تزامَنَ العطل الذي أصاب فيسبوك وإنستغرام وواتساب مع تسريبات واتهامات وجّهتها مديرة سابقة في عملاق منصات التواصل الاجتماعي للشركة، بأنها تسعى للربح على حساب سلامة المستخدمين، فهل بدأت رحلة تفكيك إمبراطورية زوكربيرغ؟
رغم عودة فيسبوك وتطبيقاته الأخرى إنستغرام ومسنجر وواتساب للعمل صباح اليوم الثلاثاء، 5 أكتوبر/تشرين الأول، في أعقاب عطل تام ضرب الشركة العملاقة، واستمر لمدة زادت عن 6 ساعات، إلا أن العطل وتداعياته تسبب في خسائر مالية ضخمة للشركة ومؤسسها مارك زوكربيرغ، الذي فقد أكثر من 7 مليارات دولار من ثروته الشخصية (أصبحت 120.9 مليار دولار بعد الخسارة).
لكن الخسارة المالية، سواء في أسهم الشركة أو ثروة مالكها الشخصي، هي قمة جبل الجليد بالنسبة إلى ما تواجهه الإمبراطورية التي يستخدمها نحو نصف سكان الكوكب بالفعل. فالمصائب لا تأتي فرادى بالفعل، إذ تواجه إمبراطورية زوكربيرغ عاصفة قد تتحول إلى إعصار يؤدي في نهاية المطاف إلى تفكيكها بسبب الاحتكار.
مَن وراء التسريبات الضارة بفيسبوك؟
التحقت فرانسيس هوغن (37 عاماً) بفيسبوك عام 2019 كمديرة إنتاج، ضمن فريق تدقيق المحتوى في الشركة، وقبل نحو شهر من الآن تقدمت باستقالتها من العمل، وظلت هويتها مجهولة حتى مساء الأحد 3 أكتوبر/تشرين الأول، عندما ظهرت في برنامج 60 Minutes على شبكة CBS الأمريكية.
وخلال الشهر الماضي، كانت هوغن يشار إليها إعلامياً بصفة "مخبر داخلي من فيسبوك"، وذلك بعد أن تقدمت بثلاث شكاوى إلى لجان الكونغرس الأمريكي المختصة بمكافحة الاحتكار، والتي تحقق من الأصل في عمالقة شركات التكنولوجيا، وبخاصة فيسبوك، كما سرّبت هوغن آلاف من المستندات والمراسلات الداخلية في فيسبوك إلى صحيفة Wall Street Journal الأمريكية، التي نشرت تحقيقاً من ثلاثة أجزاء حول تلك التسريبات.
ودرست هوغن هندسة الحواسيب والكهرباء، ولديها دبلومة متخصصة من جامعة هارفارد للتكنولوجيا، وعملت منذ عام 2006 في جوجل وبينريست ويلب، وهي متخصصة في "إدارة منتجات الخوارزمية"، كما أنها متحدثة لبقة للغاية، وتجعل هذه السمات الشخصية والخبرات من هوغن خصماً لم يواجهه فيسبوك من قبل، بحسب وسائل الإعلام الأمريكية.
ونشرت وكالة بلومبيرغ الأمريكية تقريراً بعنوان "كيف تركت فرانسيس هوغن مارك زوكربيرغ عاجزاً عن الكلام"، رصد التأثير الهائل للتسريبات وأيضاً لشهادة هوغن أمام لجان الكونغرس، والتي تنطلق اليوم الثلاثاء، إذ قالت الوكالة في مقدمة تقريرها "مخبرة فيسبوك التي سربت عشرات الآلاف من المستندات الخاصة بخوارزميات الشركة قد تنجح حيث فشل الآخرون".
ماذا تحوي التسريبات؟
تحتوي التسريبات أو "ملفات فيسبوك" على أبحاث داخلية أجرتها الشركة بشأن عدد كبير من منتجاتها، ومدى تأثير تلك المنتجات على المستخدمين، كما تحتوي على طريقة عمل خوارزميات عملاق منصات التواصل الاجتماعي، ونظراً لطبيعة عمل وخبرة هوغن، إضافة إلى كون المستندات من داخل فيسبوك ولم يطلع عليها أحد خارج الغرف المغلقة بالشركة، فإنها تمثل خطراً هائلاً على فيسبوك، التي تخضع للتحقيق الفيدرالي بالفعل.
