يتصدر فيسبوك والصعاب التي يواجهها حالياً المشهد حول العالم، وتُثار تساؤلات تتعلق بقدرة أحد عمالقة التكنولوجيا ومديرها التنفيذي زوكربيرغ على مقاومة الضغوط الهادفة لإخضاع الشركة لسلطة القانون.
عملاق منصات التواصل الاجتماعي، الذي يستخدم ما يقرب من ثلاثة مليارات شخص حول العالم تطبيقاته (فيسبوك وواتساب وإنستغرام)، وجد نفسه في مواجهة أكثر من هجوم، ومن جهات متعددة، خلال فترة زمنية قصيرة. فمجلس المشرفين التابع لفيسبوك أصدر توصياته مؤخراً، وحملت اتهامات للمنصة بالتحيز لإسرائيل على حساب الفلسطينيين.
وخلال أقل من أسبوع، وجدت الشركة التي تتخطى قيمتها السوقية تريليون دولار نفسها في مرمى نيران الكونغرس وإدارة الرئيس جو بايدن والاتحاد الأوروبي، تزامناً مع الانهيار التقني الكبير الذي أصاب تطبيقات فيسبوك وجعلها "أوفلاين" لأكثر من 6 ساعات، والضربة الكبرى هي تلك التسريبات والشهادة أمام الكونغرس من جانب المديرة السابقة بالشركة فرانسيس هوغن.
ما الاتهامات الموجهة لفيسبوك؟
فيسبوك شركة تسعى للربح المالي على حساب المصلحة العامة. هذا هو الاتهام الأول الذي وجّهته هوغن للشركة وقيادتها برئاسة زوكربيرغ، وقالت في شهادتها أمام لجنة التجارة بمجلس الشيوخ الأمريكي، مساء الثلاثاء 5 أكتوبر/تشرين الأول: "تعرف قيادة الشركة كيف تجعل فيسبوك وإنستغرام أكثر أماناً، لكنها لن تقوم بالتغييرات اللازمة لأنها تقدم أرباحها الفلكية على الناس".
وقدمت هوغن، التي عملت لمدة عامين تقريباً في فيسبوك كمديرة في فريق "النزاهة المدنية"، وهي خبيرة في طريقة عمل الخوارزميات، مستندات خاصة بالشركة، عبارة عن أبحاث أُجريت حول مدى التأثير الضار لنشر المعلومات المضللة والمحتوى الذي يشجع على الكراهية والانقسام، أظهرت أن إدارة فيسبوك كانت على دراية كاملة بتلك "الأضرار المجتمعية الخطيرة".
كما أظهرت تلك المستندات، التي سربتها هوغن لصحيفة وول ستريت جورنال وقدمتها للجان الكونغرس المعنية بالأمر، أن "آليات فيسبوك لإدارة منتجاته الرئيسية مثل توصيات الانتشار (أي اختيار المحتوى الذي يستحق الوصول لأكبر عدد من المستخدمين لقابليته للانتشار السريع وإبقاء المستخدمين مدة أطول على فيسبوك)، مثّلت جزءاً رئيسياً من أسباب انتشار وازدهار خطابات الكراهية والغضب بين الناس على المنصات المختلفة لفيسبوك"، بحسب تقرير لشبكة CNN.
ونتيجة لتلك الطريقة في عمل خوارزمية فيسبوك، وجد المحتوى الذي يشكك في نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة طريقه بسهولة إلى عشرات الملايين من المستخدمين داخل الولايات المتحدة، وساعد على انتشار تلك المعلومات المضللة؟ ما ساهم في نهاية المطاف في اقتحام الكونغرس الأمريكي، يوم 6 يناير/كانون الثاني الماضي، بغرض وقف التصديق على فوز جو بايدن وخسارة دونالد ترامب، بحسب ملخص شهادة هوغن والمستندات التي قدمتها.
لكن هذا التأثير الضار لطريقة عمل فيسبوك لا يقتصر على الانتخابات الأمريكية أو حتى قضايا الداخل الأمريكي، بل إن نفس الطريقة في عمل المنصة الأكثر استخداماً حول العالم كان لها تأثيرات ضارة وخطيرة حول العالم مثل الانقلاب في ميانمار وحرب تيغراي في إثيوبيا وعمليات التجسس داخل الصين وإيران وغيرها، بحسب جزء آخر من المستندات وشهادة هوغن تناولته CNN في تقرير منفصل.
