كان التوصل إلى لقاحات كورونا في زمن قياسي أحد أهم الانتصارات العلمية في تاريخ البشرية، فالتكنولوجيا المستخدمة تعتمد على جزيءٍ من الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، فما قصتها؟ ولماذا تمثل أملاً لمرضى السرطان والإيدز؟
فبعد تفشي فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية أواخر عام 2019 وتحوُّله إلى جائحة عالمية منذ مارس/آذار 2020، تحوَّل الوباء إلى أخطر أزمة صحية يواجهها البشر منذ أكثر من قرن.
ثم جاء الكشف عن توصل شركة بيونتيك الألمانية، بالتعاون مع فايزر الأمريكية، إلى لقاح كورونا، بعد أقل من عام واحد على تفشي الوباء، بمثابة انتصار علمي غير مسبوق، إذ كان التوصل إلى لقاحات يستغرق عشرات السنين على الأقل. وكشفت شركات أخرى مثل موديرنا الأمريكية وأسترازينيكا البريطانية وسبوتنيك الروسية وسينوفارم الصينية عن لقاحات كورونا، وجميعها أثبتت فعالية كبيرة في الحد من تفشي الفيروس القاتل.
ماذا تعني تقنية الحمض النووي الريبوزي؟
وتناولت صحيفة The Guardian البريطانية هذا الاختراق العلمي الهام في تقرير لها بعنوان "الإنفلونزا والسرطان والإيدز: بعد نجاح لقاحات كوفيد.. ما التالي في لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال؟"، رصد قصة النجاح الأبرز في زمن الوباء.
قدمت التكنولوجيا غير المُثبَتة لقاحات موديرنا وفايزر/بيونتيك في وقتٍ قياسي، مِمَّا ساعَدَ على محاصرة تفشي فيروس كوفيد-19. إذ تعتمد اللقاحات على جزيءٍ من الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، وهو الجزيء الذي يوجِّه خلايانا إلى مصانع للقاحات حسب الطلب، ويضخُّ أيَّ بروتينٍ نريد أن تتعلَّم أجهزة مناعتنا التعرُّف عليه وتدميره.
وفي فترة ما قبل الجائحة، كان يُنظَر إلى هذه التكنولوجيا بعين الشك، فهي تمثِّل مفهوماً ذكياً، لكنه ليس مضموناً. أما الآن، فهناك ثقةٌ متزايدة بأن لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال يمكن أن تكون لها تطبيقاتٌ بعيدة المدى في معالجة كثير من الأمراض؛ من الإنفلونزا إلى الملاريا.
وبحسب موقع الهيئة الأمريكية للسيطرة على الأمراض ومنعها، تقوم فلسفة الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) على طريقة عمل مختلفة عن اللقاحات التقليدية. فمهمة اللقاح هي تحفيز جهاز المناعة لدى الإنسان من خلال حقن الجسم بنسخة ضعيفة أو ميتة من الفيروس، لكن تلك ليست طريقة الحمض النووي الريبوزي المرسال.
تقوم التقنية على استخدام لقاح يتم تخليقه في المعمل، مهمته تعليم خلايا الجسم كيف تقوم بتصنيع بروتين- أو حتى جزء من بروتين- يتسبب في تحفيز استجابة مناعية داخل أجسامنا. وتؤدي تلك الاستجابة المناعية إلى إنتاج أجسام مضادة تحمينا من العدوى في حالة دخول الفيروس الحقيقي إليها.
وأدى النجاح الهائل لتلك التكنولوجيا، من خلال فعالية لقاحات كورونا في الحد من تفشي الفيروس وفتح أبواب الأمل في قدرة البشرية على محاصرة الوباء أخيراً، إلى توجُّه العلماء وخبراء الأوبئة نحو إجراء مزيد من الأبحاث لتطبيقها على فيروسات أخرى كالإنفلونزا والسرطان ومرض نقص المناعة الإيدز.
لقاحات الإنفلونزا
يشارك علماء الإنفلونزا، في فبراير/شباط من كلِّ عام، في طقوسٍ سنوية، حيث يتجادلون في اجتماع منظمة الصحة العالمية حول سلالات الإنفلونزا التي ستهيمن في الشتاء المقبل.
