضخمة من الجليد بالقطبين الشمالي والجنوبي، لوفقاً لما نقلته عنه جريدة أخبار اليوم عام 2017.
وذكر أنه لو ارتفع المنسوب 1 متر، فستفقد مصر 6 آلاف و900 كيلومتر مربع، أي الإسكندرية والمدن الساحلية، ولو ارتفع 1.5 متر فستفقد 8425.4 كيلومتر مربع، ولو ارتفع 2 متر فستفقد نصف دلتا النيل أي نحو 121 ألف كيلو متر مربع، مشيراً إلى أن هذا الهبوط كان يحدث تاريخياً ولكن يعوّضه الطمى المترسب من النيل، لكن وجود السد العالى أدى إلى ترسب الطمى في البحيرة أمامه الأمر الذي يتطلب عمل توربينات لتقليب هذا الطمي وضخه في النيل مرة أخرى، لكن هذا الحل عالي التكلفة.
الكارثة بدأت الفعل.. مصر تفقد جزءاً من أراضيها
وإلى جانب سيناريو الغرق، تواجه الدلتا مشكلة أخرى قد تكون أقرب زمنياً، تتعلق بتوقف ترسبات الطمي بعد بناء السد العالي، وتراجع جودة المياه الجوفية، من جراء التلوث، وهو أمر قد تزداد خطورته إذا نقص النيل من جراء سد النهضة الإثيوبي.
وتؤكد التقارير العلمية حدوث حالة تسرب بطيئة لمياه البحر المتوسط إلى أراضي الدلتا المنخفضة بطبيعتها عن سطح البحر، وتتمثل خطورة ذلك في تشبع نحو 60% من تلك الأراضي الخصبة بالأملاح، ما يجعلها غير صالحة للزراعة، والأزمة هنا أن تلك المنطقة تنتج نحو ثلثي احتياجات مصر من الغذاء.
وذكر المهندس عاشور راغب عبد الكريم، رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة لحماية الشواطئ في وزارة الري والموارد المائية بمصر، أن مصر فقدت بالفعل نحو 69 كيلومتراً من دلتاها في فرع دمياط، حيث تراجع الشاطئ بمسافة كيلومترين وستمئة متر. كما تراجع الشاطئ عند فرع رشيد بمقدار أربعة كيلومترات وثمانمئة متر.
وذكر الدكتور علاء النهري أن هذا الفقدان في الشواطئ بالمنطقتين حدث نتيجة لارتفاع منسوب البحر 23 سم، وكذلك من فعل النحر نتيجة شدة حركة الأمواج التي تزايدت حدتها نتيجة للتغيرات المناخية.
سور مصر العظيم
قامت هيئة حماية الشواطئ في مصر بعمل مصدات للميناء بحيث ألا تسبب المياه في نحر الشواطئ وتدخل على المدن، وفقاً لما ذكره الدكتور شاكر أبو المعاطي أستاذ المناخ رئيس قسم الأرصاد الجوية بالمعمل المركزي للمناخ الزراعي.
من جانبه، قال المتحدث باسم وزارة الري المصرية محمد غانم، تعليقاً على تصريحات جونسون، إن مصر بدأت في تدشين مشروعات حماية الشواطئ ومنها مدينة الإسكندرية، مشيراً إلى تنفيذ 120 كيلومتراً، والعمل على تنفيذ 110 كيلومترات أخرى؛ لحمايتها من التغيرات المناخية.
وأكد غانم، في مداخلة هاتفية مع قناة "صدى البلد"، الثلاثاء، أن مصر تعلم حجم هذه التغيرات، مضيفاً أن السيول في مصر أصبحت أكثر خطراً عن السابق، وأن منطقة شمال الدلتا هي الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية، مشيراً إلى أنه تم إعداد ألف منشأة للحماية من أخطار السيول بالمحافظات؛ للمساعدة في تفادي الكوارث، وذلك من خلال إنشاء سدود وبحيرات صناعية، وتنظيف مخرات المياه.
وقبل نحو عقدين نفذت الحكومة المصرية مشروعاً صخماً لبناء حواجز أمواج داخل البحر؛ لمنع تآكل شاطئ منتجع رأس البر في محافظة دمياط، مع مشروعات أخرى مصاحبة لحماية هذا الشاطئ الذي كان يتعرض لعملية نحر كبيرة، وقد حقق المشروع نجاحاً كبيراً وأوقف التآكل إلى حد كبير، بل زاد مساحة الشاطئ وأصبح أكثر قابلية للاستخدام السياحي، مما رفع قيمة الأراضي في هذا المنتجع، حسبما قال مصدر مطلع من محافظة دمياط لـ"عربي بوست".
وبالطبع هناك تجربة يجب الاستفادة منها لهولندا المعروفة رسمياً باسم مملكة الأراضي المنخفضة والتي لم تكتف بإقامة حواجز للأمواج لمنع توغل البحر على أراضيها، بل أيضاً ردمت منه أجزاء وجعلت منها أراضي زراعية ومراعي خصبة، وهي تجربة جدير بمصر أن تحاول الاستفادة منها ولا تنتظر من العالم أن يصلح في بضعة أعوام مناخاً أفسده عبر قرون طويلة.