في أعقاب وباء قَلَب شكل الحياة الذي نعرفه أخذت اللقاحات دوراً جديداً رائداً في المحادثة الأكبر حول الصحة العامة. وأصبحت الكلمات والعبارات مثل "بروتين سبايك" و"الحمض النووي الريبوزي المرسال" و"الناقل الفيروسي" و"مناعة القطيع" جزءاً من اللغة العامية العالمية. وهذا أمر حيوي؛ لأنَّ زيادة الوعي باللقاحات والعمل عليها أمران حاسمان للتغلب على الوباء الحالي.
وهذا الفهم يُترجَم إلى أفعال، إذ حتى أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2021، انتهى تطعيم ما يقرب من 67% من المملكة المتحدة و57% من الولايات المتحدة بالكامل ضد "كوفيد-19".
لكن هناك المزيد من العمل الذي يتعين إنجازه، ففي حين وُزِّعَت 6.4 مليار جرعة على مستوى العالم حتى أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2021، سجلت بعض البلدان تلقيح أقل من 0.1% من السكان بالجرعات الكاملة، هناك حاجة إلى مزيد من المساعدة، وبسرعة، لتخفيف ما تسميه منظمة الصحة العالمية "الوباء ذو المسارين"، حيث تحقق البلدان ذات الدخل المرتفع مستويات أعلى من المناعة عن طريق التطعيم، بينما تُترك الدول ذات الدخل المنخفض متخلفة عن الركب، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وفي ظل هذه الحاجة الملحة، لن يستطيع لقاح واحد أو شركة أو بلد واحد إنهاء الوباء العالمي. إذ ستتطلب تلك اللقاحات المُصرّح بها، وكذلك تلك التي تمر حالياً بالعمليات التنظيمية، لإنجاز المهمة الطموحة المطروحة أمامنا، بالإضافة إلى تدابير السلامة والحد من الوباء المستمرة.
يقول الدكتور نيكولاس جاكسون، رئيس البرامج والتكنولوجيا المبتكرة في تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة (Cepi): "كان التقدم في تطوير اللقاح حتى الآن استثنائياً، لكننا في مرحلة معقدة من الوباء. برغم أنَّ اللقاحات تنقذ الآن الأرواح في جميع أنحاء العالم، لكن ندرة إمدادات اللقاحات الحالية تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة العالمية. وهناك حاجة ماسة إلى المزيد من اللقاحات المعتمدة للمساعدة في حماية الفئات الأضعف، حيثما كانوا في العالم".
جهد متضافر لمجابهة الأزمة العالمية
في مواجهة التهديدات مثل المتغيرات الجديدة من "سارس-كوف-2″، الفيروس المُسبِّب لـ"كوفيد-19″، من المهم أن تعمل معاً المنظمات العالمية، بما في ذلك الشركات العامة والشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية.
ومنذ المراحل الأولى للوباء، تعمل شركات التكنولوجيا الحيوية والأدوية في جميع أنحاء العالم على تطوير تقنيات جديدة بالتعاون مع كيانات القطاع العام. وشاركت المنظمات بما في ذلك تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة والتحالف الدولي للقاحات "جافي" ومنظمة الصحة العالمية، في قيادة آلية "كوفاكس"، ودعم البحث والتطوير والتصنيع والتوزيع العادل للقاحات "كوفيد-19".
وحتى الآن، قدَّم "كوفاكس" أكثر من 300 مليون جرعة تلقاها أشخاص بالفعل، بينما هناك المزيد في الطريق. والتزمت شركة Novavax، وهي شركة للتكنولوجيا الحيوية تطور ما يُتوقَع أن يكون أول لقاح مصنوع من وحدات بروتينية فرعية ضد "كوفيد-19″ متاح للاتحاد الأوروبي، مع شريكها معهد إنتاج اللقاحات Serum Institute of India، بتقديم 1.1 مليار جرعة لـ"كوفاكس".
يقول ستانلي سي إرك، الرئيس والمدير التنفيذي لشركة Novavax: "نعلم أنه لا يوجد أحد بأمان حتى يصبح الجميع آمنين. إذا تعلمنا أي شيء خلال العام ونصف العام الماضيين، فهو أنَّ ضمان وجود أكبر عدد ممكن من الأسلحة في الترسانة ضد الأمراض المعدية المستقبلية أمر بالغ الأهمية لإنهاء الأوبئة".
