أدَّى إدمان البشرية المستمر للوقود الأحفوري وشهيتها الشرهة للموارد الطبيعية إلى تغير مناخي جامح، وتدهورٍ في النظم البيئية الحيوية، وأدَّى إلى موتٍ بطيء لمحيطات العالم الآخذة في الانهيار، وأصبح نهبنا للكوكب يعرِّض بقاءنا للخطر، واليوم أصبحت جميع مناطق العالم في خضم حالة طوارئ بيئية. وتقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية إنه بالنظر إلى هذه المخاطر، من المثير للصدمة أن النظام العالمي متعدِّد الأطراف قد فشل في الاستجابة بقوةٍ أكبر، وبدلاً من ذلك قام فقط بالتحرك على هامش المخاطر.
لماذا النظام العالمي غير مستعد لمواجهة الأزمة المناخية؟
رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي قد تبنوا تدابير لإبطاء وتيرة الاحتباس الحراري، من خلال تحديد أهداف أكثر صرامة لخفض غازات الاحتباس الحراري على سبيل المثال، لا يوجد شيءٌ يضمن التزاماتهما بهذه التعهُّدات، ومثل هذه الخطوات لا تفعل الكثير لتشجيع إزالة الكربون في الصين والهند وغيرهما من المصادر الرئيسية للانبعاثات. تفشل هذه الجهود أيضاً في معالجة الجوانب الأخرى للكارثة التي تلوح في الأفق، ليس أقلها انهيار التنوُّع البيولوجي.
لا يخضع العالم الطبيعي لحدودٍ سيادية، وكذلك الأزمة البيئية متفاقمة السوء. لقد حان الوقت لاتِّخاذ خطواتٍ جريئة للتغلُّب على الانفصال بين نظام دولي مُقسَّم إلى 195 دولة مستقلة، تعمل كلٌّ منها وفقاً لمتطلَّباتها الخاصة، وكارثة عالمية لا يمكن حلُّها على نحوٍ مُجزَّأ.
ما يحتاجه العالم الآن هو نقلة نوعية في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية للولايات المتحدة، وهو تحوُّل مُتجذِّرٌ في الواقعية البيئية الذي ينقل التعاون بشأن التهديدات البيئية المشتركة إلى مركز الصدارة. يُطلَق على هذه النظرة العالمية الجديدة "سياسة الكواكب". يجب على جميع الحكومات، بدءاً من واشنطن، اعتبار بقاء المحيط الحيوي مصلحةً وطنية أساسية وهدفاً مركزياً للأمن القومي والدولي، والتنظيم والاستثمار وفقاً لذلك.
تقول المجلة الأمريكية: سيتطلَّب التحوُّل إلى "سياسة الكواكب" فهماً جديداً ومشتركاً لواجبات الدول ذات السيادة، والتزامات جادة بالتنمية المستدامة والاستثمار، ومؤسِّسات دولية مُبتَكَرة. سيحتاج قادة العالم إلى تبني أخلاقيات جديدة للإشراف البيئي وتوسيع مفاهيمهم للالتزامات السيادية لتشمل مسؤولية حماية المشاعات العالمية. ستحتاج الحكومات والشركات والمجتمعات إلى تقدير رأس المال الطبيعي للأرض وحسابه بدلاً من اعتباره أمراً مفروغاً منه. وأخيراً، ستحتاج الحكومات الوطنية إلى إصلاح وتقوية الأسس المؤسسية والقانونية للتعاون البيئي الدولي. والولايات المتحدة في وضعٍ يمكنها من قيادة هذه التهمة، وفي الواقع لن يفي أيُّ جهدٍ من هذا القبيل بالغرض ما لم تكن واشنطن في الطليعة، بحسب وصف المجلة.
ليست النباتات والحيوانات وحدها مهددة.. بل البشر أيضاً
التأثير البيئي المدمِّر للنشاط البيئي ليس سراً. يوثِّق عرض التقارير الأخيرة من مجموعاتٍ مثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ والصندوق العالمي للطبيعة نطاق عدوان الحكومات والشركات والمصانع على الكوكب وينذر بمستقبلٍ من الحرارة الحارقة وحرائق الغابات المستعرة وتحميض المحيطات والعواصف العنيفة وارتفاع مستوى البحار، وما يترتَّب على كلِّ ذلك من هجرات جماعية.
