نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً يروي كيف حوَّلت تكنولوجيا التعقب والتجسس خلال العقدين الماضيين الصينيين إلى أمة من المتلصصين على بعضهم البعض، حتى أن بعضهم بات يعتاش على هذه العادة، بل أصبح هناك ازدهار كبير لأعمال التجسس في الصين لأسباب مختلفة شديدة الغرابة، مثل غياب الثقة والشك المتبادل بين الأزواج.
وتروي الصحيفة تجربة أحد العاملين لوقت طويل في مجال التلصص في الصين الذي يدعى "هي زيهوي"، إذ يقول إن الأمر بدأ معه عام 2005، حيث كان قد أنهى للتو خدمته في الجيش الصيني، وصادفه إعلان في إحدى الصحف المحلية، تبحث فيه وكالة تحقيقات خاصة عن موظفين "للعمل في مجال تعقُّب المتهربين من سداد ديونهم، والتحري عن أدلة على العلاقات السرية خارج نطاق الزواج".
وفي ذلك الوقت كانت التكنولوجيا وأدواتها التي لطالما اعتُبرت حكراً على جواسيس الحكومة قد بدأت في الشيوع بين عموم الناس على نحو متزايد، وهو ما دفع زيهوي إلى إطلاق مسيرته في الممارسة السرية التي رأى أنها يمكن أن تصبح مهنة ناجحة له، وهي التلصص.
كيف ساعدت القوانين على ازدهار أعمال "التلصص" في الصين؟
تروي الصحيفة قصة زيهوي فتقول: كان معظم زبائنه من النساء الباحثات عن أدلة على خيانة أزواجهن لهن، أو العكس. بعد فترة، اشتهر بتميزه في مجاله بناءً على المهارات التي تعلمها لمَّا كان ضابط استطلاع في جيش التحرير الشعبي الصيني.
ومثله مثل غيره من المحققين، كان زيهوي يتلقى ما يعادل عدة مئات من الدولارات لمراقبة الأزواج والزوجات المنحرفات من مسافة بعيدة، والتقاط الصور لهم خفيةً بكاميرته ذات العدسات الطويلة. إلا أن زيهوي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، واستعان بتركيب أجهزة تنصت صغيرة في الهواتف والسيارات وغرف الفنادق لتسجيل كل كلمة تُنطق وكل صوت يصدر عن الهدف الذي يتولى مراقبته.
في مقابلته مع صحيفة The Times، يقول زيهوي إن العمل كان مستقراً ومربحاً، فقد كانت اللوائح القانونية المتعلقة الأمر مبهمة، ومع توفر الأدوات التكنولوجية بسهولة أكبر، أصبح في الإمكان التنصت على أي غرفة والخروج منها دون ترك أي أثر.
استأجر زيهوي مكتباً كبيراً في برج Haiwang Mansion الواقع في حي ناشان، وكان المبنى أحد أكثر المباني المكتبية شهرةً في مدينة شنغن التي كانت مركز القطاع التكنولوجي بالصين في ذلك الوقت. ويقول زيهوي إنه "كان يشعر وقتها أنه يقدم المساعدة لأناس ضعفاء" يحتاجون إلى خدماته.
يقول زيهوي إن موكليه كانوا في كثير من الأحيان لا يكترثون بالأدلة على الخيانة الزوجية من عدمها، وغالباً ما كانت بوادر الشك تكفي لتدهور العلاقات، وفي النهاية تقود إلى الطلاق. وأضاف: "كنت أخوض صراعاً مع نفسي لزمن طويل".
ظاهرة التنصت والتعقب.. من قبضة الحكومة الصينية إلى التفشي بين المواطنين
ظلت مسيرة زيهوي المهنية مستقرة إلى أن تصدَّرت الانتقادات لكاميرات التجسس المحمولة عناوين الصحف بعدما تبين أنها كانت تستخدم في جميع أنحاء آسيا للتحرش والتقاط الصور خلسةً للنساء من تحت تنانيرهن (upskirting). وفي عام 2010، تصاعد الغضب العام عندما نُشر على الإنترنت مقطع فيديو التُقط خلسة وتظهر فيه بطلة الغطس الصينية الأولمبية غوه جينغ جينغ وهي تتدرب في حمام سباحة.
كان زيهوي، كما غيره ممن يعتاشون من التلصص في الصين، واثقاً بأنه لن يقع تحت طائلة السلطات. فقد كان قانون الخصوصية في هذا الوقت يتألف من سطر واحد فقط، ونصه كالتالي: "أولئك الذين يسرقون المعلومات الشخصية لأي مواطن أو يحتفظون بها بغير السبل القانونية يمكن أن يُعاقبوا بالغرامة و/أو الحبس لمدة تصل إلى 3 سنوات".
مع ذلك، فوجئ زيهوي بمداهمة ضباط الشرطة لمكتبه ذات يوم من عام 2010. وبعد تفتيش جهاز الكومبيوتر الخاص به، اكتشفوا المحتويات النصية لعشرات المكالمات الهاتفية الخاصة. اعتُقل زيهوي وقضى 7 أشهر في السجن ضمن أوائل الناس الذين استهدفتهم الحملة التي شنتها الحكومة الصينية للحدِّ من ظاهرة التلصص التي باتت متفشية في جميع أنحاء المجتمع بحلول ذلك الوقت.
ومع أن قوانين جديدة صدرت لحماية المعلومات الشخصية، فإن ظاهرة التنصت المتفشية على نطاق واسع استمرت في انتشارها بلا هوادة.