كيف يمكن للقاحات المساعدة في تجنب الأوبئة القادمة؟
إليكم الحقيقة البسيطة: اللقاحات فعّالة. وجدت دراسة نُشِرَت في وقت سابق من هذا العام لفحص جهود التطعيم ضد 10 مسببات أمراض مختلفة أنَّ اللقاحات أنقذت أكثر من 36 مليون شخص على مستوى العالم بين عامي 2000 و2019. ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد تقريباً بحلول عام 2030. علاوة على ذلك، قضت اللقاحات إلى حد كبير على أمراض مثل الحصبة، المرض الذي يصيب الأطفال الصغار بالأساس.
وتقدم برامج التطعيم القوية فوائد اقتصادية أيضاً، إذ كشف أحد التحليلات الحديثة لعشرة لقاحات من 94 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل أنها تؤدي إلى انخفاض قدره 586 مليار دولار في النفقات المرتبطة بالأمراض، بالإضافة إلى توفير 1.53 تريليون دولار في سياق الفوائد الاقتصادية الأوسع.
وبخلاف الأزمة الحالية، هناك فرص طويلة الأجل للقاحات التي برزت خلال الوباء. تسارعت عمليات البحث والتطوير في مجال اللقاحات تسارعاً كبيراً منذ ظهور الوباء، إلى جانب زيادة الوعي بالتهديد الذي تمثله الفيروسات المعدية.
في حين كانت هناك تطورات جديدة على مدى الأشهر الثمانية عشرة الماضية، بما في ذلك الاستخدام الواسع للقاحات المُصنَّعة من الحمض النووي الريبوزي المرسال، فإنَّ بعض صانعي اللقاحات يبتكرون المزيد من التقنيات التقليدية لمكافحة الوباء. وتأخذ لقاحات الوحدات البروتينية الفرعية نهجاً متميزاً يختلف عن لقاح الحمض النووي الريبوزي المرسال والحمض النووي لفيروس "كوفيد -19".
إذ تعمل هذه التقنية على تحفيز جهاز المناعة من خلال تقديم جزء من الفيروس غير قادر على التسبب في المرض لتشجيع الجسم على تطوير استجابة مناعية. وفي التجارب السريرية الحديثة، أظهرت لقاحات الوحدات البروتينية الفرعية مستويات عالية من الفاعلية في الحماية من "كوفيد-19". كما أنها عادةً ما تكون أكثر استقراراً في ظل درجات التبريد العادية؛ ما يسهل توزيعها بين المجتمعات التي يصعب الوصول إليها في جميع أنحاء العالم.
بالإضافة إلى الجهود الهائلة لمكافحة "كوفيد-19″، يعمل المجتمع العلمي أيضاً على تحديد كيفية تطبيق الدروس المستفادة من الوباء على الأمراض المعدية الأخرى. على سبيل المثال، تعمل بعض الشركات، بما في ذلك Novavax، حالياً على تطوير مزيج من لقاح "كوفيد-19" ولقاح الإنفلونزا؛ ما قد يقلل من عدد المرات التي يحتاجها المرء للتوجه إلى الممارس العام أو الصيدلية المحلية للحصول على اللقاح.
ويستمر البحث والتطوير أيضاً لمكافحة الأمراض المدمرة الأخرى مثل الملاريا، التي تقدر منظمة الصحة العالمية أنها قتلت ما يقرب من 409000 شخص، بما في ذلك حوالي 274000 طفل، في عام 2019.
وتستعد منظمات مثل تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة بالفعل للتهديدات المستقبلية، مع خطط تتضمن إنتاج مكتبة من نماذج اللقاحات الأولية، والعمل على ضغط الجداول الزمنية لتطوير اللقاحات ودعم البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من خلال مبادرات البنية التحتية ومرافق التصنيع والخبرة الوبائية.
يقول الدكتور نيكولاس جاكسون من تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة: "لقد أثبت كوفيد-19 أنَّ الأوبئة تمثل تهديداً وجودياً لطريقة حياتنا، ويمكن أن تكون اللقاحات هي أكثر استراتيجيات الخروج فاعلية لدينا". ويشير إلى أنَّ وباء إنفلونزا عام 1918 قتل ما يصل إلى 50 مليون شخص في وقت كان عدد السكان فيه أقل من ربع عدد السكان اليوم.
ويحذر: "نحن بحاجة إلى اغتنام هذه الفرصة السانحة عندما يكون التأهب للوباء على رأس جدول الأعمال السياسي".