"إنهم مجرد جراثيم"، هكذا وصف الرئيس السوري بشار الأسد الرجال والنساء والأطفال الذين نزلوا إلى الشوارع في ربيع عام 2011 للمطالبة بالإصلاح السياسي- والذين كان العديد منهم يحملون الورود في الهواء تعبيراً عن السلام.
لجأ الثوار بعد إلى القوة بسبب عنف الأسد الوحشي، والآن بعد عشر سنوات، قُتل ما لا يقل عن نصف مليون سوري، واختفى أكثر من 100 ألف، ونزح أكثر من نصف السكان، وأصبحت مشكلة اللاجئين السوريين تثقل كاهل دول الجوار السوري ودول أوروبا في آن واحد.
ورغم فداحة جرائم نظامه، يجلس بشار الأسد في دمشق اليوم مرتاحاً أكثر من أي وقت مضى منذ عام 2011. والمجتمع الدولي، المرهق وغير المكترث في أغلب الأحيان، لا يتخذ أي إجراء ملموس لحل الأزمة السورية المستمرة، ناهيك عن أي نوع من العدالة أو المساءلة.
وفي الواقع، يبدو أن العالم يقبل تدريجياً بعودة الأسد إلى المجتمع الدولي، وبالتالي التصالح مع الفظائع التي ارتكبها نظامه، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فعلى سبيل المثال أعاد الإنتربول، في خطوة غير اعتيادية، سوريا إلى شبكاته أوائل أكتوبر/تشرين الأول، وهذا يعني تمكين نظام بشار الأسد من إصدار مذكرات توقيف دولية (ما يسمى بالنشرات الحمراء) لأول مرة منذ عام 2011، وتعريض مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في الخارج للخطر.
وقررت منظمة الصحة العالمية كذلك، في مايو/أيار، منح سوريا مقعداً في مجلس إدارتها رغم ملف النظام الموثق في قصف المستشفيات وتقييد إيصال المساعدات وغير ذلك من الفظائع.
كيف تغيرت طريقة أمريكا في التعامل مع بشار الأسد؟
أما إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فقد تبنت نهج الامتناع عن التدخل قدر الإمكان في تعاملها مع سوريا. ورغم أن إدارة بايدن نفسها قد لا ترحب بعودة نظام بشار الأسد إلى الحظيرة الدولية بأذرع مفتوحة، فمن الواضح أنها تركت الباب مفتوحاً أمام الآخرين لفعل ذلك، لتحطم بذلك الأعراف الدولية وتمنح مجرم حرب القرن الحادي والعشرين الأشهر شهادة ميلاد جديدة.
ورغم الضغوط الكبيرة من الكونغرس والجماعات المعنية الأخرى، لم تعين الإدارة مبعوثاً مخصصاً لسوريا، بل قررت في سبتمبر/أيلول الاستغناء عن هذا الدور تماماً ودمجه في المسؤوليات الإقليمية الشاملة لنائب مساعد وزير الخارجية الجديد لشؤون الشرق الأدنى إيثان غولدريتش.
ونظرياً، لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بالتوصل إلى تسوية سياسية تتوافق مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254 لعام 2015، الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار على مستوى البلاد وإلى مفاوضات تقودها سوريا وتيسِّرها الأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سياسية تؤدي إلى "حكم يتمتع بالمصداقية وشامل وغير طائفي"، وصياغة دستور جديد، وإقامة انتخابات وطنية حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة. ولكن في ظل غياب مساعٍ دبلوماسية جادة من جانب الولايات المتحدة، فهذا لن يحدث.
الحلفاء العرب لأمريكا يطبعون مع الأسد بضوء أخضر من بايدن
حلفاء الولايات المتحدة تعاملوا مع غياب نهج أمريكي شامل وملموس بطرق مختلفة. ففي أوروبا، حفز هذا الغياب ابتعاداً مماثلاً عن الشأن السوري، وصحيح أن هذا نابع جزئياً من شعور بالإرهاق، ولكن يصحبه أيضاً التسليم بأن غياب دور أمريكي مُكمِّل لن يدفع الحكومات الأوروبية إلى السعي وراء ما لا يمكن تحقيقه دونه.
