وصلت أسعار الغاز الأوروبية إلى مستويات قياسية هذا الشهر، وسط اتهامات موجهة لروسيا باستخدام الغاز كسلاح ضد أوروبا، فما صحة هذه الاتهامات وما حال الإمدادات الروسية من الغاز لأوروبا، وهل سيستفيد بوتين حقاً من الغاز الروسي كسلاح أم تأتي الأزمة بنتيجة عكسية على بلاده.
وتعد روسيا أكبر مورد للغاز في أوروبا، حيث قدمت حوالي 43% من واردات الغاز للاتحاد الأوروبي العام الماضي، وفقاً لبيانات جمعتها وكالة "يوروستات" المسؤولة عن الإحصاءات داخل الاتحاد الأوروبي.
أمريكا تضع روسيا في اختبار
وقال مستشار الرئيس الأمريكي جو بايدن لأمن الطاقة العالمي عاموس هوشتاين أمس الإثنين إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقترب من استخدام الغاز الطبيعي كأداة سياسية إذا أوقفت روسيا صادرات الوقود إلى أوروبا حيث تعاني من أزمة طاقة.
وعندما سئل عما إذا كان بوتين يستخدم الغاز كسلاح ضد أوروبا، قال عاموس هوشتاين للصحفيين: "أعتقد أننا نقترب من هذا الخط إذا كان لدى روسيا بالفعل الغاز لتزويده واختارت عدم القيام بذلك، ولن تفعل ذلك إلا إذا استجابت أوروبا لمطالبه فهذا يعني أنها تستخدم الغاز كسلاح ضد أوروبا"، حسبما نقلت عنه وكالة Reuters.
وقال إن أسعار الغاز في أوروبا ارتفعت ليس فقط بسبب الأوضاع في القارة، ولكن أيضاً بسبب موسم الجفاف في الصين الذي أدى إلى انخفاض إنتاج الطاقة من الطاقة الكهرومائية وزيادة المنافسة العالمية على الغاز الطبيعي.
وتزامنت أسباب عدة أدت إلى ارتفاع أسعار الغاز، منها تراجع المخزونات الروسية المحلية بسبب الشتاء البارد العام الماضي، مما دفع شركة غاز بروم لإعطاء الأولوية لملء المخزونات الداخلية، وكذلك تزايد الاستهلاك في آسيا خاصة اليابان والصين، لا سيما أن الأخيرة تحاول الاستغناء عن الفحم في توليد الكهرباء، وفي أوروبا ظهرت مشاكل صيانة في حقول غاز النرويج، إضافة إلى انخفاض الكهرباء المولدة من الطاقة المتجددة مثل الرياح، وكذلك تضرر منشآت الإنتاج الأمريكية من إعصار إيرينا.
اللافت أن مستشار الرئيس الأمريكي قال إنه مع ذلك فإن روسيا هي في الوضع الأفضل لتقديم المساعدة لأوروبا.
وأكدت وكالة الطاقة الدولية نفسها أن المورد الوحيد الذي يمكنه حقاً أن يحدث فرقاً كبيراً في أمن الطاقة الأوروبي في الوقت الحالي لهذا الشتاء هو روسيا.
وسبق أن استغربت موسكو معارضة واشنطن لتشغيل خط غاز السيل الشمالي، قائلة: تطالبوننا بزيادة الغاز لأوروبا وتعارضون "نورد ستريم 2".
ورفض بوتين تلميحات بأن موسكو كانت تضغط على الإمدادات لدوافع سياسية، قائلاً إنها ستزيد التدفق بقدر ما يطلب الشركاء.
بوتين ينكر استخدامه الغاز الروسي كسلاح
وألقى بوتين باللوم في الأسعار المرتفعة القياسية على سياسة الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وقال إن روسيا يمكنها زيادة الإمدادات إلى أوروبا بمجرد الموافقة على خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، الذي يربط روسيا بألمانيا مباشرة.
ونفى الكرملين مراراً وتكراراً أن تحجب روسيا الإمدادات من أجل ممارسة الضغط للحصول على موافقة تنظيمية سريعة على خط أنابيب الغاز الجديد نورد ستريم 2 عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا.
لكن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف قال في وقت سابق إن عملاق الغاز الروسي غازبروم (GAZP.MM) يزود أوروبا بالغاز بأقصى مستوياته بموجب العقود الحالية وإن أي زيادة يجب التفاوض بشأنها مع الشركة.
هل تبتز روسيا أوروبا بسلاح الغاز، وكيف تفعل ذلك؟
قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إنها ليست على علم بأي حالات لم تفِ فيها روسيا بالتزاماتها التعاقدية.
