جاء تفاوُض مالي مع مرتزقة فاغنر الروس ليثير صدمة في الغرب، لاسيما في فرنسا وأمريكا.
والغريب أن هذه المفاوضات تأتي رغم أن مرتزقة فاغنر لم يحققوا انتصارات تذكر في أي منطقة بإفريقيا، ومنها ليبيا، حيث هُزم حفتر المدعوم منهم، على يد قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا.
ومعروف عن مرتزقة "مجموعة فاغنر" العسكرية ارتباطها الوثيق بالدولة الروسية.
ويبدو أن الأخبار الواردة جاءت لترسِّخ لدى واشنطن أشد مخاوفها بشأن زحفٍ مطردٍ للنفوذ الروسي في إفريقيا، وهو ما أثار موجة من التحذيرات والتعليقات المعبرة عن القلق في الأوساط المهتمة بالأمن القومي الأمريكي، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
يرى الموقع الأمريكي أنه إذا نظر للأمر بطريقة مختلفة، وقرأ المرء هذ الخطوة على أنها خدعة من جانب السلطات المالية، فإن الدرس المستخلص يتغير، ويصبح مثالاً على الكيفية التي يمكن بها للدول الضعيفة أن تستخدم مخاوف "القوى العظمى" لكسب نفوذٍ ما لديها، ومن ثم التواطؤ على مزيد من الترسيخ لهياكل سياسية سيئة، مثل القائمة حالياً في مالي.
انقلابان وتقسيم فعلي للبلاد
تعيش مالي في وضع قاتم. فمنذ عام 2012، أدى تمرد في الجزء الشمالي من البلاد إلى إطلاق سلسلة من ردود الفعل التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. تضمنت الجولة الأخيرة من الاضطرابات انقلابيْن: أحدهما في أغسطس/آب 2020، والآخر في مايو/أيار. اندلع الانقلاب الأول بسبب مشكلات لها جذور عميقة في مالي، مثل الغياب واسع النطاق للأمن، والتوترات بين الطوائف، والتقسيم الفعلي للبلاد، وقطاع التعليم المنهار، والفقر المدقع، وطبقة متكلسة من السياسيين الذي نضبت لديهم الأفكار.
لكن الانقلاب الثاني بدا فيه الضباط العسكريون أكثر اهتماماً بحيازة السلطة.
أدرك هؤلاء الضباط وحلفاؤهم سهولة التلاعب بالمجتمع الدولي، لا سيما أن فرنسا والولايات المتحدة ودولاً أخرى جعلت أكبر همها هو مكافحة الإرهاب في مالي، تاركين كل شيء آخر، حتى الديمقراطية، في أنأى مكان عن الاهتمام.
بعد انقلاب أغسطس/آب 2020، سمحت الجهات الفاعلة الإقليمية والغربية لهؤلاء الضباط بالاحتفاظ بجزء كبير من سلطتهم، شريطة أن يُعينوا رئيساً مدنياً لإدارة المرحلة الانتقالية للبلاد. لكن بعد انقلاب عام 2021، أصبح العقيد أسيمي غويتا رئيساً، وهو لا يزال بالزي العسكري. أبدت القوى الخارجية الرئيسية نوعاً من التذمر في البداية، ثم أسقطت الأمر من حساباتها.
تفاوض مالي مع مرتزقة فاغنر يأتي في ظل تدهور الوضع الأمني بالبلاد
تأتي أخبار الاتفاق مع فاغنر، أو شبه الاتفاق، في سياق تشعر فيه فرنسا وغيرها بالاستياء من مالي. وقد يقول بعض المراقبين إن بعثة فرنسا العسكرية لما يُعرف بـ"عملية برخان" لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل قتلت حتى سبتمبر/أيلول، بعض كبار القادة المنتمين إلى تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في المنطقة. ومع ذلك، فإن واقع الحال يشير إلى أن انعدام الأمن عموماً أشد سوءاً بكثير مما كان عليه الأمر عندما بدأت العملية برخان في عام 2014. كما أن توالي الانقلابات العسكرية في مالي يشير أيضاً إلى غياب أي تقدم سياسي يرافق ما يُنظر إليه على أنه انتصارات فرنسا العابرة في مكافحة الإرهاب.
ومن ثم قد يكون التلويح بالاتفاق مع فاغنر خطوة ذكية من السلطات المالية، فهذا التلويح ليس موجهاً إلى موسكو ولا الشعب المالي، بل إلى فرنسا، وبدرجة أقل واشنطن وبروكسل وبرلين وغيرها من الدول صاحبة المصلحة في البلاد، حسب الموقع الأمريكي.
وهكذا، لا يتعين على الحكومة الانتقالية في مالي تقديم أي وعود لفرنسا بإقامة انتخابات سلسة، ولا بوضع حدٍّ للفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان أو تصفية الحسابات السياسية، أو حتى الهيمنة العسكرية على الحكام المدنيين، لكن يمكنها بطبيعة الحال التهديد بتمكين العدو المفترض لفرنسا (والولايات المتحدة): روسيا.