وهناك أربعة فيروسات إنفلونزا دارجة؛ كلٌّ منها يتطوَّر بسرعة بحيث تفقد لقاحات العام السابق فاعليتها. ويحتاج المُصنِّعون إلى ستة أشهر على الأقل لإنتاج لقاحات جديدة، وهي عمليةٌ شاقة تنطوي على إنماء فيروس ضعيف داخل ملايين من بيض الدجاج.
وعندما تُستهدَف توقُّعات الإنفلونزا، يمكن أن تكون اللقاحات فعَّالة بنسبة 60%، ولكن عدم التطابق بين اللقاحات والسلالات المنتشرة قد يؤدِّي إلى فاعليةٍ منخفضة تصل إلى 10%.
يتمثَّل المرجع الرئيسي لأبحاث الإنفلونزا في لقاحٍ عالمي يعمل عبر جميع السلالات الأربع، ويستمر في العمل على تجسُّدات هذه السلالات في المستقبل أثناء تغيير جينوماتها بمرور الوقت. يحتاج مثل هذا اللقاح إلى استهداف بروتين الإنفلونزا الأساسي، الذي لا يتغيَّر كثيراً من سلالةٍ إلى أخرى. لكن أنظمتنا المناعية لا تستجيب بقوةٍ لهذا الجزء من الفيروس، ومن ثم ظلَّ الهدف بعيد المنال لعقودٍ من الزمن.
ومع ذلك، فإن إنتاج الحمض النووي الريبوزي المرسال سريعٌ وسهلٌ جداً بحيث يمكن تصميم اللقاحات لضرب العديد من المواقع في الفيروسات في وقتٍ واحد. وقال نوربرت باردي، عالم الأحياء الدقيقة بجامعة بنسلفانيا، لـ"الغارديان": "من المُرجَّح أن يكون مثل هذا اللقاح قادراً على توليد استجابةٍ وقائية على نطاقٍ واسع". ويعمل فريق باردي على لقاحٍ مُرشَّح يستخدم نحو 12 قطعةً من الحمض النووي الريبوزي المرسال، وهو مُصمَّمٌ للعمل عبر العديد من سلالات الإنفلونزا. ويأمل الفريق بدء التجارب البشرية في عام 2023.
ماذا عن السرطان والملاريا؟
يمنع لقاح فيروس الورم الحليمي البشري، الذي يقي من الفيروس الذي يسبِّب معظم سرطانات عنق الرحم، الآلاف من حالات الإصابة بالسرطان بالفعل كلَّ عام. ويأمل العلماء في المستقبل إمكانية استخدام لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال للتطعيم ضد السرطان عن طريق تعليم الجهاز المناعي التعرُّف على الطفرات قبل حدوثها، وهو نهجٌ علاجيٌّ جديدٌ تماماً.
وقال البروفيسور هربرت كيم ليرلي، الذي يعمل على تكنولوجيا لقاح السرطان في جامعة ديوك، لـ"الغارديان": "نحن نستفيد من التطوُّر الجيني المعروف للسرطان".
ويخطِّط فريقه لتجربة لقاح الحمض النووي الريبوزي المرسال، العام المقبل، في مرضى سرطان الثدي في مراحله المتأخِّرة، حيث تتطوَّر الأورام عادةً بحيث لا تستجيب للأدوية من خلال اكتساب طفراتٍ في جيناتٍ معينة.
مرةً أخرى، تتمثَّل ميزة الحمض النووي الريبوزي المرسال في القدرة على ضرب أهدافٍ متعدِّدة في وقتٍ واحد. وفي هذه الحالة، تكون الأهداف مجموعةً من الطفرات المُحتَمَلة. قال ليرلي: "لا يوجد جرَّاحٌ أفضل في العالم من جهازك المناعي لالتقاط تلك الخلايا المتحوِّلة في مرحلةٍ مبكِّرة".
وإذا نجحت التطبيقات الأولى، فقد تطيل عمر المريض لأشهرٍ عن طريق إبعاد السرطان لفترةٍ أطول. وفي نهاية المطاف، قد يكون من الممكن منع السرطان في بعض الفئات المُعرَّضة للخطر، مثل المُدخِّنين الشرهين، حيث تسبِّب طفرةٌ في جين KRAS إلى منع ما يصل إلى ربع السرطانات.