تقوم شركة غازبروم، وهي شركة الطاقة الروسية المملوكة للدولة والتي تمثل الأغلبية العظمى، بتوريد الغاز إلى أوروبا بموجب ترتيبين مختلفين:
– العقود طويلة الأجل التي تدوم غالباً من 10 إلى 25 عاماً، وهو الأسلوب الذي تفضله روسيا.
– صفقات "فورية" أو عمليات شراء لمرة واحدة لكمية ثابتة من الغاز.
تصف شركة غازبروم نفسها العقود طويلة الأجل بأنها "أساسية لإمدادات الغاز المستقرة والمستدامة".
ومن المفهوم أنها أوفت بالتزاماتها تجاه المشترين الأوروبيين هذا العام بموجب هذه العقود، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "BBC".
لكن من الجدير بالذكر أن المبيعات "الفورية" لا يبدو أنها تتم بأي كمية كبيرة، استناداً إلى البيانات الواردة من منصة المبيعات الإلكترونية الخاصة بشركة غازبروم، حسبما ورد في تقرير BBC.
وقال نائب وزير الطاقة بافيل سوروكين إن روسيا لم تغير الجدول الزمني لضخ الغاز في منشآت التخزين حتى الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، مما يشير إلى أنها ليست في عجلة من أمرها لتزويد أوروبا بالغاز في السوق الفورية.
ويقول الدكتور شاربلز: "هذا يؤدي إلى استنتاج مفاده أن شركة غازبروم توفر الكميات.. بموجب عقودها طويلة الأجل- لكنها لا توفر أحجاماً إضافية تتجاوز تلك العقود".
وقد أعرب مفوض الطاقة في الاتحاد الأوروبي، كادري سيمسون، عن الرأي ذاته أيضاً.
أنابيب الغاز تخبرنا بحقيقة ما تريده روسيا
كانت تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا متقلبة منذ نهاية سبتمبر/أيلول، مما زاد من قلق السوق وارتفاع الأسعار.
واختارت روسيا عدم إرسال المزيد من إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، مما حد من الآمال في أن موسكو قد تخفف من قبضتها على السوق بعد وقت قصير من إعلان الرئيس فلاديمير بوتين أن بلاده ستكون مستعدة للمساعدة، حسبما ورد في تقرير لموقع CNBC.
فلقد أظهرت نتائج المزاد المرتقبة يوم الإثنين أن شركة غازبروم الروسية العملاقة للغاز لم تحجز سعة نقل غاز إضافية لشهر نوفمبر/تشرين الثاني، سواء من خلال نظام خطوط الأنابيب الأوكرانية أو خطوط إلى أوروبا الغربية عبر بولندا.
وتعتبر نتائج المزاد بمثابة إشارة رئيسية لحجم الإمدادات خلال الفترة القادمة، لأن الحجز يتم قبل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع من الشهر الذي يتدفق فيه الغاز الطبيعي.
ويقول محللو الطاقة إن النتائج تظهر أن روسيا ليست في عجلة من أمرها لتعزيز الإمدادات إلى المنطقة وتقدم دليلاً آخر على أن الكرملين يسعى للسماح ببدء سلس للتدفقات التجارية عبر خط نورد ستريم 2، من خلال التباطؤ في توفير الغاز الروسي عبر الوسائط التقليدية.
حجزت غازبروم 30 مليون متر مكعب يومياً فقط على طريق خط يامال- أوروبا بقيمة 86.5 مليون متر مكعب يومياً متاحة لشهر نوفمبر/تشرين الثاني، وهو حجم مشابه لما تم حجزه في سبتمبر/أيلول 2021، ولم تحجز أي سعات عبر الخط الذي يمر بغريمتها أوكرانيا.
يأتي ذلك بعد وقت قصير من اقتراح بوتين أن بلاده يمكن أن توفر إمدادات إضافية لأوروبا في وقت تواجه فيه ملايين الأسر فواتير الطاقة الشتوية المرتفعة.
وقال يوري فيترينكو، رئيس شركة الطاقة الحكومية الأوكرانية نفتوغاز، هذا الشهر، إن روسيا تحاول ابتزاز أوروبا للمصادقة على خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 من خلال إبقاء إمدادات الوقود منخفضة.
وقال المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، مؤخراً إنه يقدر أن روسيا يمكن أن تزود الغاز بنسبة 15% إضافية إذا أرادت ذلك.
تم الانتهاء من خط أنابيب نورد ستريم 2، الذي تعارضه واشنطن لأنه سيلتف على أوكرانيا، لكنه يحتاج إلى موافقات من برلين والمفوضية الأوروبية لبدء نقل الغاز الروسي تحت بحر البلطيق إلى أوروبا عبر ألمانيا.