وفي الوقت نفسه، عرَّض النشاط البشري التنوُّع البيولوجي للخطر، حيث يقوم الناس بنهب الأراضي والمياه، وحصد الموارد الطبيعية بشكلٍ غير مُستدام. والأرقام في الحقيقة مُقلِقة، فمنذ عام 1970 انخفضت أعداد الفقاريات البرية بأكثر من 60%، وانخفض تعداد الحشرات بنسبة 45%. ولا يقتصر الضرر على الحيوانات وحدها، فقد أدَّت الصناعات الاستخراجية لتدمير التربة والأشجار، مما غيَّر شكل سطح الكوكب، بشكلٍ لا يمكن إصلاحه. وفي كلِّ عام، يفقد العالم مساحةً من الغابات الاستوائية بمساحة كوستاريكا. واليوم، يواجه حوالي مليون نوع من النباتات والحيوانات خطر الانقراض على المدى القريب.
يعاني جنسنا البشري أيضاً.. يواجه مئات الملايين من الأشخاص حول العالم انعدام الأمن الغذائي بصورةٍ متزايدة، ونقصاً في إمدادات المياه. وبينما يتعدَّى البشر والحيوانات الأليفة بشكلٍ متزايد على النظم البيئية المتنوِّعة، فإننا نتعرَّض لفيروسات جديدة خطيرة. ففي العقود الأخيرة، وثَّقَ العلماء أكثر من 200 من مسبِّبات الأمراض الحيوانية التي قفزت من الحيوانات البرية إلى البشر، بما في ذلك فيروس الإيبولا، والفيروس المسبِّب لمرض السارس، والفيروس المسبِّب لمرض كوفيد-19 أيضاً.
وتوشك الأمور أن تزداد سوءاً. فعلى الرغم من انخفاض معدَّلات الخصوبة، لن يستقر عدد السكَّان على الأرض حتى عام 2060 على الأقل، وسيضيف صعود الطبقات المتوسِّطة الطموحة حول العالم المزيد من التوتُّرات البيئية. وبينما يتم نهب الكوكب، فإننا نجازف بجعله مكاناً غير صالح للسكن، وهي أزمةٌ تستدعي التضامن العالمي والعمل الجماعي.
التغير المناخي ليس أولوية مُلحّة للنظام العالمي
مع ذلك، تستمر معظم البلدان في التعامل مع التحديات البيئية على أنها أولويات سياسية خارجية من الدرجة الثانية تختلف عن الأمور التي يُفتَرَض بها أنها ذات أهمية أكبر، مثل المنافسة الجيوسياسية، والسيطرة على الأسلحة، والتجارة الدولية. أما النتائج التي يمكن التنبؤ بها، فتتلخَّص في أن ما يُمرَّر إلى الإدارات البيئية العالمية هو خليطٌ من الاتفاقات الضعيفة الخاصة بقطاعٍ معين، والتي تشرف عليها هيئاتٌ ضعيفة القوى وغير قادرة على إنفاذ الامتثال لهذه الاتفاقات. يعتمد مصير الكوكب على خليطٍ من التعهُّدات الوطنية غير المُنسَّقة المدفوعة باعتباراتٍ سياسية واقتصادية محلية قصيرة الأجل.
وتتطلَّب الأزمة البيئية العالمية فن حكم جديد مبنيّ على الطرح القائل بأن كلَّ مخاوف الدول الأخرى -من الأمن القومي إلى النمو الاقتصادي- تعتمد على محيطٍ حيوي صحي ومستقر. وهذا الإطار لن يتخلَّى عن المفهوم الأساسي للمصلحة الوطنية، ولكنه يوسِّعه ليشمل الأمن البيئي والمحافظة عليه. قد يتراجع أنصار السياسة الخارجية التقليديون عن إعادة الصياغة هذه، في ظلِّ قلقهم بشأن تشتيت انتباه الدبلوماسيين ومسؤولي الدفاع عن التهديدات التي أثَّرَت بشكلٍ مباشرٍ على بقاء الدول عبر معظم التاريخ، لكن الأزمة البيئية غيَّرَت طبيعة تلك التهديدات.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يدرك هذه الحقيقة. في أمرٍ تنفيذي تاريخي صدر بعد أسبوعٍ واحد من تنصيبه، أعلن بايدن أن تغيُّر المناخ يمثِّل تهديداً من الدرجة الأولى على الولايات المتحدة، ووجَّه الوكالات الفيدرالية لقيادة استجابةٍ غير مسبوقة من الحكومة بأكملها لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وبعد ثلاثة أشهر، أخبَرَت أفريل هاينز، مديرة المخابرات الوطنية الأمريكية، قادة العالم المجتمعين في مؤتمرٍ افتراضي للمناخ أن تغيُّر المناخ "يجب أن يكون في قلب الأمن القومي والسياسة الخارجية لأيِّ بلد".
