لم يكن ارتفاع أسعار النفط متوقعاً بهذه السرعة وإلى هذا الحد، فما أسباب هذا الارتفاع، وإلى أي مدى قد يستمر، وهل يتخطّى 100 دولار للبرميل فعلاً، وما الذي يعنيه هذا للتغير المناخي؟
على الرغم من التراجع الطفيف الذي شهدته أسعار النفط اليوم الأربعاء، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021، فإن إحسان عبد الجبار، وزير النفط العراقي توقع أن يصل سعر البرميل إلى 100 دولار في النصف الأول من العام المقبل، مستشهداً بانخفاض المخزون العالمي من النفط إلى أدنى مستوياته، منذ أبريل/نيسان من العام الماضي.
وكانت أسعار النفط قد شهدت استقراراً حول متوسط 65 دولاراً للبرميل، منذ عام 2016، قبل أن يبدأ منحنى الهبوط مع بداية تفشي فيروس كورونا وتحوله إلى جائحة عالمية، مطلع العام الماضي، وانهارت الأسعار تماماً خلال أبريل/نيسان 2020، بفعل تراجع الطلب وحرب الأسعار بين السعودية وروسيا، ليصل سعر البرميل إلى ما دون الصفر، مع ارتفاع تكلفة التخزين بصورة قياسية.
ومع تجديد اتفاق أوبك+ (دول أوبك + روسيا) الذي خفض الإنتاج بأكثر من 20%، بدأت الأسعار في الاستقرار، ومع التوصل للقاحات كورونا أواخر العام الماضي وبدء حملات التلقيح بدأ الطلب على النفط في الارتفاع التدريجي ومعه بدأت رحلة صعود الأسعار.
مؤشرات على عدم تخطي الأسعار حداً معيناً
لكن على الرغم من ارتفاع الطلب تدريجياً وعودة الحياة الاقتصادية حول الكوكب إلى الدوران، كان خبراء الطاقة يتوقعون ألا يرتفع سعر النفط إلى ما فوق الخمسين أو الستين دولاراً قبل العام المقبل 2022 على الأقل، معتمدين في تقديراتهم على عدد من المؤشرات.
أول وأهم تلك المؤشرات كان ظهور سلالات جديدة من كورونا، أبرزها دلتا بلس الهندية، التي ألقت بالشكوك على قرب انتهاء الجائحة، وزادت التوقعات بأن تستمر الأزمة الصحية الأسوأ منذ أكثر من قرن عدداً من السنوات، ما يعني تأخير العودة للحياة الطبيعية واستعادة النشاط الاقتصادي العالمي عافيته بشكل كامل.
أما المؤشر الثاني فهو قضية التغير المناخي، التي أصبحت فجأة واقعاً يواجهه العالم، في ظل موجات الطقس المتطرف من فيضانات وسيول وحرائق غابات جعلت الأمم المتحدة وزعماء العالم يدقون ناقوس الخطر، واعتبار العام الجاري 2021 الفرصة الأخيرة لتحقيق تقدم ضخم على طريق تقليل الانبعاثات الكربونية المسؤولة عن ارتفاع حرارة الأرض، وفي القلب من ذلك بالطبع تقليل الاعتماد على النفط ومشتقاته بشكل عام.
أما المؤشر الثالث فتمثّل في زيادة الاستثمارات العالمية في مجال الطاقة النظيفة، إذ قفزت تلك الاستثمارات إلى ما يقرب من تريليون دولار حتى عام 2020، مع توقعات بزيادتها بنسبة أكثر من 5% هذا العام، وبنسبة أكثر من 20% على مدى السنوات القليلة المقبلة، وهو ما يعني بالضرورة تراجع الطلب على النفط لصالح مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة بأنواعها المختلفة.
هذه المؤشرات الثلاثة وما يرتبط بها من زخم عالمي بقضية التغير المناخي بالتحديد، إضافة إلى التطور التكنولوجي الهائل في مجالات الطاقة البديلة للنفط، جعلت التوقعات بشأن ارتفاع أسعار النفط متحفظة وتتجه نحو استقراره في نهاية المطاف عند المستويات التي قبل بها المنتجون والمستهلكون خلال السنوات السبع السابقة وهي 65 دولاراً للبرميل.
