تشهد الساحة السياسية في العراق الآن مفاوضات لتشكيل الحكومة، يدور أغلبها خلف الأبواب المغلقة، في أعقاب نتائج الانتخابات التي ترفضها فصائل الحشد الشعبي، فهل يكون استمرار الكاظمي المخرج الأقرب لأرض الواقع؟
ونتج عن الانتخابات، التي أجريت الأحد 10 أكتوبر/تشرين الأول، فوز كتلة "سائرون" التابعة للتيار الصدري بالصدارة بـ73 مقعداً في البرلمان البالغ إجمالي مقاعده 329، وتلتها كتلة "تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان المنتهية ولايته ب38 مقعداً.
وفي المركز الثالث جاءت كتلة "دولة القانون" برئاسة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق بـ37 مقعداً، ثم الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود برزاني وحصد 32 مقعداً.
وفاز تحالف "الفتح والبناء" برئاسة القيادي في "الحشد الشعبي" هادي العامري بـ17 مقعداً فقط، بينما سجل تحالف "قوى الدولة الوطنية" برئاسة عمار الحكيم رئيس تيار "الحكمة" المتحالف مع تحالف "النصر" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، "التراجع الأكبر" بين القوائم والتحالفات الشيعية، بحصولهما على 4 مقاعد فقط. بينما حصدت أحزاب ناشئة وشخصيات مستقلة نحو 40 مقعداً.
رفض الحشد الشعبي الاعتراف بالنتائج
حتى الآن لا تزال النتائج غير نهائية، ومن المقرر أن تحسم مفوضية الانتخابات الطعون على النتائج خلال أيام، ومن ثم ترسل النتائج النهائية إلى المحكمة الاتحادية للمصادقة عليها وإعلانها.
لكن المؤشرات تؤكد أنه على الأرجح لن تحدث تغييرات على ترتيب الكتل بشكل عام، وربما يكون أبرز ما رشح في أعقاب إعلان النتائج الأولية مباشرة هو رفض فصائل الحشد الشعبي المدعومة من إيران للنتائج، ووصل الأمر إلى تهديدات مبطنة باللجوء إلى استخدام السلاح.
وأُجريت هذه الانتخابات قبل عام من موعدها المقرر استجابة للاحتجاجات غير المسبوقة التي شهدها العراق، بدءاً من مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019 واستمرت لأكثر من سنة، وأطاحت بالحكومة السابقة، بقيادة عادل عبد المهدي، أواخر 2019.
وتنضوي فصائل وكتل الحشد الشعبي ضمن ما يعرف بـ"الإطار التنسيقي"، وأبرزها "تحالف الفتح" و"دولة القانون" و"عصائب أهل الحق"، التي حصدت مجتمعة حزب الله العراقي ضمن "الإطار التنسيقي"، وهو يضم قوى سياسية وفصائل 51 مقعداً فقط، بعد أن كان تحالف "الفتح" بمفرده قد حل ثانياً في انتخابات 2018 بـ48 مقعداً.
وبعد أقل من 30 دقيقة فقط من إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية، للنتائج الأولية، أعلن أبو علي العسكري المسؤول الأمني والعسكري في كتائب حزب الله العراقية، رفضه نتائج الانتخابات، ودعا الفصائل المسلحة الشيعية إلى الاستعداد للمرحلة الحرجة القادمة.
ووصف هادي العامري الانتخابات بأنها "مفبركة"، وهو الموقف الموحد تقريباً لفصائل الحشد الشعبي والمتحالفين معها، والأحد 17 أكتوبر/تشرين الأول، دعت كتائب حزب الله العراقي إلى محاكمة رئيس الحكومة المنتهية ولايتها مصطفى الكاظمي وتوعدت بتصعيد الأمور إلى "ما لا تحمد عقباه"، رفضاً للنتائج الرسمية الأولية للانتخابات، بعد أن أعلنتها المفوضية السبت.
وقال أبو علي العسكري، المتحدث العسكري باسم الحزب المسلح المقرب من إيران، عبر حسابه بـ"تويتر" إن "ما حصل في الانتخابات البرلمانية قبل أيام هو أكبر عملية احتيال وخداع على الشعب العراقي". وتابع: "لذا يجب محاكمة الكاظمي على ما قام به من أفعال وآخرها الخيانة الكبرى التي ارتكبها بالتواطؤ مع الأعداء (يقصد الولايات المتحدة الأمريكية) لتزوير الانتخابات".