لكن ليس هناك أسهل من الخطابات البليغة، ويجب على إدارة بايدن الآن أن تحول هذا النهج الجديد إلى شكل تنفيذي، وأن تعمل مع الكونغرس لمراجعة الميزانية الضخمة للأمن القومي التي لا تزال مُوجَّهةً بشكلٍ كبير نحو مواجهة التهديدات الجيوسياسية والعسكرية التقليدية. ويجب أن تتعاون في الوقت نفسه مع الشركاء الأجانب في استجابةٍ متعدِّدة الأطراف لإبطاء الانهيار البيئي بل وعكسه في الاتجاه الآخر.
التغير المناخي والسيادة الإقليمية للدول
وتقول فورين أفيرز: إذا كانت الولايات المتحدة جادة بشأن قيادة الاستجابة العالمية لحالة الطوارئ البيئية على كوكب الأرض، فعليها أن تبدأ بالعمل مع الدول الأخرى لإعادة صياغة المفاهيم التقليدية للسيادة. يمكن لواشنطن أن تبدأ هذه العملية بالتأييد الصريح لفكرة أن تتحمَّل مسؤولية حماية الأرض، وإلزامها بالامتناع عن أيِّ نشاطٍ قد يغيِّر النظم البيئية أو يضرُّها بشكلٍ أساسي.
ليس هناك مثل هذا الإجماع اليوم، كما يتَّضِح من الخلاف الذي اندلع بين الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام 2019، حيث اجتاحت عشرات الآلاف من الحرائق غابات الأمازون. حينها، اتَّهَمَ ماكرون بولسونارو بـ"الإبادة البيئية" من خلال السماح باستغلال أكبر غابة في العالم من قِبَلِ قاطعي الأشجار الجشعين ومربِّي الماشية والمزارعين وعمال المناجم، وكما رأى ماكرون كان بولسونارو يرتكب جريمة. ومن ناحيته، انتقد الرئيس البرازيلي الغاضب نظيره الفرنسي واتَّهَمَه بمعاملة البرازيل كما لو كانت "مُستعمَرة".
شكَّلَ مفهومان متنافسان للسيادة أساس هذا الصدام. وفقاً لبولسونارو، للبرازيل حقٌّ مُطلَق في تطوير الأمازون بالشكل الذي تراه مناسباً. وأعلن المتحدِّث باسمه أن "سيادتنا غير قابلة للتفاوض". وردَّ ماكرون قائلاً إن للبشرية جمعاء مصلحة في بقاء الغابات المطيرة. فالعالم صاحب مصلحة وليس متفرِّجاً، ولا يمكن أن يظل صامتاً بينما تقوم البرازيل بنهب هذا الحوض الكربوني الذي لا غنى عنه للكوكب، ومصدر الأوكسجين الذي لا يمكن تعويضه، والمستودع الثمين للحياة النباتية والحيوانية. وكما أشار ريتشارد هارس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، فالنقاش الأساسي يتمثَّل في ما إذا كان ينبغي اعتبار البرازيل "مالك" الغابات المطيرة أو مجرد "وصيٍّ" عليها، وأنه لا ينبغي أن تشكِّل السيادة الإقليمية شيكاً على بياض لنهب الموارد الجماعية.