في ضوء ذلك، فإن ردود الفعل الحادة على الاتفاق المالي مع مجموعة فاغنر، والتي تدفقت من باريس وواشنطن وبرلين ولندن ونيامي ونغامينا وأماكن أخرى، ليست دلالة على أن السلطات في مالي قد أخطأت، بل إنها إشارات على أن مالي نجحت في مسعاها بجذب انتباه الجميع إليها. إذا كان الحال كذلك، فما هي إذن التنازلات التي يمكن للغرب تقديمها بسبب تهديد مالي بالاتفاق مع مجموعة فاغنر؟
مكسبان لجنرالات مالي
كان الانسحاب الفرنسي المخطط له من منطقة الساحل بالفعل أقل حدة مما افترضت كثير من وسائل الإعلام، فهو أقرب إلى إعادة انتشار وموازنة للقوات من كونه انسحاباً. وهكذا، في مقابل التراجع عن أي خطة للاتفاق مع فاغنر قد يتمكن حكام مالي من الحصول على مكسبين في صفقة واحدة: قبول دولي، مهما كان على مضض، لتمديد الفترة الانتقالية التي يسيطر عليها العسكريون، والمكسب الثاني إعادة الالتزام بزواج الإكراه بين باماكو وباريس.
ربما كان بإمكان مالي أن تنتزع هذه التنازلات دون التلويح بالتفاوض مع مجموعة فاغنر، لكن حتى لو لم يكن الأمر خدعة، فقد تعلمت السلطات في مالي الآن أنه من السهولة بمكانٍ جعل فرنسا (وغيرها) تتفاعل وتعود إلى الاهتمام بشؤون مالي بمجرد التلويح بإشراك روسيا في الأمور.
سيرة مرتزقة فاغنر.. انتهاكات خطيرة ونجاحات محدودة
هناك علاقات حقيقية بين مالي وروسيا تعود إلى العهد السوفييتي. وقد وقعت مالي اتفاقيات تعاون عسكري مع روسيا في عامي 1994 و2019، وتتلقى طائرات هليكوبتر هجومية روسية منذ عام 2017، ومنها 4 مروحيات وصلت في 30 سبتمبر/أيلول.
تنتشر مجموعة فاغنر في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، حيث تورط أفرادها في انتهاكات خطيرة، ولديها انتشار أيضاً في السودان وموزمبيق وأماكن أخرى. ومع ذلك، فإن نجاحات فاغنر في ساحات المعارك محدودة. وكما كتب الخبير في شؤون الإقليم جون ليشنر: "يدل الاستخدام المفرط للمتعاقدين العسكريين الروس في إفريقيا على أن الحكومة الروسية مهتمة بإفريقيا ما دامت المشاركة دون تكلفة كبيرة، وما دام المتعاقدون والأفراد هم المتصدرين للمشهد".
ولكنهم سيزيدون السخط في المناطق المتمردة
مع ذلك، سيجلب دخول فاغنر إلى مالي مزيداً من المشكلات للماليين، ويصعّد التوترات بين المتنازعين في باماكو وكيدال، المنطقة الشمالية التي كانت مهداً للعديد من التمردات، ومنها انتفاضة عام 2012. وقد عبَّر حكام كيدال، "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، عن رفضهم لاقتراح الاستعانة بقوات فاغنر.
الخلاصة أنه سواء كان الأمر تهديداً محسوباً أو اتفاقاً وشيكاً، فإن جزءاً رئيسياً مما يمنح التفاوض بين سلطات مالي ومجموعة فاغنر هذا الاهتمام من الحكومات الغربية هو الشعار الذي ترفعه تلك القوى في واشنطن وخارجها، تحت اسم "المنافسة بين القوى العظمى". وذلك مع أن روسيا تعتبر قوة من الدرجة الثانية في أفضل الأحوال، فالناتج المحلي الإجمالي لها في عام 2020 لا يزيد على 1.5 تريليون دولار، وهو أقل بكثير من الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا الذي يبلغ نحو 2.6 تريليون دولار، فضلاً عن الاقتصاد الأمريكي.
ويرى موقع Responsible Statecraft أنه على الرغم من حديث القوى الغربية الدائم عن المعلومات المضللة التي تنشرها روسيا، فيبدو أن العواصم الغربية قد انخدعت هي نفسها بدعاوى قوة روسيا، حتى وصل الأمر إلى إفريقيا، وهذا التصور يحجب عن باريس وواشنطن وغيرهما مساوئ الوضع الراهن. إذ إن مسار مالي في ظل السياسات الحالية، المحلية والغربية، ينطوي على مشكلة أفدح بكثير من أي نفوذ روسي، حقيقياً كان أم متوهماً.