أين وصلت أسعار النفط الآن؟
ظلت أسعار برميل النفط (خام برنت الأشهر عالمياً والأكثر في التعاملات) دون مستوى 50 دولاراً خلال العام الماضي، وعندما وصل السعر إلى 50 دولاراً يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، لأول مرة منذ انهيار الأسعار في أبريل/ نيسان، أشارت التوقعات إلى أن ذلك الارتفاع ربما يكون مؤقتاً مدفوعاً ببدء حملات التلقيح، وطالبوا بضرورة الانتظار حتى تتضح الصورة بشأن العودة للحياة الطبيعية.
وبالفعل حدث بعض التراجع الطفيف في الأسعار، مع اضطرار عدد من الدول لإعادة فرض الإجراءات الاحترازية مع تفشي سلالة دلتا بلس من فيروس كورونا، وهي التي فتكت بالهند والبرازيل، وأثارت الذعر في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وحول العالم بشكل عام. أدى ذلك بالطبع إلى مراجعة التوقعات بشأن تعافي الاقتصاد العالمي، وهو ما ينعكس مباشرة على أسعار النفط.
لكن منذ مارس/آذار الماضي، بدأت أسعار النفط في الصعود بصورة شبه مستقرة، وصولاً إلى أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وتحديداً الأسبوع الماضي، عندما تخطى سعر برميل النفط (خام برنت) حاجز 86 دولاراً للبرميل للمرة الأولى منذ سبع سنوات، ووصل الخام الأمريكي إلى فوق 84 دولاراً للبرميل.
واليوم الأربعاء تراجعت العقود الآجلة لخام برنت 64 سنتاً، بما يعادل 0.8% إلى 84.44 دولار للبرميل، متخلية عن ارتفاعها 75 سنتاً في الجلسة السابقة ولكنها لا تزال قرب أعلى مستوياتها في عدة سنوات، بحسب رويترز.
وهبطت العقود الآجلة لخام غرب تكساس (الأمريكي)، لشهر نوفمبر/تشرين الثاني، التي ينتهي أجلها اليوم الأربعاء، 56 سنتاً إلى 82.4 دولار للبرميل، كما انخفضت عقود ديسمبر/كانون الأول 59 سنتاً، أو 0.7% إلى 81.85 دولار للبرميل.
وكانت سوق النفط قد تعرّضت لضغوط، اليوم الأربعاء، بسبب بيانات من معهد البترول الأمريكي، أظهرت ارتفاع مخزونات الخام الأمريكية 3.3 مليون برميل في الأسبوع المنتهي في 15 أكتوبر/تشرين الأول، وفقاً لمصادر في السوق. وكان ذلك أعلى بكثير من توقعات تسعة محللين في استطلاع أجرته رويترز لزيادة المخزونات 1.9 مليون برميل.
لكن مخزونات البنزين ونواتج التقطير الأمريكية، التي تشمل الديزل وزيت التدفئة ووقود الطائرات، تراجعت أكثر بكثير مما توقعه المحللون، ما يشير إلى ارتفاع الطلب.
ومنذ مطلع العام الجاري، صعد سعر برميل برنت 61% ارتفاعاً من قرابة 52.5 دولار، قابله صعود بنسبة 66.4% للخام الأمريكي.
ما أسباب ارتفاع سعر النفط؟
تتركز أسباب هذا الارتفاع القياسي في أسعار النفط في عدة محاور، أولها أزمة الطاقة العالمية التي تسبب فيها ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والفحم، وثانيها تعافي اقتصادات رئيسية، أبرزها الصين بالطبع، من التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا.
فقد أعاد ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والمسال بنسبة 600% خلال أكتوبر/تشرين الأول الجاري، على أساس سنوي في دول أوروبا، الزخم إلى النفط ومشتقاته، التي حلت مكان الغاز في توليد الطاقة الكهربائية للمصانع ومنازل القارة العجوز، بحسب تقرير للأناضول.
ورغم تراجع أسعار الغاز في أوروبا إلى 980 دولاراً لكل ألف متر مكعب خلال التعاملات المبكرة، أمس الثلاثاء، بنزول 10% مقارنة بفتح جلسة تداولات الإثنين، وبنسبة 50% عن أعلى سعر مسجل هذا الشهر البالغ 1960 دولاراً، فإن الأسعار لا تزال مرتفعة بأكثر من 300%.
ولا يزال النفط ومشتقاته بديلاً مقبولاً لدى دول أوروبا، التي عجزت عن توفير حاجتها من الغاز، بينما أغلقت مصانع لارتفاع تكاليف إنتاج الطاقة، وأفلست أخرى، بحسب تقرير أوردته "يورو نيوز"، هذا الشهر.
