تشهد الولايات المتحدة اهتماماً متصاعداً بالأوضاع السياسية في ليبيا مؤخراً، هدفها المعلن هو إقامة الانتخابات في موعدها نهاية العام، ويواجه خليفة حفتر أبرز الطامعين في الترشح للرئاسة مآزق نتيجة لاهتمام واشنطن، فإلى أي مدى قد يتأثر الليبي-الأمريكي بتلك التحركات الأمريكية؟
شهدت الأسابيع القليلة الماضية تبني الكونغرس مشروع قانون "الاستقرار في ليبيا" من جهة، ومن جهة أخرى إصدار محكمة فيدرالية أمريكية قراراً نهائياً بضرورة مثول حفتر أمامها يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول الجاري لمواجهة اتهامات تتعلق بارتكاب جرائم حرب، إضافة إلى تركيز إعلامي لافت على ممارسات زعيم ميليشيات شرق ليبيا الذي يحمل الجنسية الأمريكية.
ومن المفترض، طبقاً لمخرجات المسار السياسي برعاية الأمم المتحدة، أن تشهد ليبيا انتخابات رئاسية في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، بينما اتخذ البرلمان قراراً بتأجيل الانتخابات التشريعية لمدة شهر بعد انتخاب الرئيس.
وعلى الرغم من ضبابية المشهد على الأرض بشكل عام في ليبيا، إلا أن البرلمان الذي يرأسه عقيلة صالح كان قد أقر يوم الإثنين 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري قانون الانتخابات التشريعية، بعد أقل من شهر من تبنّي المجلس قانون الانتخابات الرئاسية الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية داخل البلاد.
اهتمام أمريكي بالأوضاع في ليبيا
فيما يتعلق بموقف واشنطن من الملف الليبي بشكل عام، يمكن القول إنه منذ مقتل كريستوفر ستيفنز السفير الأمريكي وثلاثة أمريكيين آخرين في تفجير القنصلية في بني غازي عام 2012، تراجع الاهتمام الأمريكي بما يحدث في ليبيا واكتفت واشنطن بمتابعة قيادة القوات الأمريكية للموقف هناك والتنسيق في "الحرب على الإرهاب".
واستمر الموقف على تلك الصورة، ليتحول التأثير إلى قوى أخرى دولية وإقليمية، بينما التزمت واشنطن بسياسة ممارسة التصريحات الدبلوماسية من وقت لآخر والاصطفاف خلف مواقف حلفائها الغربيين بشكل كبير، دون أن تكون هناك سياسة خارجية أمريكية واضحة ومتسقة بشأن الأحداث في ليبيا.
وتجلى هذا الموقف الأمريكي، أو بالأحرى غياب موقف أمريكي، عندما شن خليفة حفتر هجومه على طرابلس مطلع أبريل/نيسان 2019، في انتهاك صارخ للقرارات الدولية ولجهود إقرار السلام في البلاد، والتي كانت تقودها الأمم المتحدة وكان أمينها العام غوتيريش في طرابلس تحضيراً لمؤتمر كان سيُعقد في غدامس لإعلان توقيتات الانتخابات.
في ذلك الوقت، كانت الخارجية الأمريكية تدعم القرارات الدولية والأممية، بينما أجرى الرئيس السابق دونالد ترامب اتصالاً هاتفياً مع حفتر، مما أثار انتقادات حادة للإدارة السابقة، وكانت تلك هي أكثر فترة (أبريل/نيسان 2019) يهتم فيها الإعلام الأمريكي بما يجري في ليبيا، لكن السبب بالطبع كان السخرية من تخبط إدارة ترامب وعدم وجود سياسة خارجية واضحة.
ومنذ تولى جو بايدن المسؤولية في يناير/كانون الثاني، يمكن القول إن الملف الليبي ظل غائباً عن أولويات السياسة الخارجية للإدارة وأيضاً عن الاهتمام الإعلامي، لكن ذلك الموقف بدأ يتغير بشكل لافت منذ الاستقرار على مواعيد إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وأصبح موقف واشنطن دافعاً بشكل واضح نحو ضرورة إجراء تلك الانتخابات في موعدها، بأي طريقة وبغض النظر عن المعوقات.