كيف رد زوكربيرغ على الاتهامات؟
أخيراً تحدث المدير التنفيذي لفيسبوك مارك زوكربيرغ علناً حول تسريبات وشهادة هوغن، رغم أن القصة بدأت قبل نحو شهر، وأرسل مذكرة مطولة للعاملين في شركته دافع فيها عن خوارزمية وطريقة عمل المنصات، ونفى أن يكون الهدف هو الربح على حساب المصلحة العامة.
زوكربيرغ، الذي خسر 7 مليارات دولار من ثروته الشخصية بسبب العطل الكبير (لتنخفض الثروة إلى 120.9 مليار دولار)، نفى أن يكون فيسبوك يروّج للحقد والانقسامات في المجتمعات ويؤذي الأطفال ويحتاج إلى تنظيم، مؤكّداً أنّ الاتهامات الموجهة لشركته بتغليب الربح المالي على السلامة هي "بكل بساطة غير صحيحة".
وأضاف في المذكرة الموجهة إلى موظفيه، التي نشرها على صفحته في فيسبوك، أنه "في صميم هذه الاتهامات تكمن فكرة أنّنا نغلّب الأرباح المالية على السلامة والراحة. بكل بساطة هذا غير صحيح".
"الحجّة القائلة إنّنا نروّج عمداً لمحتوى يجعل الناس غاصبين بهدف تحقيق ربح مادّي هي أمر غير منطقي بتاتاً، نحن نجني المال من الإعلانات، والمعلنون يبلغوننا باستمرار بأنّهم لا يريدون أن تعرض إعلاناتهم بجانب أي محتوى ضارّ أو مثير للغضب".
وواصل زوكربيرغ دفاعه عن الشركة، وعن نفسه ضمنا بالطبع: "لا أعرف أيّ شركة تكنولوجية تعمل على بناء منتجات تجعل الناس غاضبين أو مكتئبين، كلّ الحوافز الأخلاقية والتجارية والمنتجات تشير إلى الاتجاه المعاكس".
كيف أثر العطل والتسريبات على فيسبوك؟
كانت أسهم شركة فيسبوك في البورصة قد تعرضت لانخفاض بما يقرب من 6%، وبالتبعية فقد مديرها التنفيذي زوكربيرغ 7 مليارات دولار من ثروته الشخصية، لكن لم يدم الانخفاض طويلاً، إذ قفز سعر سهم فيسبوك 2.2% وصولاً إلى 333.43 دولار عصر الثلاثاء.
وتشير هذه العودة السريعة لأسهم الشركة العملاقة إلى مدى قوتها في سوق الأعمال، رغم عاصفة الانتقادات والهجوم والضربات التي تتعرض لها حالياً، فهل معنى ذلك أن فيسبوك وصلت إلى درجة من القوة والنفوذ تمكنها من التصدي لتلك العواصف، لتخرج منها دون تغييرات جذرية على طريقة عملها، كما يريد زوكربيرغ وكما فعلت مراراً من قبل؟
محاولة الإجابة عن هذا السؤال تُحتّم رؤية قصة فيسبوك من جميع جوانبها، وما تمتلكه الشركة من أدوات للدفاع عن نفسها في مقابل ما يمتلكه خصومها، وما أكثرهم، من وسائل هجومية.
ماذا يريد الكونغرس والإدارة من فيسبوك؟
هذا هو السؤال الجوهري في القصة برمتها، ففيسبوك شركة عملاقة تخضع معاملاتها للتدقيق والمراقبة بشكل روتيني، شأنها شأن أي شركة أخرى في الولايات المتحدة، وبالتالي من المهم معرفة متى بدأت محاولات "فرض السيطرة" أو "التدخل في طريقة إدارة الشركة لمنصاتها"، وتحت أي ذريعة؟
يمكن القول إن التحقيقات الفيدرالية في ممارسات فيسبوك قد بدأت رسمياً منذ مارس/آذار 2018، على خلفية فضيحة بيع بيانات شخصية تخص 87 مليون ناخب أمريكي، دون إذن من المستخدمين أو معرفتهم بالأمر، لشركة الاستشارات السياسية البريطانية كامبريدج أناليتيكا عام 2016، استخدمتها الشركة في "التأثير على الانتخابات التي فاز بها دونالد ترامب".
ورغم أن تلك القضية "انتهاك الخصوصية"، التي وصلت إلى الكونغرس وتم استدعاء مارك زوكربيرغ للشهادة في مجلس الشيوخ، قد تمت تسويتها بالفعل بتغريم فيسبوك 5 مليارات دولار، وهي الغرامة الأضخم على الإطلاق في تاريخ الشركات، فإنه منذ ذلك الوقت بدأ تسليط الضوء على ممارسات شركات التكنولوجيا العملاقة الأربع جوجل وآبل وأمازون وفيسبوك، من ناحية قضية الاحتكار.