وبالتالي فإن تلك التسريبات تظهر بشكل لا لبس فيه أن "فيسبوك في ورطة!"، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية، عنوانه "فيسبوك أضعف مما نظن"، وهي ليست ورطةً مالية، أو قانونية، أو حتى ورطة صراخ سيناتورات مجلس الشيوخ الأمريكي على مارك زوكربيرغ. "بل نتحدث هنا عن ورطة تدهور الأوضاع البطيء والثابت، وهو الأمر الذي سيلحظه أي شخص شاهد شركةً تنهار عن قُرب من قبل".
وفي الشهادة التي أعدتها هوغن للإدلاء بها أمام لجنة الكونغرس، تقول المديرة السابقة في فيسبوك: "على خلفية عملي في أربع شركات تقنية كبرى تشغل أنواعاً مختلفة من الشبكات الاجتماعية، استطعت أن أقارن بين كيفية تعامل كل شركة مع التحديات المختلفة".
وفي مقابلتها على شبكة CBS، قالت هوغن إنها التحقت بفيسبوك كي تعمل على مواجهة مشكلة "المعلومات المضللة"، مضيفة أن مشاعرها تجاه عملاق منصات التواصل الاجتماعي بدأت تتغير عندما قررت شركة فيسبوك تفكيك فريقها الخاص بالأمانة المدنية بعد وقت قصير من إجراء الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
وقالت هوغن إنها تعتقد أن هذا القرار قد ساهم، بشكل جزئي، في استخدام فيسبوك كمنصة للتجهيز لاقتحام الكونغرس الأمريكي، يوم 6 يناير/كانون الثاني، من جانب أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، على خلفية مزاعم تزوير الانتخابات التي أثبت القضاء الأمريكي بدرجاته المختلفة وصولاً للمحكمة العليا أنها مزاعم لا أساس لها من الصحة.
وفي شهادتها المعدة لتدلي بها أمام اللجنة الفرعية في مجلس الشيوخ، قالت هوغن: "التحقت بالعمل في فيسبوك، لأن شخصاً قريباً مني أصبح راديكالياً في أفكاره بسبب المعلومات المضللة المنتشرة على الإنترنت، فشعرت بالحاجة إلى أن أقوم بدور إيجابي لجعل فيسبوك منصة أفضل وأقل تسميماً للأفكار"، بحسب تقرير لشبكة CNN.
كيف ردّت شركة فيسبوك على الاتهامات؟
خلال أقل من شهر، تقدمت هوغن على الأقل بثماني شكاوى إلى لجنة الأوراق المالية والبورصات، ادعت فيها أن شركة فيسبوك تخفي أبحاثاً بشأن عيوب الشركة ونقاط ضعفها عن المستثمرين والمستخدمين لمنصاتها وعن العامة أيضاً.
كما سربت هوغن عشرات الآلاف من المستندات والأبحاث والمراسلات الداخلية الخاصة بفيسبوك إلى وول ستريت جورنال، وأظهرت تلك التسريبات أن فيسبوك على دراية تامة بمشاكل تطبيقاتها، بما فيها التأثيرات السلبية لنشر المعلومات المضللة، والأضرار التي تتسبب فيها، خصوصاً للفتيات على تطبيق إنستغرام.
لينا بيتش، المتحدثة باسم شركة فيسبوك قالت لشبكة CNN: "تضطر فرقنا يومياً إلى الموازنة بين حماية قدرة مليارات الناس على التعبير عن أنفسهم بحرية من جهة وبين الحاجة للحفاظ على منصتنا كمكان آمن وإيجابي. ونواصل القيام بتحسينات هامة لطريقة التصدي للمحتوى الضار والمضلل. وبالتالي فإن اقتراح أننا نشجع المحتوى السيئ ولا نفعل شيئاً حياله هو أمر غير صحيح".
كانت هوغن قد تقدمت باستقالتها من فيسبوك في أبريل/نيسان الماضي، وغادرت العمل بالفعل في مايو/أيار، لكنها جمعت المستندات اللازمة لما قامت به لاحقاً من تقديم شكاوى ودعاوى قضائية ضد الشركة وتسريب المستندات لوول ستريت جورنال.
وبررت هوغن ما أقدمت عليه بالقول لوول ستريت جورنال: "لو تسبب ما أقدمت عليه في أن تزداد كراهية الناس لفيسبوك، فهذا يعني أنني فشلت. إنني أؤمن بالحقيقة والتصالح، ولا بد أن نعترف بالواقع، وأولى خطوات هذا الطريق هي التوثيق".
وترى هوغن أن الوسيلة الوحيدة لمساءلة فيسبوك هي بالكشف عن الدائرة الصغيرة التي يتواجد في مركزها مؤسس فيسبوك والمدير التنفيذي للشركة مارك زوكربيرغ. "لقد تقدمت للشهادة لأنني توقفت أمام حقيقة مرعبة: لا يعرف أي شخص تقريباً خارج فيسبوك ما يدور داخل فيسبوك"، مضيفة في شهادتها للكونغرس: "طالما يستمر فيسبوك في العمل في الظلام سيظل غير مسؤول أمام أي شخص أو جهة، وسوف يواصل اتخاذ القرارات التي تضر الصالح العام".