أما حكومات بلدان الشرق الأوسط، فكانت استجابتها مختلفة. حين وصلت إدارة بايدن إلى السلطة في يناير/كانون الثاني، كانت المنطقة داعمة إلى حد كبير للقرار 2254، ولضرورة التوصل لتسوية سياسية، ومطلب الولايات المتحدة بتغيير سلوك النظام السوري (وليس تغيير النظام) ورهنه بإعادة العلاقات الدبلوماسية أو إعادة البناء الاقتصادي.
ولكن حين زار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني واشنطن في يوليو/تموز أثناء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، جاء بفكرة جديدة للتعامل مع سوريا: إذا أردتم حقاً رؤية تغيير في سلوك نظام الأسد، فيجب علينا تحديد مفهوم هذا التغيير والبدء في مجموعة "تدريجية" من الاختبارات وتدابير بناء الثقة مع النظام للتأكد من استعداده للعمل بشكل بنّاء.
وفي الأسابيع التي تلت ذلك، كانت هذه التغييرات كبيرة، إذ أُبرم اتفاق متعدد الأطراف لإحياء وتوسيع مشروع خط الغاز العربي (الذي عمل لفترة وجيزة من عام 2008 إلى 2010) لنقل الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عبر الأراضي الأردنية والسورية. وساهمت السفارة الأمريكية في بيروت بدور رئيسي في إنجاح هذه المفاوضات، وشجعت الأطراف على المضي قدماً في إشارة إلى إعفاء من العقوبات الأمريكية على نظام الأسد بموجب قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، التي كان يمكن أن تحظر الاتفاق.
ومنذ الإعلان عن صفقة الغاز، استقبل الأردن مجموعة من وزراء الحكومة السورية- الطاقة والنقل والموارد المائية والزراعة والإصلاح الزراعي والاقتصاد والتجارة والصناعة، والأخطر، وزير الدفاع المطارد دولياً علي أيوب. وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول، تحدث عبد الله عبر الهاتف مع بشار الأسد نفسه، وفقاً للديوان الملكي الأردني، وتحدثا عن العلاقة بين "دولتيهما الشقيقتين وسبل تعزيز التعاون".
وفي أثناء جهود الأردن الدبلوماسية، شارك وزير الخارجية السوري فيصل المقداد (المدرج حالياً في قائمة عقوبات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي) في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول والتقى به سبعة وفود غير مسبوقة من الشرق الأوسط على مستوى الوزراء. وفي الأثناء، جددت الجزائر عزمها إعادة ضم سوريا إلى جامعة الدول العربية وقت استضافة القمة العربية المقبلة في الجزائر أواخر عام 2021.
وجددت الإمارات بدورها الروابط الاقتصادية مع دمشق: إذ دعت سوريا للمشاركة في معرض إكسبو دبي في أكتوبر/تشرين الأول، وعقدت اجتماعات وزارية مع وزير الاقتصاد والتجارة السوري، نوقشت خلالها آفاق التعاون الاقتصادي والاستثمار وأعرب المسؤولون الإماراتيون عن رغبتهم في عودة سوريا إلى وضعها السابق قبل عام 2011. وناقش البلدان أيضاً إعادة تفعيل مجلس رجال الأعمال السوري الإماراتي. بل هنأت الإمارات سوريا علناً "قيادة وشعباً" في 5 أكتوبر/تشرين الأول على دور البلاد في "حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973".