ودعا إلى "العمل بأسرع وقت على إعادة حقوق الناخبين ومرشحيهم، وإلا فإن الأمور ذاهبة إلى ما لا تحمد عقباه (من دون توضيح)". وكان ذلك بعد اتهام "الإطار التنسيقي" حكومة الكاظمي و"جهات خارجية" (تقصد واشنطن) بتزوير نتائج الانتخابات. لكن الكاظمي رد على الاتهامات بالتشديد على "نزاهة" الانتخابات، معرباً عن رفضه "الابتزاز".
سيناريوهات تشكيل الحكومة العراقية
على أية حال وبعيداً عما قد تسفر عنه تهديدات فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران، بدأت بالفعل الكتل الفائزة في الانتخابات التحضير للدخول في تحالفات بغرض تشكيل أغلبية برلمانية تسمح بتشكيل الحكومة المقبلة.
وبحسب الدستور العراقي الذي تم إقراره بعد الغزو الأمريكي عام 2003 على أساس المحاصصة الطائفية، منصب رئيس الحكومة محجوز للشيعة، بينما منصب رئيس البرلمان من نصيب السنة ومنصب رئيس الدولة للأكراد.
ولا بد للتكتل الذي سيشكل الحكومة أن يمتلك على الأقل أغلبية بسيطة من مقاعد البرلمان، أي 165 مقعداً على الأقل من 329. وفي أعقاب الانتخابات السابقة في 2018، تحالف التيار الصدري (54 مقعداً) مع تيار "الفتح" (48 مقعداً) وانضمت إليهم كتل أخرى منها واختاروا عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة.
لكن الأمور مختلفة تماماً هذه المرة، في ظل عدد من المتغيرات أبرزها الانقلاب الذي شهدته حصص التكتلات والأحزاب التقليدية من جهة، وتداعيات الحراك الشعبي أو الاحتجاجات أو الثورة- على حسب التسميات المختلفة للانتفاضة ضد الفساد وضد الطبقة السياسية ونظام المحاصصة الطائفية- على المشهد السياسي في العراق من جهة أخرى.
فمع اندلاع الاحتجاجات في أكتوبر/تشرين الأول 2019، اتخذ مقتدى الصدر موقفاً معلناً ضد التدخل الخارجي في شؤون العراق، وهو ما ميزه عن فصائل الحشد الشعبي المدعومة من إيران، وبالتالي فإن هذا الموقف يجعل من تكرار التحالف بين "سائرون" الصدري وأي من أحزاب وفصائل "الإطار التنسيقي" غير وارد، بحسب المراقبين.
وتشير أغلب المؤشرات والتصريحات الصادرة عن التيار الصدري ورئيسه مقتدى الصدر إلى رغبة التيار في الحصول على منصب رئيس الحكومة المقبلة، وذكرت تقارير إعلامية محلية وغربية- نقلاً عن مصادر في التيار- أن الصدر يرغب في تولي المنصب بنفسه.
فبعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، سارع مقتدى الصدر إلى التصريح بأن الحكومة القادمة والتي سيشكلها التيار الصدري داخل البرلمان، وفقاً للدستور العراقي الذي ينص على أن الكتلة البرلمانية الأكبر والتي تحصد أكبر عدد من المقاعد، لها اليد العليا في اختيار الحكومة المستقبلية ورئيس الوزراء، سوف تقوم بحصر السلاح المنفلت، حتى وإن كان سلاح المقاومة، في إشارة إلى الفصائل المسلحة الموالية لإيران.
كما أعلن مقتدى الصدر أن جميع السفارات الأجنبية بما فيها السفارة الأمريكية ببغداد، التي كانت هدفاً مستمراً للفصائل المسلحة المقربة من إيران، والتي استهدفتها طوال العام الماضي بشكل شبه يومي، مرحب بها، وأنه سوف يتعاون مع كافة الدول الأجنبية، دون انتهاك للسيادة العراقية.
لكن موقف الكتلة الصدرية لا يزال "متأرجحاً" بين إصرار على أن يكون المرشح لرئاسة الوزراء من أعضاء الكتلة، أو أن يكون مرشحاً "مستقلاً"، وفق تصريحات متناقضة لقيادات التيار الصدري.
