جاء الانخفاض في التصويت بالانتخابات العراقية البرلمانية ليمثل تهديداً لشرعية النظام العراقي الحالي ومستقبله، خاصةً أنها أُجريت بالأصل بشكل مبكر؛ استجابة لضغوط المحتجين في عام 2019.
وبينما يمثل الإقبال الضعيف تهديداً لشرعية النظام، فإنه قد يكون مفيداً لأطراف سياسية بعينها في البلاد.
وكانت المفوضية العليا للانتخابات قد قالت إن نسبة المشاركة في التصويت بلغت 41%، بحسب النتائج الأولية، مضيفةً أن احتساب هذه النسبة جاء من بين من يملكون البطاقة الانتخابية الذكية والبالغ عددهم 22 مليون شخص، وليس من العدد الإجمالي لمن يحق لهم التصويت.
وبحسب المفوضية، بلغ عدد المشاركين في الانتخابات 9 ملايين ناخب، علماً أن عدد من يحق لهم التصويت يبلغ نحو 25 مليوناً.
وتعد نسبة المشاركة هذه هي الأدنى في البلاد منذ عام 2005، الذي شهد أول انتخابات تشريعية في العراق بعد الاحتلال الأمريكي له عام 2003.
وأعلنت المفوضية العليا للانتخابات نتائج التصويت في عشر محافظات هي: ديالى والديوانية والمثنى وميسان وواسط ودهوك وصلاح الدين وكربلاء والنجف وأربيل.
وأفادت تقارير أولية بأن نتائج المحافظات التي تم الإعلان عنها، تُظهر تقدماً للتيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر في المحافظات الجنويبة، فيما لم يحقق ائتلاف الفتح بزعامة هادي العامري، نتائج جيدة في تلك المحافظات.
ويتعين انتظار نتائج محافظات كبرى كبغداد والبصرة ونينوى والأنبار قبل أن تكتمل صورة المشهد العراقي بعد الانتخابات.
لكن تقريراً لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي عربي" يشير إلى أن النتائج الأولية للانتخابات، التي تأتي بعد نحو عامين من اندلاع مظاهرات شعبية في البلاد، تُظهر إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها التي تحكم العراق حالياً.
هل يؤثر الانخفاض في التصويت بالانتخابات العراقية على شرعية النظام؟
بطبيعة الحال يمثل انخفاض التصويت بالانتخابات العراقية البرلمانية تهديداً معنوياً لشرعية النظام، ولكن من الصعب أن يمثل تهديداً حقيقياً.
فمن ناحية سيؤدي الانخفاض في التصويت بالانتخابات العراقية إلى تعزيز قوة الأحزاب الشيعية التقليدية، خاصةً الموالية لإيران وكذلك التيار الصدري، نتيجة قدرتها على الحشد وعزوف المواطنين العادين في الوقت ذاته.
كما أن الحراك الشبابي أو الشعبي، الذي قاد التظاهرات ضد حكم هذه الطبقة الحاكمة، مازال ليست له أحزاب قوية تستطيع أن تستفيد من السخط على هذه الأحزاب.
أما التهديد المعنوي والأخلاقي لهذا الانخفاض في التصويت بالانتخابات العراقية، فإنه لا يمثل أهمية كبيرة للطبقة الحاكمة، لاسيما الأحزاب الموالية لإيران والقوائم التابعة للحشد الشعبي، والتي تسيطر على مقاليد الأمور، كما أنها تمتلك السلاح في يدها، مما يجعلها قادرة على وأد أي حراك شعبي آخر يهدد حكمها عبر عمل ثوري، وهي سترفع أمام الحراك القادم شرعية نتائج الانتخابات الجديدة.
تداول لمكونات السلطة بين الطبقة الحاكمة وإحباط متراكم
يعني ذلك نتيجتين؛ الأولى: تعزيز الطبقة الحاكمة الحالية مثل تراجع قائمة الفتح وتزايد وزن قائمة الكتلة الصدرية، والأمر نفسه سيكون بالنسبة للمكون الكردي.
