توفي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول بسبب إصابته بكورونا، فما قصة أول وزير خارجية أسود في تاريخ الولايات المتحدة؟ وكيف أدت "كذبته" الأشهر أمام العالم إلى غزو العراق؟
اليوم الإثنين 18 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قالت أسرة باول، أول وزير خارجية أمريكي أسود والقائد العسكري المتقاعد، في بيان إنه توفي جراء مضاعفات كوفيد-19 عن 84 عاماً، بحسب رويترز.
وقالت الأسرة في منشور بصفحته على فيسبوك إن باول "تلقى تطعيماً كاملاً. نود أن نشكر الفريق الطبي في مركز والتر ريد الطبي الوطني على العناية بعلاجه. فقدنا زوجاً وأباً وجداً مميزاً ومحباً وأمريكياً عظيماً".
من هو كولن باول؟
كولن باول من مواليد 5 أبريل/نيسان 1937 في نيويورك، وتربى في بيئة شعبية في حي متعدد الأعراق، وكان والده قد هاجر إلى الولايات المتحدة قادماً من جامايكا.
وحصل بأول على إجازة في الجيولوجيا عام 1958. ثم خدم في العسكرية الأمريكية وترقى حتى تم تعيينه قائداً لأركان الجيش الأمريكي عام 1989، كأول أمريكي أسود يشغل هذا المنصب وأصغر من شغله سناً كذلك.
ثم عمل في البيت الأبيض مستشاراً للأمن القومي، وفي عام 2001 تولى وزارة الخارجية ضمن إدارة الرئيس جورج بوش الابن، ليكون بذلك أصغر جنرال وأول أسود يتولى منصب وزير الخارجية الأمريكية.
وخلال رئاسته لهيئة الأركان المشتركة في ظل إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، أشرف على القوات الأمريكية خلال حرب الخليج عام 1991، عندما طردت القوات التي قادتها الولايات المتحدة القوات العراقية من الكويت.
باول إذاً بدأ حياته كرجل عسكري ووصل إلى المراتب العسكرية في زمن قياسي، ثم تحول إلى السياسة ليصل أيضاً إلى أعلى مناصبها الدبلوماسية وزيراً للخارجية، في فترة من أكثر الفترات الزمنية التي شهدت أحداثاً ضخمة غيَّرت وجه العالم، ووضع الولايات المتحدة وصورتها أيضاً، بحسب محللين ومراقبين أمريكيين.
وكرجل عسكري، باول هو صاحب نظرية عسكرية جديدة مفادها أنه على الولايات المتحدة أن تسعى خلال كل عملية عسكرية تقوم بها إلى تحديد أهداف سياسية واضحة متزامنة مع خطة عسكرية تهدف إلى تحقيقها بطريقة أكثر حسماً وقوة وسرعة.
ولهذا انتقد عام 1999 الغارات الجوية لحلف شمال الأطلسي على يوغسلافيا، معتبراً أنها تناقض مبادئ التدخل العسكري التي حددها، وعقب غزو العراق الكويت كان باول من أنصار فكرة الاكتفاء بفرض العقوبات، وعارض كذلك استخدام القوة لإزاحة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.
لكن كثيراً من شهادات من تعاملوا مع باول عن قرب خلال مشواره المهني العسكري والسياسي، أجمعوا على أنه نادراً ما كان يتمسك بمواقفه، وهنا تأتي "الكذبة" التي ظلت تلاحقه منذ وقوعها في فبراير/شباط 2003 وحتى وفاته في 2021.
"الكذبة" التي دمرت العراق
ففي يوم 5 فبراير/شباط عام 2003، وقف كولن باول أمام مجلس الأمن عارضاً ملفاً كان الغرض منه إظهار "أدلة موثوقة" على وجود أسلحة دمار شامل في العراق، رغم كونه وزير الخارجية وقتها، ولم يكن دوره يستدعي أن يقوم بنفسه بعرض "ذلك الملف الاستخباراتي".
لكن معارضة سعي إدارة جورج بوش الابن لغزو العراق تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل كانت شرسة، سواء خارجياً أو حتى داخل الولايات المتحدة نفسها وحليفتها بريطانيا، لذلك سعت إدارة بوش الابن إلى تقديم "أدلة دامغة" ومن على منبر الأمم المتحدة تثبت أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل.
وقدم باول "عرضه الدرامي" أمام العالم، وبعدها بنحو 6 أسابيع أقدمت الولايات المتحدة بالفعل على غزو العراق وأطاحت بنظام صدام حسين، فماذا قال كولن باول نفسه عن ذلك "العرض" أمام مجلس الأمن الدولي في ذلك اليوم؟
وقف باول أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي وقتها وقدم عرضاً مدعماً بصور أقمار صناعية وتقارير استخباراتية زعمت ملاحقة شحنة من مكونات تستخدم في تصنيع أسلحة بيولوجية وقنابل إشعاعية "قنابل قذرة" من النيجر في إفريقيا حتى وصولها إلى العراق وتخزينها في منشآت لتصنيع تلك الأسلحة وتخزينها، مقدماً صوراً لتلك المواقع المزعومة.