وأجريت بالفعل جلسات استماع ساخنة في الكونغرس لقادة الشركات الأربع، في يوليو/تموز، من العام الماضي، ونركز هنا على ما تم توجيهه لزوكربيرغ بالتحديد. إذ تساءلت براميلا جايابال النائبة الديمقراطية من ولاية واشنطن عمَّا إذا كانت شركة فيسبوك قد "هدَّدَت باستنساخ منتجات شركة أخرى، بينما كانت تحاول الاستحواذ على هذه الشركة".
وعندما أجاب زوكربيرغ أن شركته لم تفعل ذلك قامت جايابال بقراءة شهادة توضح أن كيفن سيستروم، المؤسِّس المشارك لمنصة إنستغرام شَعَرَ بأنه "ما مِن خيارٍ لديه إلا بيع منصته لفيسبوك"، وقالت جايابال: "فيسبوك تمثِّل دراسة حالة، في رأيي، للسلطة الاحتكارية، لأن شركتك تحصد بياناتنا وتستثمر فيها، تستخدم شركتك هذه البيانات للتجسُّس على المنافسين من أجل الاستحواذ على خصومك وقتلهم. إن نموذج فيسبوك نفسه يجعل من المستحيل على أيِّ شركةٍ أن تنتعش بصورةٍ منفصلة، وهذا يضرُّ بديمقراطيتنا، وله أضرارٌ بالأعمال التجارية، علاوة على أضراره على المستهلكين".
وقد طرحت هذه الجلسات أسئلة تتعلق بمدى إمكانية إجبار الكونغرس والإدارة الأمريكية فيسبوك على بيع إنستغرام وواتساب، ليصبحا شركات منفصلة عنه، بموجب قوانين الاحتكار.
ورأى كثير من المراقبين وقتها أن فرصة سن تشريعات جديدة ضد احتكار شركات التكنولوجيا أو حتى تعديل قوانين الاحتكار الموجودة حالياً لتشمل الإنترنت تصطدم بعقبتين رئيسيتيين؛ الأولى تتمثل في تيار اليمين المحافظ، والذي يمثله الرئيس (السابق) دونالد ترامب والحزب الجمهوري، إذ إن هؤلاء غير معنيين بقضية الاحتكار نفس قدر اهتمامهم بالتركيز على ادعاءات كون تلك الشركات "متحيزة ضد المحافظين".
والعقبة الثانية تتمثل في الثقل الهائل الذي تمثله تلك الشركات العملاقة التي يديرها الأربعة الأكثر ثراء في العالم، بل إن قوة شركة واحدة من الأربع تفوق قوة وثروة أمم بأكملها.
ونشر موقع VOX.com مادة شارحة عن القصة خلصت إلى أن السؤال الأهم والحاسم في قضية الاحتكار يظل متعلقاً بما إذا كانت ممارسات تلك الشركات تتسبب في ضرر للمستهلكين أو مستخدميها، في ظل غياب المنافسة من عدمه، ما يجعل المواطن مُجبراً على استعمالها، حيث لا يوجد أمامه خيار آخر لشراء منتج ما أو للتواصل مع الأصدقاء.
هل يمكن إجبار زوكربيرغ على تفكيك فيسبوك؟
في ظل المعطيات الحالية، من الواضح أن موقف زوكربيرغ وفيسبوك أصبح أكثر ضعفاً بكثير، مقارنة بما كان عليه خلال المآزق السابقة، وذلك لعدد من المتغيرات. أول وأبرز هذه المتغيرات هو شهادة هوغن والمستندات الداخلية التي وفّرتها للمشرعين وممثلي الادعاء في الولايات المتحدة، إذ إن ذلك يمثل ورقة قانونية هامة في أيدي المطالبين بإخضاع فيسبوك للسيطرة والمسؤولية.
والمتغير الثاني هو أن حالة الانقسام الحادة بين الجمهوريين والديمقراطيين، التي لا تزال قائمة بالطبع في جميع الأمور، شهدت ما يشبه الغياب التام فيما يتعلق بقصة فيسبوك تحديداً، بمعنى أن المشرعين من الحزبين اتفقا على شيء أخيراً، وهو حتمية إخضاع فيسبوك للمساءلة.
فقد شهدت جلسة لجنة التجارة في مجلس الشيوخ أثناء إدلاء هوغن بشهادتها ضد ممارسات فيسبوك، توجيه أعضاء الكونغرس من الحزبين انتقادات حادة للشركة، وهو ما يُسلط الأضواء على الغضب المحتدم في الكونغرس إزاء فيسبوك، مع تزايُد الأصوات المطالبة بإصلاحات تنظيمية.