وأشار بعض المحللين إلى أن روسيا قد تمنع الإمدادات لتسريع الموافقة على خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي تم بناؤه حديثاً والذي يمتد مباشرة من روسيا إلى ألمانيا.
في المقابل، قال نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريابكوف، لبي بي سي: "بدأت غازبروم بالفعل في ضخ احتياطياتها في خطوط الأنابيب لتحقيق الاستقرار في السوق".
هل ينجح أسلوب بوتين في استخدام الغاز كسلاح؟
اللافت أنه رغم ارتفاع أسعار الغاز بشكل قياسي والحديث عن مساومات وضغوط روسية، فإن ألمانيا لم تسمح أو تستعجل خطوات تشغيل خط غاز السيل الشمالي 2 أو نورد ستريم 2 كما تريد روسيا.
واجه خط السيل الشمالي 2 الذي تقوده شركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم وتكلف نحو 11 مليار دولار، مقاومة من الولايات المتحدة وأوكرانيا ودول أخرى، حيث ترى كييف أنه يفقدها مئات ملايين الدولارات كرسوم عبور إذا أوقفت موسكو ضخ الغاز عبر الخط الذي يمر عبر أراضيها، فيما تقول الولايات المتحدة إن الخط يجعل أوروبا أكثر اعتماداً على روسيا في مجال الطاقة، بينما ترد الأخيرة بأن واشنطن تحاول إزاحة موسكو من سوق الغاز الأوروبي الذي تتطلع أمريكا للتوسع فيه.
يجب أن تقتنع الجهات التنظيمية الألمانية والأوروبية باستيفاء الشركة المشغِّلة لـ"نورد ستريم 2″ (Nord Stream 2) بمتطلَّبات لوائح الاتحاد الأوروبي التي تلزم بالتفريق بين نقل الغاز عن الإنتاج والمبيعات، والمعروف باسم "الفصل".
وقال مشرعون أوروبيون إنَّ مشروع خط السيل الشمالي لا يفي بعد بمعايير الفصل، وطالبوا بضرورة وجود "رأي واضح وقوي للمفوضية الأوروبية في إجراءات التصديق على تشغيل الخط".
ويصرُّ معارضو مشروع خط السيل الشمالي على أنَّ "غازبروم" تملك بالفعل طرقَ توصيل كافية عبر دول أخرى. وقال محللون إنَّ نقص الإمدادات مشكلة تتعلَّق بالقدرة الإنتاجية، وليس بطرق التوصيل.
بدورها لا تبدو أن ألمانيا تسعى إلى تسريع هذه العملية البيروقراطية التي قد تنتهي في مارس/آذار القادم، أي مع انتهاء فصل الشتاء، ويرى كثيرون أنَّ التشغيل سيؤجَّل إلى العام المقبل.
وهذا مؤشر على أن ألمانيا ترفض الاستجابة للابتزاز الروسي، رغم أن أوروبا مهددة بشتاء قاس.
قال مصدران حكوميان ألمانيان مطلعان إن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أوضحت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الأشهر الأخيرة، أن الالتزام بالقواعد أمر حيوي لضمان استمرار الدعم السياسي لخط الأنابيب، حسبما ذكر تقرير لوكالة Reuters.
وقالت ميركل صراحة إن الأساس السياسي لتشغيل خط غاز "السيل الشمالي 2" هو التزام روسيا بمواصلة استخدام أوكرانيا كطريق لنقل الغاز في المستقبل أيضاً.
ومن المعروف أن أوكرانيا اعتبرت إقدام ألمانيا على تنفيذ هذا الخط بمثابة خيانة لكييف التي كانت تستفيد مالياً من مرور الغاز الروسي على أراضيها، إضافة إلى أنها وسيلة ضغط في يدها على موسكو.
وقال أحد المصادر إن بوتين ذكي بما يكفي ليعرف أن المشاعر السائدة بين السياسيين الألمان بشأن المشروع ستصبح إشكالية إلى حد ما، لذا لا ينبغي أن يقدم أي سبب لتعريض العمليات للخطر.
ومن الواضح أن المكسب الوحيد الذي جناه بوتين حتى الآن هو بضع مليارات من الدولارات الإضافية جراء ارتفاع أسعار الغاز الذي قد لا يستمر طويلاً، ولكنه لم يحقق مكسباً دائماً، فلم يتم تشغيل خط نورد ستريم، والأهم أن الأزمة ضربت ناقوس خطر للأوروبيين فيما يتعلق بالغاز يشبه أزمة حرب 1973 بالنسبة للنفط، وهو ناقوس خطر قد يدفع أوروبا إلى محاولة تقليل اعتمادها على الغاز الروسي سواء عبر مصادر الطاقة الجديدة أو محاولات تنشيط مناطق إنتاج منافسة مثل منطقة شرق المتوسط.