"لقد كان خطأ رهيباً. وصمة سوف تظل مرتبطة بتاريخي المهني. لقد كان مؤلماً. لا يزال مؤلماً حتى اليوم. وسيظل مؤلماً حتى النهاية"، كانت تلك هي الكلمات التي استخدمها كولن باول لوصف ما قام به من تقديم "معلومات مفبركة وأدلة لا أساس لها من الصحة" على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، مؤكداً أن "هذا يجعل نظام صدام يمثل تهديداً خطيراً ومباشراً على الولايات المتحدة ومصالحها"، بحسب مقابلة معه أجرتها شبكة ABC الأمريكية عام 2005، بعد مغادرته منصبه في بداية فترة بوش الابن الثانية.
لكن موقع The Intercept الأمريكي، بعد 15 عاماً من غزو العراق، نشر تقريراً عنوانه "كذبة بعد كذبة.. ما الذي كان يعرفه كولن بأول عن العراق قبل 15 عاماً وما الذي قاله للعالم؟"، رصد تفاصيل ما حدث وأعاد تقديم الأدلة الموثوقة على أن "باول كذب على العالم بشكل واعٍ تمام".
فعلى الرغم من اعتراف باول بأن "الأدلة التي عرضها أمام العالم من على منبر مجلس الأمن الدولي" لم تكن "دقيقة"، إلا أنه ألقى باللوم على "نظام الاستخبارات"، مبرئاً في الوقت نفسه مدير وكالة الاستخبارات وقتها جورج تينيت من تهمة "معرفة أن الأدلة غير موثوقة".
وعندما غادر باول منصبه وخلفته كوندوليزا رايس وزيرة للخارجية، وانتشرت تقارير كثيرة عن وجود خلاف بين باول والرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد حول قرار غزو العراق، الذي قيل إن باول لم يكن متحمساً له، دافع باول عن "قرار الغزو" ولم يظهر ندماً على عدم الاستقالة اعتراضاً عليه.
باول قال في مقابلاته المتعددة بعد مغادرة منصبه إنه لم يكن "متحمساً" لغزو العراق وإزاحة نظام صدام حسين بالقوة، مؤكداً أنه لم يطلع على أي شيء يشير إلى وجود علاقة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة المسؤول عن تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001، ورغم ذلك قال إنه "سعيد بإزاحة نظام صدام".
وعندما كان تحاصره الأسئلة حول "الفوضى والدمار" الناجمين عن ذلك الغزو، كان ينفعل ويقول: "مَن كان بإمكانه أن يتوقع كل تلك الفوضى بعد الغزو؟!".
كيف كان "باول" يجمِّل إدارة بوش؟
وصف كثير من منتقدي إدارة بوش، التي أطلقت "الحرب على الإرهاب" في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول وغزت أفغانستان والعراق، دور كولن باول بأنه كان "تجميل" وجه تلك الإدارة وتبرير ما تتخذه من قرارات أمام الداخل الأمريكي والعالم الخارجي.
فقد كان باول دائماً يقدم "الولاء" على أي شيء آخر، بمعنى أنه ينفذ إرادة الرئيس حتى وإن كانت تلك الإرادة تتمثل في شن حرب أو غزو دولة أخرى دون مبرر. وعن تلك النقطة، قال باول في إحدى مقابلاته عام 2005 مع باربرا والترز المذيعة بقناة ABCNews إنه لا يتأثر بالنقد الذي يواجهه لتقديمه "الولاء للرئيس على واجبات القيادة التي يفرضها منصبه".
"الولاء صفة أقدرها تماماً. نعم أنا شخص أعشق الولاء. وهناك من يقول كان يجب عليك ألا تدعم تلك الحرب (غزو العراق). كان يجب أن تستقيل. لكنني سعيد أن صدام حسين قد رحل. أنا سعيد أن هذا النظام قد انتهى".
وفي نفس سياق الدور الذي كان يلعبه، زار باول دمشق عدة مرات، في أعقاب التوتر بين سوريا والولايات المتحدة بعد غزو العراق، حاملاً مطالب وتحذيرات أمريكية، ولكنه كان نسبياً يخفف الاحتقان بين البلدين خاصة أن إدارة بوش الابن كانت تعج بالصقور المستائين من دمشق، كتشيني ورامسفيلد.
وخلال شهادة له أمام إحدى اللجان في الكونغرس، قال باول في مارس/آذار 2003 إن على سوريا سحب "جيشها المحتل" من لبنان، وكانت تلك المرة الأولى التي يصف فيها الوجود السوري في لبنان بالاحتلال. وبالرغم من ذلك، كان باول يرى أن هناك مجالات كثيرة للتعاون ولم تنقطع زياراته لدمشق.
ولعب كولن بأول دوره في إدارة دفة السياسية الأمريكية لخدمة أجندة إدارة بوش على مدى السنوات الأربع من 2001 وحتى 2005، وهي السنوات التي شهدت غزو أفغانستان والعراق ومضاعفة ميزانية الجيش الأمريكي ليلعب دور "شرطي العالم" أو حسب وصف منتقديه "بلطجي العالم"، حتى غادر مقعد وزارة الخارجية الأمريكية لتخلفه في منصبه كوندوليزا رايس.