في أكتوبر/تشرين الأول، وافقت منظمة الصحة العالمية على إطلاق أول لقاحٍ ضد الملاريا. ولكن هناك مجال للتحسين، حيث يقلِّل لقاح RTS,S من الملاريا الحادة بنسبة 30%. ويتمثَّل التحدي الرئيسي في أن طفيلي الملاريا قد طوَّرَ طريقةً لمنع الذاكرة المناعية. وحتى بعد الإصابة بالملاريا، فضلاً عن التطعيم، يظلُّ الناس عرضةً للإصابة مرةً أخرى. ويقتل المرض 500 ألف شخص سنوياً، معظمهم من الرضَّع والأطفال.
وفي عام 2012، اكتشف البروفيسور ريتشارد بوكالا، من كلية الطب بجامعة ييل، وزملاؤه، أن الملاريا تسبَّبت في "فقدان ذاكرة الجهاز المناعي" باستخدام بروتين يسمَّى PMIF، يقتل خلايا الذاكرة التائية. ويعمل بوكالا على أحد أشكال لقاح الحمض النووي الريبوزي الذي من شأنه التحصين ضد البروتين PMIF.
تشير الدراسات التي أُجرِيَت على الفئران، إلى أنَّ حجب البروتين يسمح لجهاز المناعة بالتخلُّص من الملاريا بشكلٍ أسرع، مِمَّا يؤدِّي إلى الإصابة بمرضٍ أقل حدة، والأهم من ذلك أنه يولِّد مناعةً مستقبلية. وتعاوَنَ بوكالا مع علماء في معهد جينر للقاحات في أكسفورد؛ لاختبار اللقاح المُرشَّح، وإذا جاءت النتائج إيجابية، فهم يأملون بدء التجارب البشرية العام المقبل.
وقال بوكالا لـ"الغارديان": "هناك حاجةٌ ماسَّة للقاحاتٍ في العالم النامي للأمراض الطفيلية التي أدَّت، لفترةٍ طويلةٍ، إلى إعاقة التنمية الاقتصادية والمجتمعية في العديد من البلدان". وأضاف: "لم يمكِّن الحمض النووي الريبوزي من نجاح اللقاح ضد بروتين PMIF فحسب، بل إن النظام الأساسي أقل تكلفةً بكثير، من اللقاحات القائمة على البروتين، مِمَّا يفتح فرصاً للقاح الملاريا الذي لم يكن موجوداً من قبل".
فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)
قال ديريك كاين، من معهد اللقاحات البشرية بجامعة ديوك: "ندخل الآن العقد الخامس من جائحةٍ عالمية لفيروس نقص المناعة البشرية"، وحتى الآن يظلُّ اللقاح بعيد المنال.
ركَّزَ فريق كاين على مجموعةٍ فرعية من مرضى فيروس نقص المناعة البشرية (أقل من الثلث)، وهذه المجموعة من المصابين تطوِّر في النهاية أجساماً مضادة متخصِّصة يمكنها تحييد فيروس نقص المناعة البشرية بعد سنواتٍ من الإصابة. وبحلول هذا الوقت، يكون هناك خزَّانٌ ضخم للفيروس في الجسم، وقد فات الأوان لإزالة العدوى.
قال كاين لـ"الغارديان": "كأنك وجدت مطفأة حريق، لكن المنزل كله مشتعل بالفعل". ومع ذلك، إذا استطاع اللقاح تحفيز هذه الأجسام المضادة، يكون هناك أملٌ في أن يتمكَّن من القضاء على الفيروس قبل أن يتفشى لدى المصاب.
رسم كاين وزملاؤه بدقةٍ الطريق الملتوي الذي يسلكه الجهاز المناعي لتكوين هذه الأجسام المضادة المتخصِّصة للغاية، وهم يبتكرون سلسلةً من أربعة أو خمسة لقاحات متعدِّدة الأهداف من الحمض النووي الريبوزي المرسال المُصمَّم لـ"إعادة إنشاء سباق التسلُّح بين جهاز المناعة ومسبِّب المرض".
قال كاين: "نعتقد بالتأكيد أن لقاح فيروس نقص المناعة البشرية سيكون بعيداً عن اللقاح الأعقد الذي كان علينا أن نطرحه على المصابين". وأضاف: "لا نتوقَّع أن يعمل اللقاح بنسبة 100% أو 90% مثل لقاحات كوفيد-19، لكن حتى لو تمكَّنا من الوصول إلى 50 أو 60%، سيكون ذلك نجاحاً، ولو وصلنا إلى 70% فسيكون أمراً مُذهِلاً".