ورغم أن هذه التحركات مدفوعة في الأساس بديناميات وقرارات إقليمية، فيبدو أنها لم تزعج إدارة بايدن، رغم تأثيرها السلبي على دعم الولايات المتحدة المعلن للتفويض التوجيهي الوحيد في العالم للشأن السوري: القرار 2254. ورغم تأكيدها استمرار دعمها للقرار 2254 والمبادئ المرتبطة به، وإعلان وزارة الخارجية أكثر من مرة أن الولايات المتحدة "لن تطبع أو تطور علاقاتها الدبلوماسية مع نظام الأسد"، فمن الواضح جلياً أن رغبة واشنطن لمعارضة أو منع حلفائها في المنطقة من ذلك تتضاءل.
ويبدو أن استراتيجية الامتناع عن التدخل قدر الإمكان التي تتبعها إدارة بايدن، أو بعبارة أكثر وضوحاً، نهجها المزدوج (لا تحب التطبيع مع بشارالأسد ولكن لا تمنعه، وفي بعض الأحيان، تسهّل التطبيع معه) جزء من فلسفة أوسع يمكن تسميتها بـ"الاستقرار المفوض" مع الشرق الأوسط، حيث تُمنح دول المنطقة إذناً ضمنياً لمحاولة حل الأزمات الكبرى في المنطقة بنفسها بأقل قدر من التدخل الأمريكي، حسب تقرير مجلة Foreign Policy.
ورغم أن النتائج قد تكون في كثير من الأحيان غير مستساغة، فهذا النهج من الناحية النظرية يمكّن إدارة بايدن من التركيز على المشكلات التي ترى أنها أشد أهمية، مثل خصومتها مع الصين.
لكن النظرية لا تترجم دوماً بشكل جيد إلى واقع. فلن يؤدي تجاهل الأسباب عميقة الجذور للأزمة السورية والسماح لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بمنح الأولوية لمصالحهم الخاصة المباشرة مع سوريا إلى الاستقرار. فسوريا بمسارها الحالي ووجود بشار الأسد على رأس دولة محطمة ينخرها الفساد واقتصاد محطم، فمصيرها لن يكون سوى الشقاء. والمستقبل لا يبدو مشرقاً إلا لنظام الأسد والشبكات الإجرامية والمنظمات الإرهابية التابعة له.
والأدهى أن عودة دول المنطقة للتواصل مع نظام بشار الأسد تشكل تهديداً جديداً لملايين السوريين الذين يعيشون لاجئين في البلدان المجاورة. فالتقارير التي تفيد باعتقال المخابرات الأردنية لصحفيين سوريين في العاصمة الأردنية عمَّان، وتهديدهم بالترحيل لانتقادهم للنظام السوري علامة مقلقة للغاية على ما قد يخبئه المستقبل.
وفي الوقت الحالي، كان أداء إدارة بايدن في نقطتين من أولوياتها في الشأن السوري، توصيل المساعدات الإنسانية ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ممتازاً. لكن استمرار نجاحها في هذين المجالين سيظل موضع شك في غياب استراتيجية أوسع وأشمل. ومع عودة دول المنطقة للتواصل مع نظام الأسد بمعدل غير مسبوق، فمن المؤكد أن احتمالية استعداد روسيا للسماح بالمرور عبر الحدود إلى شمال سوريا ستتراجع.
الإدارة الكردية على وشك التداعي، وقد تتجه لاتفاق مع النظام
ورغم أن الحكومة الأمريكية كانت شديدة الوضوح في أنها لا تنوي سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، فالاقتصاد المتردي بشكل متزايد "للإدارة الذاتية" لقوات سوريا الديمقراطية يلقي بظلال الشكك على استمرار نشر القوات أيضاً. ووفقاً لمصادر، فالبيروقراطية المتضخمة للإدارة الذاتية والاعتماد على الليرة السورية التي انخفضت قيمتها بشكل كبير قد يؤديان إلى إفلاسها في غضون عام. وفي مواجهة هذه الضغوط، قد تضطر قوات سوريا الديمقراطية في النهاية إلى التنازل وإبرام صفقة مع دمشق، وهي صفقة كانت في ظل ظروف أقل سوءاً عامي 2018 و2019 بمثابة استسلام. وباختصار، فالنهج الأمريكي الحالي مع سوريا محفوف بالمخاطر.