كذلك، أدى تسارع حملات التطعيم ضد كورونا حول العالم، إلى تعافي الاقتصاد العالمي ولو بشكل متباين، وعودة المصانع لقدرتها الإنتاجية الطبيعية أمام ارتفاع الطلب العالمي على الاستهلاك.
وارتفع طلب المصانع على الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة، أمام استقرار في الإمدادات، نَجَمت عنه صدمة في ارتفاع الطلب، ما دفع دولاً مثل أوروبا للسحب من المخزونات، إذ تراجعت لأدنى مستوياتها منذ عقد.
وكان لتحالف "أوبك +" دور رئيس في ارتفاع الطلب على الخام، خصوصاً منذ الربع الثالث من 2021، مع تمسكه بتخفيف قيود خفض الإنتاج بشكل بطيء بمقدار 400 ألف برميل يومياً في كل شهر.
وحالياً يبلغ إجمالي خفض إنتاج النفط من جانب التحالف 4.6 مليون برميل يومياً، ويطمح للوصول إلى خفض بمقدار صفر برميل، بحلول سبتمبر/أيلول 2022. وما ساهم في تحسن أسعار النفط هو اتهامات أوروبية لروسيا بتعليق زيادة إمدادات الغاز الطبيعي للقارة، باعتبارها إحدى أدوات ضغط تقودها موسكو لتشغيل خط الغاز نورد ستريم 2، الذي يواجه رفضاً أمريكياً.
كيف قد يؤثر التضخم والتغير المناخي على النفط؟
لكن السؤال الآن هو: هل يستمر هذا الارتفاع في أسعار النفط ليتخطى 100 دولار للبرميل، كما توقع وزير النفط العراقي؟ وفي جميع الأحوال لا يمكن أبداً تقديم إجابة قاطعة على هذا السؤال، سواء بالنفي أو الإيجاب، لكن يمكن رصد المؤشرات.
فأسعار النفط الخام بدأت بالفعل تواجه معضلة التضخم، وهو ما قد يؤدي إلى إبطاء ارتفاع سعر البرميل صوب 90 دولاراً، وسط توقعات بتراجع الطلب من جانب المصانع.
وتسجل أسعار المستهلك في الولايات المتحدة 5.4% أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية، فيما تسجل نسب التضخم في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو 3.4%، أعلى مستوياتها منذ 8 سنوات. وتقول الولايات المتحدة إن التضخم الحالي عالمياً سيكون مرحلياً، على أن تعاود الأسعار استقرارها بحلول النصف الأول 2022.
أما عامل الضغط الآخر الذي قد يعرقل استمرار ارتفاع أسعار النفط بتلك السرعة التي لم تكن متوقعة، فهو مرتبط بقضية التغير المناخي التي لم تعد قابلة للتأجيل، بحسب خبراء المناخ حول العالم. وفي هذا السياق تُمثل قمة المناخ المقرر عقدها في بريطانيا، الشهر المقبل، نقطة تحول هامة قد يكون لها تأثير على أسعار النفط، بحسب خبراء.
فهذه القمة، التي ستحضرها دول العالم أجمع، ينتظر منها اتخاذ قرارات وإجراءات ملزمة تتعلق بوقف انبعاثات الكربون أو تقليلها بصورة درامية كفرصة أخيرة لإبطاء ارتفاع درجة حرارة الأرض، وهو هدف تلتف الآن حوله دول العالم، بعد أن أصبحت الكوارث المناخية عرضاً مستمراً حول الكوكب.
وكشف تقرير صادر عن هيئة المناخ التابعة للأمم المتحدة عن كارثية التوجه نحو زيادة إنتاج النفط في العقد الحالي، وكيف أن ذلك ستكون له تداعيات خطيرة على الحياة على الكوكب، وسوف يكون هذا التقرير أمام قمة المناخ بعد أسابيع قليلة، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
لكن من ناحية أخرى، لا يمكن التكهن بمدى تأثير تلك العوامل (التضخم وتباطؤ التعافي الاقتصادي من جهة، وتأثير قضية التغير المناخي من جهة أخرى) على مسيرة الصعود الصاروخي الحالي في أسعار النفط، لأسباب أبرزها الضغوط الاقتصادية التي خلفتها الجائحة، ورغبة كل دولة في الاستفادة قدر المستطاع من القفزة الحالية في الأسعار (خصوصاً الدول المنتجة بالطبع)، إضافة إلى طبيعة سوق النفط، التي يتحكم فيها بشكل كبير شركات وأفراد هدفهم تحقيق الربح فقط، بحسب منتقدي صناعة النفط بشكل عام.