وقال السيناتور الجمهوري دان سوليفان، إنه يشعر بالقلق إزاء الطريقة التي تؤثر بها فيسبوك والشركات التابعة له مثل إنستغرام على الصحة العقلية للأطفال، وأضاف "أعتقد أننا بعد 20 عاماً من الآن سننظر إلى الوراء وسنتساءل جميعاً ما الذي كنا نفكر فيه بحق الجحيم؟"، بحسب رويترز.
وقال رئيس اللجنة، السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنتال، إن فيسبوك تعلم أن منتجاتها تقود للإدمان، وأضاف "تواجه الشركة التكنولوجية الآن لحظة حقيقة مذهلة".
وطالب بلومنتال بمثول زوكربيرغ للإدلاء بشهادته أمام اللجنة، كما طالب لجنة الأوراق المالية والبورصات ولجنة التجارة الاتحادية بالتحقيق مع شركة التواصل الاجتماعي.
وقال بلومنتال "أطفالنا هم الضحايا. المراهقون الذين ينظرون إلى أنفسهم في المرآة اليوم يشعرون بالشك وانعدام الأمن، يتعين على مارك زوكربيرغ أن ينظر إلى نفسه في المرآة". وبعد الجلسة، قال بلومنتال إنه يريد أن يسأل زوكربيرغ لماذا رفض توصيات لجعل منتجات الشركة أكثر أماناً للمستخدمين؟
وقالت السيناتور الجمهورية في اللجنة مارشا بلاكبيرن، إن فيسبوك تغض الطرف عن الأطفال تحت 13 عاماً في مواقعها، وأضافت "من الواضح أن فيسبوك تعطي الأولوية للأرباح على رفاه الأطفال وجميع المستخدمين".
أما المتغير الثالث فيما يواجهه فيسبوك فهو يتمثل في موقف الرئيس جو بايدن من المعركة الدائرة ضد فيسبوك، إذ قالت جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، تعليقاً على تسريبات هوغن، إن البيت الأبيض ينظر إلى تلك التسريبات على أنها أحدث حلقة من سلسلة حول منصة التواصل الاجتماعي، توضح أن "التنظيم الذاتي لا يعمل".
وأضافت ساكي أن الرئيس يعتقد "منذ فترة طويلة" أن التنظيم الذاتي من قبل عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي لا يعمل. وقالت إن التسريبات تُثبت صحة "القلق الكبير الذي عبّر عنه الرئيس والمشرعون من الحزبين بشأن كيفية عمل عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي والسلطة التي جمعوها".
يضاف إلى ذلك أيضاً موقف الاتحاد الأوروبي من القضية، وهو موقف أكثر تشدداً بكثير من موقف واشنطن، إذ يسعى الاتحاد الأوروبي منذ سنوات لإخضاع فيسبوك للمساءلة، وفشلت محاولات زوكربيرغ في امتصاص الغضب الأوروبي، فهدد بسحب فيسبوك من أوروبا على خلفية حكم قضائي بمنع المنصة الأمريكية من نقل بيانات المستخدمين الأوروبيين إلى خوادمها في الولايات المتحدة.
وفي أبريل/نيسان الماضي، فتحت المفوضية الأوروبية تحقيقاً في صفقة استحواذ "فيسبوك" على تطبيق "كستومر"، في إجراء يمثل ضربة جديدة لعملاق التواصل الاجتماعي الأمريكي. وأعلنت المفوضية فتح تحقيق في الصفقة المقررة لاستحواذ فيسبوك على شركة خدمة العملاء الناشئة "كستومر"، للتأكد من عدم مخالفتها لقواعد حماية المنافسة في الاتحاد الأوروبي، قائلة إن هناك مخاوف من أن تؤدي هذه الصفقة إلى تقليل مستوى المنافسة، وتساهم في تحول "فيسبوك"، إلى كيان احتكاري في سوق إعلانات الإنترنت.
هذه المتغيرات، إضافة إلى ما تعانيه الشركة العملاقة داخلياً من سيطرة دائرة ضيقة للغاية يتوسطها زوكربيرغ نفسه على عملية اتخاذ القرارات والتعامل مع الأزمات، رغم الحجم الهائل لعمليات الشركة وتأثيرها غير المسبوق في الحياة على الكوكب، تجعل كثيراً من المراقبين يرون أن احتمالات خضوع فيسبوك لقوانين الاحتكار أو الإضرار بالصالح العام تزداد يوماً بعد يوم.