اليوم، أصبحت البرامج التعليمية حول تركيب أجهزة التنصت والكاميرات السرية أمراً شائعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع الحكومة إلى الإعلان رسمياً عن عزمها معاقبة وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التجارة الإلكترونية إذا تقاعست عن إزالة مقاطع الفيديو المخالفة.
بالإضافة إلى ذلك، شنَّت الحكومة حملةً على السوق السرية للكاميرات الخفية ومعدات التجسس، واستهدفت المجرمين الذين كانوا يخترقون الهواتف وما يُعرف بـ"منازل التحكم الذكي"، ويستخدمون الكاميرات السرية للتجسس.
وقالت بكين إن استخدام الكاميرات من هذا النوع "ينطوي على انتهاك شديد للخصوصية ويعرض الشبكات لخطر الاختراق"، وهو ما ضاعف "مشاعر السخط العام" على مرتكبي هذه الانتهاكات.
"تجار بيع المعلومات"
على الرغم من كل ذلك، يبدو أن تجارة بيع المعلومات الخاصة لا تزال تجارة مزدهرة. فقد نقلت وسائل إعلامية تابعة للدولة تقارير استقصائية يزوِّد فيها "تجار بيع المعلومات" عبر الإنترنت مراسلين سريين بالتفاصيل الخاصة لأفراد، ومنها محادثاتهم الهاتفية وتواريخ تسجيل الوصول في الفنادق، مقابل ما يعادل 27 دولاراً أو 40 دولاراً أو نحو ذلك.
بعد إطلاق سراحه من السجن، يقول زيهوي إنه أدرك أن بإمكانه جني المزيد من الأموال، لكن بحماية الناس من التجسس، فقد تحول من متجسسٍ إلى خبير في مكافحة التجسس.
الآن، أصبح المحقق الخاص السابق باحثاً عن الكاميرات، يفتِّش المكاتب بحثاً عن أجهزة التنصت التي كان يركِّبها في يوم من الأيام.
من جانب آخر، أدت القوانين الصارمة التي فرضتها الحكومة لحماية الخصوصية، ومعها الفضائح البارزة بين الحين والآخر، إلى تركيز أدوات المراقبة في أيدي السلطات، التي باتت الآن مهيمنةً إلى حد كبير على كل ما يتعلق بتنظيم بيع هذه التكنولوجيا للجهات الفاعلة غير الحكومية.
يتزامن ذلك مع بحث الرئيس الصيني شي جين بينغ عن وسائل جديدة لحماية خصوصية البيانات التي تُجمع من بطاقات الضمان الاجتماعي وكاميرات المراقبة وغيرها من التقنيات.
يسترجع زيهوي ذكريات زياراته المعتادة إلى أسواق الإلكترونيات في مدينة شنغن، حيث كان يشتري ويبحث عن أجهزة التجسس الجديدة، ويروي: "كانت العادة أن تجد أشخاصاً يبيعون كل شيء، حتى كاميرات بحجم ثقب الباب، على جانب الشارع، ولم يكن أحد يتعرض لهم"، لكنه يقول إنه "رأى الشرطة تقبض عليهم لاحقاً".
من التجسس إلى مكافحة التجسس
يعمل زيهوي الآن في شركة Antebao Group، وهي شركة ناشئة تعمل في مجال الحماية من التجسس ويقع مقرها في مدينة شنغن أيضاً، ويقول زيهوي إن شركته تستخدم نحو 10 أجهزة في المرة الواحدة لتفتيش الغرف بحثاً عن أجهزة التجسس.
يعمل زيهوي بمفرده، ويستغرق منه تفتيش المكتب الذي تبلغ مساحته 40 متراً مربعاً نحو 30 إلى 50 دقيقة، ويتوقف الأمر على أثاث الغرفة. وبالتعاون مع زملاء له، ابتكر زيهوي كاشفات لكاميرات التجسس تستعين بتحليل موجات الراديو لرصد الأشياء غير المألوفة في الأماكن الخاضعة للتفتيش.
يشير زيهوي إلى أن معظم زبائنه شركات كبرى، تخشى تجسسَ المنافسين عليها. ويقول إنه في معظم الأوقات لا يجد شيئاً، لكن "راحة بال العميل هي أهم شيء".
على الرغم من الضوابط التي فرضتها الدولة، يعتقد زيهوي أن أساليب التجسس القديمة لا تزال قيد الاستخدام. ويستشهد زيهوي بإحدى المهمات التي قام بها مؤخراً، فقد استعانت به سيدة شعرت بالقلق من أن صديقها يبدو أنه يعرف كل شيء عن تفاصيل حياتها، واستأجرت شركة زيهوي لتفقُّد شقتها، وكانت المفاجأة أنه وجد كاميرا تجسس في أحد مقابس توصيل الكهرباء في الحائط.
قررت السيدة ألا تبلغ الشرطة بالواقعة، ومع ذلك فقد عثرت بعدها بستة أشهر على جهاز تنصت آخر في مكيف الهواء الخاص بها. يشارك زيهوي الآن أيضاً في تدريب مديري الفنادق على تفتيش الغرف للتيقن من خلوها من أي أجهزة تجسس قبل استضافة رواد الفندق. وحينما يتذكر عمله القديم، يقول: "كان تفكيري في السابق ينقصه النضج، أما الآن، فقد بِتُّ أكثر إدراكاً لحسِّ العدالة".