ورغم أن الأردن قد يربح تدفقاً محدوداً من الدخل التجاري من عودة التعامل مع بشار الأسد، فمن شبه المؤكد أنه سيكون قصير الأجل ولن يؤدي إلى استقرار جنوب سوريا أو إنعاش الاقتصاد الأردني المتعثر. والأهم من ذلك أنها لن تمنح أكثر من مليون لاجئ سوري في الأردن الثقة للعودة إلى سوريا. والشيء نفسه قد ينطبق على دول أخرى في المنطقة تعود إلى التعامل مع النظام السوري: فمن شبه المؤكد أن تطلعاتها الدبلوماسية والجيوسياسية والمالية مصيرها الفشل. والرابح الفعلي الوحيد هنا هو الأسد.
ولو أراد الأردن ودول أخرى في المنطقة تبني نهج "التدرُّج" مع سوريا، فلا بد أن تكون الولايات المتحدة جزءاً من تلك المعادلة. ولو أن إدارة بايدن لا تزال متمسكة بمواقفها المعلنة، فلا بد أن تبدأ في ترجمة كلماتها إلى إجراءات واضحة وحاسمة. وفي الوقت الحالي، يبدو أن بشار الأسد يرحب بعودة التواصل، وفرص الاستثمار، والتطبيع الدبلوماسي في الوقت الذي لا يقدم فيه أي شيء في المقابل. وصمت واشنطن والعواصم الأوروبية عن هذه التطورات خطأ فادح.
هكذا يكافئ الغرب الأسد على تهجيره للاجئين
القضية التي قد تكون أهم بالنسبة للغرب ودول الجوار أن هذا التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد وإنهاء عزلته الدولية من شأنه تضييع فرص الضغط عليه لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، في وقت أصبحت مشكلة اللاجئين السوريين أكبر ضاغط على حكومات أوروبا والشرق الأوسط على السواء، وعلى رأسها حلفاء الولايات المتحدة مثل ألمانيا وتركيا والأردن، وحتى لبنان، الذي يعتبر الوجود السوري به قضية حساسة للغاية بسبب حسابات التوازن الديموغرافي بين المسلمين والمسيحيين في البلاد.
ولكن مسألة إعادة اللاجئين يقاومها النظام بشدة؛ لرغبته في تغيير هوية سوريا الديموغرافية وجعل العرب السُّنة أقلية في البلاد.
وسبق أن قاوم بشار الأسد -وهو في موقف أضعف من اليوم – ضغوطاً روسية لإعادة اللاجئين مقابل رفع أو تخفيف العقوبات الغربية، رغم ما في ذلك من فائدة للطرفين أي: ينهي قادة الدول الأوروبية أزمة اللجوء التي تحفز اليمين المتطرف، فيما يكسب بشار الأسد بعض الأموال، لحكومته المفلسة.
ولكن طبيعة نظام الأسد تجعل الغنائم الديموغرافية للحرب وفرار اللاجئين للخارج سيحلان له مشكلة أبدية وهي كون: سوريا بلد ذي أغلبية عربية سنية تحكمه أقلية علوية، وإنهاء هذا الوضع للأبد أهم من حل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يواجهها الأسد بمزيد من القمع أو تشجيع تهريب المخدرات، إلى حين ييأس العالم، ويضطر للتعامل معه، وهذا ما يبدو أنه بدأ يتحقق.
والمفارقة هنا أنه بينما يكاد يسقط قادة غربيون كبار بسبب أزمة اللاجئين السوريين مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي فقدت شعبيتها بسبب توسعها في استقبالهم، فإن الأسد باقٍ في منصبه رغم جرائمه بحق هؤلاء اللاجئين.