وانعكس ذلك الاهتمام على الكونغرس أيضاً، إذ صدق مجلس النواب على مشروع قانون "تحقيق الاستقرار في ليبيا" يوم 28 سبتمبر/أيلول الماضي، وينتظر مشروع القانون الآن دوره في مجلس الشيوخ ليتم التصويت عليه وإقراره، ثم يوقع عليه بايدن ليصبح نافذاً. ويحظى مشروع القانون بدعم مشرعين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو ما يعني أن إقراره مسألة وقت فقط، بحسب محللين أمريكيين.
تفاصيل محاكمة حفتر "الأمريكي"
النقطة اللافتة في هذا الاهتمام الأمريكي المتصاعد مؤخراً بالملف الليبي، وتحديداً الدفع نحو إقامة الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مواعيدها المقررة، هي تردد اسم "حفتر" طوال الوقت، بصفته مواطناً يحمل الجنسية الأمريكية.
ومن هذا المنطلق، يواجه حفتر اتهامات بارتكاب جرائم حرب أمام محكمة فيدرالية في ولاية جورجيا يرجع تاريخ بدايتها إلى العام الماضي. لكن تطورات المحاكمة وصلت إلى مرحلة متقدمة، إذ أمهلت القاضية "ليوني برينكيما" خليفة حفتر مهلة حتى يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، كي يقدم إفادته في الدعوى المرفوعة ضده، والرد على أسئلتها، بحسب وكالة أسوشيتد برس الأمريكية.
فبصفته مواطناً أمريكياً يمتلك أملاكاً بملايين الدولارات في ولاية جورجيا، تم رفع قضية من جانب ممثلين قانونيين لضحايا ليبيين تعرضوا لما وصفته الدعوى بأنه "جرائم حرب" ارتكبت بحقهم من جانب ميليشيات شرق ليبيا بزعامة حفتر، وتم إرسال مذكرات استدعاء لحفتر للمثول أمام المحكمة، لكنه كان يتجاهلها في البداية.
لكن مؤخراً أرسل حفتر، من خلال محاميه، رداً يفيد أنه يمتلك حصانة دبلوماسية بصفته "رئيس دولة أجنبية"، وطلبت المحكمة ما يثبت ذلك، ليرسل محامي حفتر خطاباً زعم أنه من حكومة الوحدة الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، يفيد بأن موكله يتمتع بالحصانة.
وبعد أن نشرت حكومة الوحدة بياناً نفت فيه صحة الخطاب المرسل من جانب حفتر للمحكمة، كثَّف حفتر ضغوطه على الدبيبة لتسمية وزير دفاع، وهو المنصب الذي يشغله الدبيبة نفسه، لدرجة أن حفتر هدد مسؤولي حكومة الوحدة بالمنطقة الشرقية والموالين له، بالاستقالة وتشكيل حكومة موازية بالشرق مع التلويح بقطع النفط.
وطلب محامي حفتر منح موكله حق عدم المثول أمام المحكمة، لاحتمال تعرضه لحكم الإعدام أو السجن إذا أدلى بأسرار عسكرية خلال شهادته، بحسب رئيس التحالف الليبي الأمريكي عصام عميش.
إلا أن محامي المتهمين أثبت أن هذه الرسالة مزورة استناداً إلى بيان لوزارة الدفاع بحكومة الوحدة، نفى فيها إصدار الوزارة "مذكرة استخدمها أحد الخاضعين للاستجواب أمام سلطات الادعاء في الولايات المتحدة الأمريكية للإفلات من المساءلة الجنائية".
كما أرسل خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي (نيابي استشاري) خطاباً رسمياً إلى محكمة فرجينيا، أوضح فيه أن "إفشاء الأسرار العسكرية أمر لا يعاقب عليه القانون في ليبيا، ولا يتعرض مفشي الأسرار العسكرية لعقوبة الإعدام"، كما ادعى دفاع حفتر.
وبحسب تغريدة لمبعوث حكومة الوحدة إلى الولايات المتحدة محمد علي عبد الله الضرّاط، فإن القاضية رفضت شطب الوثيقة من سجلات المحكمة التي قدمها محامي حفتر، بعد تقديم ما يفيد بأنها لم تصدر من قبل وزارة الدفاع الليبية، واكتفت بعدم الاعتداد بما ورد فيها.
فبيان وزارة الدفاع الليبية وخطاب المشري كانا كافيين لمحكمة فرجينيا لغلق هذا الملف، ومنح حفتر 14 يوماً للمثول أمامها يوم 28 من هذا الشهر، كموعد "نهائي".