ماذا تعني التسريبات لإمبراطورية زوكربيرغ؟
من ناحية، كشفت التسريبات عن وجود ما يشبه سحابةٍ من القلق الوجودي يُخيّم على مؤسسةٍ قد ولّت أفضل أيامها، وهي سحابةٌ تُؤثّر على كافة الأولويات الإدارية وتصاميم المنتجات، فضلاً عن كونها تدفع فيسبوك إلى محاولات يائسة بشكلٍ متزايد من أجل الخروج من الورطة، بحسب تقرير نيويورك تايمز.
وهذا النوع من التدهور لن يظهر بالضرورة من الخارج، لكن المطلعين على بواطن الأمور يلاحظون مئات المؤشرات الصغيرة المقلقة يومياً، مثل حيل النمو المضرة بالمستخدمين وجنون الارتياب وهجرة المواهب.
إذ صار من الشائع بين منتقدي فيسبوك التركيز على حجم الشركة وهيمنتها عند الحديث حول أخطائها. فخلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ يوم الخميس 30 سبتمبر/أيلول، أفحم المشرعون مدير السلامة العالمية في فيسبوك أنتيغون دافيس بالأسئلة حول تأثير فيسبوك على المليارات من مستخدميه.
وتكشف الوثائق المسربة عن شركةٍ قلقة إزاء خسارة القوة والتأثير، وليس الحصول عليهما، حيث تُظهر أبحاث الشركة أنّ الكثير من منتجاتها لم تعُد ناجحةً من تلقاء نفسها. وهي مضطرةٌ بدلاً من ذلك لبذل جهود كبرى من أجل تحسين صورتها السامة ومنع المستخدمين من هجر تطبيقاتها لصالح البدائل الأكثر إقناعاً.
وتتجلّى نقطة الضعف هذه في حلقة الأسبوع الماضي من سلسلة "ملفات فيسبوك"، حيث نقل المقال عن بحثٍ أجرته الشركة أنّها كانت تضع استراتيجيةً تدور حول كيفية تسويق نفسها للأطفال، إذ وصفت الأطفال في مرحلة ما قبل المراهقة بأنّهم "جمهورٌ قيّم وغير مستغل". واحتوى المقال أيضاً على العديد من مسببات الغضب، مثل عرضٍ تقديمي تساءل خلاله باحثو فيسبوك عما إذا كانت هناك "وسيلة لاستغلال مواعيد اللعب في الحضانة لزيادة النمو والانتشار بين الأطفال؟".
وربما يبدو السؤال مجنوناً، لكنه يكشف الكثير، فهل سيحتاج تطبيق شبكة اجتماعية مزدهر يثق في نفسه "لاستغلال مواعيد لعب الأطفال"، أو إعداد استراتيجيات نمو مفصلة تستهدف أطفالاً في عمر 10 سنوات؟ وإذا كان فيسبوك أقوى من أن نستطيع إيقافه، فهل سيُروّج نفسه للأطفال في سن ما قبل المراهقة؟
ومن ناحية أخرى، تمثل تسريبات هوغن وشهادتها أمام الكونغرس سلاحاً قد يكون فتاكاً في أيدي المحققين الفيدراليين الساعين إلى تطبيق قانون الاحتكار على عمالقة التكنولوجيا، وبخاصة فيسبوك، وهو التحقيق الذي تحول بالفعل إلى دعاوى قضائية منذ مطلع العام الجاري تهدف إلى إجبار زوكربيرغ فيسبوك على التخلي عن تطبيقات مثل إنستغرام وواتساب.
وقد دخلت إدارة الرئيس جو بايدن على خط النار في المعركة الدائرة ضد فيسبوك، إذ قالت جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، تعليقاً على تسريبات هوغن، إن البيت الأبيض ينظر إلى تلك التسريبات على أنها أحدث حلقة من سلسلة حول منصة التواصل الاجتماعي، توضح أن "التنظيم الذاتي لا يعمل".
وأضافت ساكي أن الرئيس يعتقد "منذ فترة طويلة" أن التنظيم الذاتي من قبل عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي لا يعمل. وقالت إن التسريبات تثبت صحة "القلق الكبير الذي عبّر عنه الرئيس والمشرعون من الحزبين بشأن كيفية عمل عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي والسلطة التي جمعوها".