تتطلَّب الأزمات المزدوجة لتغيُّر المناخ وانهيار التنوُّع البيولوجي إجراء تغييرٍ شامل، بموجب المبدأ الدولي الحالي المعروف باسم "قاعدة عدم الإضرار"، فإن الدول ذات السيادة لديها بالفعل التزامٌ عام بعدم الإضرار بالبيئة في المناطق الواقعة خارج نطاق ولايتها القضائية. لكن ثبت صعوبة تطبيق هذه القاعدة، فليس هناك إلا إجماعٌ ضئيل على ما يشكِّل بالضبط ضرراً بيئياً عابراً للحدود، وما هي التزامات الدول، ومتى يجب أن يبدأ تطبيق هذه القاعدة؟
هذه الأسئلة أصبحت أعقد، حيث أصبحت المصادر المُحتَمَلة للضرر أعقد من ذي قبل. ومع تعمُّق حالة الطوارئ البيئية على الكوكب، يجب على البلدان توسيع تعريف المشاعات العالمية -المواد المشتركة التي تُدار كجزءٍ من التراث المشترك للبشرية- لتشمل جميع النظم البيئية. يجب أن يوافقوا على التخلي عن جميع الأنشطة التي تهدِّد سلامة المحيط الحيوي، وفتح أنفسهم للتدقيق الخارجي، والسماح للآخرين بمراقبة امتثالهم والتحقُّق منه، ومواجهة عقوبات في حال انتهاكهم لهذه الالتزامات.
هل تدرك هذه الدول أنها تهدر رأس مالها الطبيعي؟
تتطلَّب حماية هذه المشاعات الموسَّعة تثمين الطبيعة. لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، استثمر البشر بسهولةٍ في رأس المال المنتَج (المباني والطرق والآلات والبرمجيات) ورأس المال البشري (التعليم والرعاية الصحية)، بينما يستهلكون رأس المال الطبيعي الذي يحافظ على الحياة ويوفِّر الأساس للازدهار في كلِّ المناحي.
وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، انخفض إجمالي مخزون كوكب الأرض من رأس المال الطبيعي بنسبة 40% على أساس نصيب الفرد منذ عام 1992. وسيتطلَّب عكس هذا الاتجاه إعادة صياغة الفهم الحالي للثروة، ليشمل قيمة الأصول الطبيعية في العالم. وفي يناير/كانون الثاني 2020، قدَّر المنتدى الاقتصادي العالمي أن أكثر من نصف الناتج العالمي -44 تريليون دولار سنوياً- يعتمد بشكلٍ كبير أو معتدل على الفوائد من الطبيعة، التي تتعرَّض لخطرٍ متزايد. ووضعت دراسةٌ أخرى، نُشِرَت عام 2014، القيمة الإجمالية السنوية لخدمات النظام البيئي للكوكب -ترشيح المياه وتدوير المغذيات والتلقيح وعزل الكربون، وما إلى ذلك- بين 125 تريليون دولار و145 تريليون دولار.
ومع ذلك، فإن معظم دعاة حماية البيئة يقاومون وضع قيمة نقدية على الطبيعة، مستشهدين بقيمتها الجوهرية. لكن عدم القيام بذلك يشجِّع الشركات والأفراد على اعتبار خدمات النظام الإيكولوجي أمراً مفروغاً منه. والنتيجة هي فشل السوق، ذلك الفشل الذي يتجسَّد في شكل تكاليف بيئية لا يتحمَّلها المشاركون في أيِّ تبادلٍ معين فحسب، بل المجتمع ككل.
والمشكلة المرتبطة بذلك هي أن الناتج المحلي الإجمالي، وهو المقياس التقليدي للثروة والتقدُّم، لا يأخذ في الحسبان رأس المال الطبيعي، مِمَّا يجعله مؤشِّراً ضعيفاً للرفاه والقدرة الإنتاجية طويلة الأمد. يجب على المجتمع الدولي العمل على تطوير المقاييس التي يمكن أن تأخذ في الاعتبار الأصول البيئية.
أخيراً، يجب أن يضطلع النظام المالي العالمي أيضاً بدورٍ أكبر في الإشراف البيئي. يتَّجه بعض المنظمين الماليين في الولايات المتحدة، بما في ذلك لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، نحو فرض إفصاحات الشركات عن التعرُّض لمخاطر المناخ حتى يدرك المستثمرون ضعف الشركات أمام الصدمات البيئية للاحتباس الحراري.