هل تؤثر الضغوط "الأمريكية" على ترشح حفتر للرئاسة؟
قبل التطرق لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال، من المهم التوقف أمام بقية مشهد الاهتمام الأمريكي "المتأخر" بليبيا وما يجري فيها، فعلى مستوى الإعلام، أصبحت التقارير والتحليلات المتعلقة بالشأن الليبي حاضرة بشكل لافت مؤخراً، من زاوية التركيز على الوجود الروسي هناك وما يمثله من تهديد مباشر لخاصرة أوروبا الجنوبية. فالوجود الروسي في ليبيا حلم يوشك الرئيس فلاديمير بوتين على تحقيقه.
ونشرت مجلة National Interest قصة إخبارية بعنوان "يجب على واشنطن معاقبة زعيم الحرب والمواطن الأمريكي خليفة حفتر"، خلصت إلى أن "حفتر قد لا يكون مشكلة ليبيا الوحيدة، لكنه بالتأكيد العقبة الأكبر على طريق استقرار البلاد".
كما نشر موقع Al-Mointor تقريراً بعنوان "تبني الكونغرس قانون استقرار ليبيا قد يكون له تأثير جوهري على البلاد التي مزقتها الصراعات"، ركز على ضرورة إسراع مجلس الشيوخ في إقرار مشروع القانون حتى يوقعه الرئيس ويصبح سارياً قبل الانتخابات الرئاسية بهدف "منع حفتر" من الترشح من الأصل.
وفي القلب من هذا الدفع الإعلامي الأمريكي نحو ضرورة منع "مواطن أمريكي" من الترشح لرئاسيات ليبيا تأتي الاتهامات بارتكاب حفتر جرائم حرب في الفترة بين 2016 و2020 في ليبيا، وضرورة محاسبته على تلك الجرائم.
ومن الناحية القانونية، يواجه حفتر، في حالة عدم المثول أمام المحكمة أو تقديم دفوع أو ردود مكتوبة على الاتهامات الموجهة له قبل الموعد المحدد- أي في غضون أيام قليلة- خطر فرض غرامة مالية كبيرة عليه، ثم إصدار أمر قبض مدني، كما قال رئيس مؤسسة الديمقراطية وحقوق الإنسان عماد الدين المنتصر، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
ولهذا يسعى حفتر للإسراع بالترشح للرئاسة من أجل الحصول على حصانة رئاسية تقيه من المحاكمة، وهو ما دفع عقيلة صالح رئيس البرلمان للتصديق على قانون الانتخابات الرئاسية دون طرحه للتصويت أمام النواب، بحسب محللين. فإدانة حفتر بحكم قضائي متعلق بجرائم حرب وانتهاك حقوق الإنسان، سيجعل ترشحه محل شك أمام القوانين الليبية، ووضعه معقداً في نظر المجتمع الدولي وهيئاته.
والنقطة الأخرى هي أن قانون استقرار ليبيا، بعد اعتماده، يخدم مساعي نواب أمريكيين، لتعديل "قانون تفويض الدفاع الأمريكي"، بما يسمح بمحاكمة حفتر باعتباره مواطناً أمريكياً متهماً بجرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان.
وفي هذا السياق نقلت قناة الحرة الأمريكية (حكومية) عن النائب الديمقراطي توم مالينوفسكي، أن "التعديل الذي اقترحته مع زميلي تيد ليو، على قانون تفويض الدفاع الوطني، يطلب من الوزير (الخارجية أنتوني) بلينكن، ومن وزارة العدل، مراجعة جرائم الحرب والتعذيب التي ارتكبها مواطنون أمريكيون في ليبيا، من أجل الملاحقة القضائية المحتملة".
ويؤكد الكاتبان الأمريكيان ديبرا كاغن، وساشا توبريتش، بحسب "الحرة"، أن مشروع قانون حول جرائم الحرب والتعذيب المرتكبة من قِبَل مواطنين أمريكيين، "يطال المواطن الأمريكي الليبي خليفة حفتر".
الخلاصة هنا هي وجود كثير من المؤشرات على وجود ما يصفه البعض بتوجه أمريكي نحو ممارسة ضغوط على حفتر لمنعه من الترشح للرئاسة في ليبيا، لكن مدى تحقق مساعي واشنطن في ذلك التوجه مرتبط- بحسب بعض المراقبين- بالموقف على الأرض وتوازنات القوة ومدى استعداد واشنطن "لإجبار" حفتر على التخلي عن طموحه في حكم ليبيا، وهو السبب الأساسي في تعميق الانقسام بين الشرق والغرب واستمرار الحرب والدمار في البلاد.