أي نحن أمام ما يشبه التداول لمكونات السلطة بين مكونات السلطة نفسها، حيث يزيد نصيب حزب ويتراجع نصيب آخر دون تغيير جذري.
النتيجة الثانية: مزيد من فقدان المواطنين للثقة بالنظام السياسي، وهذا قد يُترجم في حالة إحباط عامة تعزز من ناحية، الفساد واليأس، وقد تعزز العنف سواء في الأوساط الشيعية أو السُّنية.
على خطى لبنان.. تراكم التدهور في الاقتصاد والخدمات
غير أن النتيجة الأخطر هي أن استمرار الفساد وسوء الإدارة المزمنَين في البلاد دون أن تؤدي الانتخابات أو القضاء إلى معاقبة الفاشلين والفاسدين، معناه استمرار تآكل موارد البلاد، لتصبح على شفا النموذج اللبناني.
ففي لبنان، الذي يبدو إحدى مستعمرات الإمبراطورية الشيعية الإيرانية، مثله مثل العراق، كما يقول المسؤولون الإيرانيون أنفسهم، فإنه حدث تراكم للشلل، وسوء الإدارة والفساد دون أن تؤدي الانتخابات إلى أي تغييرات ذات مغزى في الحكم، باستثناء زيادة أو نقصان نصيب أحد الأحزاب الطائفية الحاكمة، ومع أي غياب قضاء عادل أو محايد، لم يعاقَب أي أحد على التدهور المستمر الذي وصل في نهاية الأمر، إلى انهيار النظام المالي وانفجار مرفأ بيروت ثم أخيراً إظلام البلاد كلها.
وفي الحالتين، لم يكن هناك رأس جمهورية مستبد مثلاً يمكن تحميله مسؤولية الفشل أو إقالته، بل نحن أمام طبقة حاكمة واسعة ومتنفذة في الشارع وتستغل الطائفية للحفاظ على وضعها، فيما رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية مجرد منسقَين أو واجهتين أو رأسَين من ضمن رؤوس كثيرة في أحسن الأحوال.
تعني شبكة الطبقة الحاكمة وتوزُّعها على كل الطوائف والمكونات، أن كل مكون من مكوناتها يلقي مسؤولية الفشل على الطرف الآخر، وكل طائفة تفضل أن توجه اللوم لزعماء الطوائف الأخرى.
ففي الحالة اللبنانية يتبادل "14 آذار" و"8 آذار" الاتهامات بشأن سبب الانهيار المالي، فتقول "14 آذار" بقيادة تيار المستقبل، إن سياسات حزب الله الخارجية في سوريا وعداءه للسعودية والولايات المتحدة هي التي تسببت في أزمة البلاد المالية، إضافة إلى سياسات حليفه العماد ميشال عون وصهره جبران باسيل، فيما تقول "8 آذار" إن سياسات الديون والطاقة التي بدأها رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري وأحجية النظام المصرفي التي يُعتقد أن مفاتيحها لدى تيار المستقبل هي السبب في الأزمة.
كما تعني التركيبة الطائفية للبلدين وما ترتب عليها من محاصصة طائفية، صعوبة أن يتوحد أي من الشعبين المنقسمين ضد النخب الحاكمة، رغم أن الوضع في العراق أفضل نسبياً، حيث يُعتقد أن هناك غالبية سكانية شيعية مع هيمنة الأحزاب الشيعية على البرلمان، مما جعل الحراك الشعبي الأخير في العراق بالأساس حراكاً شعبياً شيعياً متركزاً في بغداد والجنوب ويستهدف بالأساس الطبقة الشيعية الحاكمة.
ولكن حراك العراق على غرار حراك لبنان، لم يترجم تحرُّكه في الشارع إلى إنشاء قوى أو أحزاب سياسية حقيقية مُقنعة للشارع تستطيع أن تنافس الطبقة السياسية الحاكمة، ولم يقدم طلبات منطقية أو قابلة للتطبيق في مجال التغيير السياسي أو الإصلاحين الاقتصادي والقضائي.
