"شرق أوسط خال من الأمريكيين" يبدو هذا قد يكون شعار المرحلة القادمة في السياسية الأمريكية، إذ قد يؤدي تركيز إدارة بايدن على الصين إلى قدر من الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط، فهل هذا مفيد لخطتها لمواجهة الصين أم يأتي بنتيجة عكسية.
ويبدو أن هناك خلافاً في الدوائر الأمريكية حول مسألة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط.
فالبعض يرى أن روسيا والصين تريدان استمرار الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، بل على العكس قد يمثل أي انسحاب أمريكي من المنطقة خطراً عليهما، وبالتالي هما يفضلان الوضع الحالي.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن حجة "الفراغ" جراء الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط هذه أصبحت مفيدة سياسياً للبعض، فالفاعلون الإقليميون، خصوصاً أولئك المعتمدين على الولايات المتحدة، يلجأون بشكل متزايد إلى سردية "الفراغ" للضغط على واشنطن للبقاء منخرطة بقوة في المنطقة.
ولكن هناك رأي آخر، يرى أنه إذا كانت إدارة بايدن ترغب في التحول نحو آسيا، فعليها أن تترك قوات كافية في الشرق الأوسط لمنع وقوع المنطقة تحت تأثير أعداء الولايات المتحدة، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية، يحذر من تداعيات الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط.
أفغانستان حجة الرافضين لفكرة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط
أثار انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، حتى مع سقوط البلاد في يد طالبان، تساؤلات حول بقاء القوات الأمريكية في الشرق الأوسط. وليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه رغبة الولايات المتحدة في البقاء في الشرق الأوسط شكوكاً.
وقد دفع إعلان الرئيس باراك أوباما عن "الميل نحو آسيا"، وفشله في متابعة تهديدات "الخط الأحمر" بالتدخل في سوريا إذا استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيماوية ضد خصومه المحليين، وجهوده للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، الكثيرين في الشرق الأوسط إلى الاعتقاد بأنَّ الولايات المتحدة كانت بدأت تنأى بنفسها عن المنطقة. وكانت النتيجة النهائية لهذه السياسة محاولة من جانب المملكة العربية السعودية ومصر وإسرائيل، الحلفاء المقربين للولايات المتحدة؛ للتحرك نحو التقارب مع روسيا، وهي عملية بدأت قبل التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، لكنها تسارعت بعد ذلك.
بدوره، واصل الرئيس جو بايدن نقل الاهتمام الأمريكي إلى آسيا، حيث حاول، ببعض النجاح، تشكيل تحالف من الدول الآسيوية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين، بقيادة ما يسمى "الرباعية" – الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا. ومع ذلك، فإنَّ الانسحاب السريع من أفغانستان يعني أنَّ الولايات المتحدة قد خذلت بعض الحلفاء القدامى في ذلك البلد، حسب تعبير التقرير.
وهذا يجب أن يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستخذل بالمثل حلفاء آخرين، خاصة في الشرق الأوسط.
وقبل الانسحاب الأمريكي جادل البعض بأنَّ الولايات المتحدة يمكن أن تساعد الحكومة الأفغانية من "وراء الأفق"- أي من على بُعد دون الحاجة لنشر جنود على الأرض- وهو الأمر الذي ثبت أنه مجرد وهم.
تقول المجلة الأمريكية: "مثل هذه السياسة تتجاهل بعض الحقائق الأساسية. أولاها أنه في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى إنشاء قواعد في آسيا الوسطى لهذا الغرض، فمن المشكوك فيه أنَّ روسيا أو الصين ستنظر بلطف إلى منح دول آسيا الوسطى قواعد للولايات المتحدة، بغض النظر عن مدى قلقهما بشأن انتشار الجهاديين في شرق آسيا أو وسطها من العناصر الجهادية المتمركزة بالفعل في أفغانستان، الذين يمكن توقع تمتعهم بحرية أكبر في الحركة في ظل حكومة طالبان. وثانياً، حتى لو كانت الطائرات الأمريكية أو الطائرات بدون طيار تعمل من (وراء الأفق)، فسيكون لديها وقت أقل ضد أهدافها مما لو كانت الولايات المتحدة قد حافظت على قواعدها في أفغانستان. ينبغي للمرء أن يضيف في هذا السياق أنَّ القيم الأمريكية، وليس فقط الجغرافيا السياسية، هي على المحك في أفغانستان".
ترى المجلة الأمريكية "أنَّ تحرير المرأة، وحرية الصحافة، والقيم الديمقراطية الأخرى التي يعتز بها الأمريكيون- والتي أكدت عليها إدارة بايدن بقوة- من المرجح أن تسحقها حركة طالبان".
وتزعم المجلة "أن أولئك الذين يجادلون بأنَّ طالبان ستواجه صعوبة في تغيير المجتمع الأفغاني إلى صورتهم الدينية يتجاهلون أمثلة إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية اللتين استخدمتا القوة الوحشية للقضاء على الديمقراطية في بلديهما".
وبالطبع يتجاهل هذا الرأي أن حكام أفغانستان السابقين هم زمرة من أمراء الحرب والقادة الذين صنعتهم واشنطن مثل الرئيس أشرف غني الذي هرب قبل إتمام الانسحاب الأمريكي، والواقع أن أفغانستان شهدت قدراً هائلاً من حقوق الإنسان سواء من جانب القوات الغربية أو الحكومة الموالية، فيما يبدو هناك شكوك كبيرة في التزام هذه الحكومة بحقوق المرأة الأفغانية في ظل طبيعة المجتمع الأفغاني.
هناك خوف من تصاعد نفوذ هذه الدول المعادية لواشنطن
ترى المجلة الأمريكية أن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط يتجاهل الحقائق الجيوسياسية الأساسية. ففي حين أنَّ الولايات المتحدة قد صارت أقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط مما كانت عليه في وقت الحظر النفطي العربي في عام 1973، فإنَّ حلفاءها، في كل من الناتو وفي المحيطين الهندي والهادئ، لا يزالون معتمدين على نفط المنطقة، ومن المرجح أن تظل كذلك لفترة طويلة على الرغم من الجهود المبذولة للحد من الوقود الأحفوري.
بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط إلى زيادة النفوذ الإيراني في المنطقة، سواء في حالة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة أم لا. ثالثاً، وسّعت روسيا، التي ليست صديقة للولايات المتحدة، نفوذها بالفعل في المنطقة، من خلال قاعدة جوية وقاعدة بحرية موسعة في سوريا، وسيؤدي الانسحاب الأمريكي إلى زيادة هذا النفوذ.
ورابعاً، حسب الصحيفة الأمريكية، بدأت الصين عملية البحث عن النفوذ في الشرق الأوسط؛ وفي حال أصبحت البحرية الصينية أنشط في المناطق المحيطة بالمراكز الثلاثة الرئيسة في المنطقة- مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس- فسيكون التأثير على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة سلبياً.
باختصار، إذا كانت إدارة بايدن ترغب في التحول إلى آسيا، فعليها أن تترك قوات كافية في الشرق الأوسط لمنع المنطقة من الوقوع تحت تأثير أعداء الولايات المتحدة.