هل يكون الكاظمي المخرج الوحيد؟
بحسب مقال لرائد الحامد نشرته وكالة الأناضول، يتجه المشهد السياسي العراقي في المرحلة الفاصلة بين انتظار إعلان النتائج النهائية وعقد أول جلسة لمجلس النواب الجديد، نحو تشكيل تحالفين شيعيين كبيرين، كلاهما يسعى لضم أكبر عدد من النواب، سواء ضمن قوائم انتخابية أو مستقلين، لتشكيل "الكتلة الأكثر عدداً"، وتسمية مرشحها لرئاسة الوزراء.
ونهاية الأسبوع الماضي، شكّلت الكتلة الصدرية لجنة رباعية بصلاحيات كاملة للتفاوض مع الكتل السياسية لتشكيل تحالف واسع، تمهيداً لتشكيل "الكتلة النيابية الأكثر عدداً" في أول جلسة برلمانية، بما يمهِّد لتشكيل الحكومة الجديدة. لكن اللجنة لم تعلن بعد عن أي تحالفات، مكتفية بإعلانات مستمرة عن مواصلتها المفاوضات مع كتل سياسية تحمل توجهات منسجمة مع توجهات الكتلة الصدرية.
بينما أعلنت القيادية في ائتلاف "دولة القانون"، عالية نصيف، تشكيل تحالف يرأسه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، يضم أكثر من 85 نائباً من نواب تحالف الفتح وائتلاف "دولة القانون" وقوى أخرى لم تفصح عنها. ولم يؤكد مكتب ائتلاف "دولة القانون" أو ينفي ذلك رسمياً.
ورغم صعوبة قراءة ما ستشهده ساحة التنافس السياسي، يرجِّح مراقبون تفوق ائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي في عقد تحالفات أشمل لضم عدد من النواب أكبر مما ستجمعه الكتلة الصدرية لأسباب منها فقدان الكتل السياسية الثقة بثبات الصدر على مواقفه بعد تجارب في دورات انتخابية سابقة شهدت اتخاذه قرارات فاجأت شركاءه في التحالفات، مثل إعلان انسحابه من التحالف أو العملية السياسية أو مجلس النواب.
ومن الصعب الحكم باستقرار التحالفات على ما هي عليه حتى قبل الجلسة الأولى لمجلس النواب، إذ توجد احتمالات راجحة لتحالف كيانات جديدة مع الكتلة الصدرية أو ائتلاف "دولة القانون" أو خروجها منهما.
ولذلك لا يمكن الجزم بأن "الكتلة النيابية الأكثر عدداً"، والتي ستسمي مرشحها لرئاسة الوزراء، ستنجح بالحصول على الأغلبية المطلقة من النواب، سواء مرشح الكتلة الصدرية أو مرشح ائتلاف "دولة القانون"، إذ تشير قراءات أولية إلى صعوبة ترجيح المرشح الأكثر حظاً.
في كل الأحوال، فإن الكتلة الصدرية ستراهن على إفشال تمرير حكومة أي من المرشحين الآخرين، والذهاب إلى خيار التوافق على مرشح مستقل، مع معطيات بأن رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي سيكون هو المرشح التوافقي المستقل المدعوم من الكتلة الصدرية، التي جاءت به إلى رئاسة الوزراء في 7 مايو/أيار 2020.
وبحسب تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي، يمكن للتيار الصدري التحالف مع كتلة "تقدم" السنية برئاسة الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني، وفي هذه الحالة سيحتاج هذا التحالف إلى نحو 10 مقاعد أو أكثر قليلاً يمكن بسهولة ضمانها من خلال المستقلين أو كتلة المقاعد المحسوبة على الحراك (كتلة الحراك والمستقلين يضمون معاً نحو 40 مقعداً).
أما السيناريو الآخر والمتمثل في تشكيل تحالف بزعامة المالكي ففرصه تبدو أقل، إذ إن مقاعد "الإطار التنسيقي" مجتمعة لا تزيد عن 60 مقعداً فقط، وحتى لو انضمت له كتلتا الحلبوسي وبرزاني، سيكون بحاجة إلى عدد كبير من المقاعد ليضمن أغلبية بسيطة، وهو ما يجعل فرصة هذا السيناريو أضعف من فرصة سيناريو بقيادة الصدر.
وسيكون التوافق على مرشح مستقل لرئاسة الحكومة النقطة الفاصلة في هذا السيناريو الأول، ويبدو أن فرصة استمرار الكاظمي رئيساً للحكومة المقبلة هي السيناريو الأكثر ترجيحاً، مما يعني استمرار معركة تكسير الأصابع بينه وبين ميليشيات الحشد الشعبي، والتي بدأت منذ توليه منصبه.