فكلا الحراكين هاجم الفساد والطائفية وما ترتب عليهما من أوضاع اقتصادية دون أن يقدم بديلاً، وفي الأغلب أضاف سبباً جديداً لانهيار الاقتصاد في البلدين باعتبار أن أي اقتصاد قائم على الاستقرار.
حزب الله والحشد يحرسان النظامين الفاشلين
وفي كلا البلدين، لا يستطيع الحراكان ترجمة غضبهما وثورتهما الكلامية إلى تغيير ثوري على الأرض ليس فقط بسبب تفتت النظام والمسؤوليات، وتفتت الحراكين أنفسهما، ولكن لأنه في كلا البلدين هناك حارس مسلح للنظام يمنع سقوطه، لأنه أكثر المستفيدين منه، حتى لو لم يكن مسيطراً بالكامل، كما تسيطر الأنظمة العربية المستبدة على شعوبها.
وهذا الحارس هو الحشد الشعبي– وبالأخص فصائله الموالية لإيران- في حالو العراق، وحزب الله في حالة لبنان.
القوتان المسلحتان هما دوماً أكثر من يتحدث عن ضرورة احترام نتائج الانتخابات، لأنها تأتي في صالحهما غالباً عبر الحشد الطائفي والسيطرة على الشارع والتحالفات الذكية التي تنسجها إيران.
وحتى لو تراجعتا في الانتخابات، وتراجعت حصتهما في السلطة، فإنهما عبر سيطرتهما على الشارع وعبر ضعف المؤسستين العسكرية والأمنية في البلدين وطابعهما الطائفي، فمعنى ذلك قدرة حزب الله والحشد على تمرير ما يريدان سواء كانا في الحكم أو خارجه.
تكرر ذلك مراراً مثلما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2007 بلبنان، حينما اجتاح حزب الله وحركة أمل بيروت بعد قرار الحكومة اللبنانية آنذاك تفكيك شبكة اتصالات حزب الله وإقالة مدير أمن مطار بيروت.
وتكرر في العراق، كما ظهر في إجبار الحشد الشعبي الحكومة مراراً على إطلاق سراح منتسبيه إذا تم القبض عليهم بسبب جرائم ارتكبوها.
وفي غضون ذلك فإن أعضاء الفصيلين لا يشعرون بضائقة مالية كبيرة، مثل بقية الشعبين، نتيجة استفادتهم من نفوذهم الذين يسهّل أشياء كثيرة في البلدين المشلولين، كما لا يتأثر دخلهم الذي يأتي من موارد خاصة وأحياناً غير شرعية للفصيلين أو من إيران أو من الموارد السيادية لبلديهما والتي يجرى الاستيلاء عليها أو تأطير عملية نهبها وبالأخص في الحالة العراقية.
ويزداد الأمر سوءاً خصوصاً أن حلفاء إيران في البلدين غالباً ما يتساوقون بحكم تركيبة النظام الإيراني وحكم انتمائهم في الأصل إلى طبقات فقيرة مع التوجهات الشعبوية الرافضة لأي إصلاح مالي حقيقي في البلدين، لأن هذا الإصلاح من شأنه ممارسة ضغوط اقتصادية ضرورية على الشعب وهو إصلاح لا مفر منه.
والمفارقة أن هذه الإصلاحات يعارضها أيضاً اليسار ونشطاء المجتمع وشباب الحراكَين المعارضَين لهذين النظامين.
والنتيجة في الحالة اللبنانية انهيار تام وشامل وصفه البنك الدولي بأنه أسوأ انهيار اقتصادي في العالم منذ 150 عاماً، ورغم هذا الانهيار لم يُسجن مسؤول واحد في النظام.
وبالعراق، في ظل غياب إصلاح سياسي أو اقتصادي، وفشل التغيير عبر الانتخابات، ووجود سلاح الحشد الشعبي حارساً لمثل هذا النظام، وفي ظل حراك ليست لديه رؤية ومطالبه شعبوية في أغلبها، فإن النتيجة لن تختلف كثيراً، وقد تحمي ثروة العراق بعض الوقت من مصير لبنان، ولكن مقدار هذا الوقت مرتبط بأسعار النفط في الأغلب وليس بما سيحدث في العراق.