أزمة كبيرة يوشك أن يتعرض لها العالم بعد الحرائق الكبيرة التي ضربت عدداً من الدول الصيف الماضي، ومن بينها البرازيل التي تساهم في الإنتاج الغذائي العالمي بنسبة كبيرة.
إذ إن المزارع التي تغطي السهول الشاسعة والمرتفعات التي ترتفع عن ساحل المحيط الأطلسي، تنتج أربعة أخماس صادرات عصير البرتقال العالمية، ونصف الإنتاج العالمي للسكر، وثلث صادرات القهوة، وثلث الذرة وفول الصويا المستخدم لإطعام الدجاج الذي يضع البيض وكذلك الماشية الأخرى، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
ولذا عندما احترقت محاصيل المنطقة، ثم تجمّدت هذا العام بفعل ضربتين متتاليتين تسبب فيهما التغير المناخي، اهتزت الأسواق العالمية للسلع الأساسية.
قفزت أسعار البن العربي بنسبة 30% خلال 6 أيام في شهر يوليو/تموز، وقفزت أسعار عصير البرتقال بنسبة 20% في 3 أسابيع، ووصل السكر إلى أعلى سعر له منذ 4 سنوات في شهر أغسطس/آب.
"نذير شؤم"!
تسهم ارتفاعات الأسعار في التضخم الدولي في أسعار الغذاء، الذي يعمّق المصاعب المالية في الجائحة ويجبر ملايين الأسر ذات الدخول المنخفضة على تقليص مشتريات البقالة في جميع أنحاء العالم. الأكثر من هذا أن هذه الحلقة تنذر بنذير شؤم بما سيأتي، مثلما تنبأ العلماء بأن ارتفاع درجات الحرارة عالمياً وتدهور رطوبة التربة سوف تلحق دماراً متزايداً بأراضي المزارع في البرازيل، وهو ما سوف يكون مشهوداً بالمثل في بقية أنحاء العالم.
يقول مارسيلو سيلوتشي، خبير الأرصاد الجوية في مركز المراقبة والتنبيه بالكوارث الطبيعية بالبرازيل: "إنها حلقة مفرغة. ليست هناك أمطار بسبب عدم وجود رطوبة، وليست هناك رطوبة بسبب عدم وجود أمطار". ويوضح أن إزالة غابات الأمازون، التي قطعها مربو الماشية لزراعة المحاصيل وتربية الماشية، تسهم بدور كبير في هذه الظاهرة. وفقاً لحساباته، لم تحظ البرازيل بموسم مطير طبيعي منذ عام 2010.
ويضيف: "لقد كان عاماً غريباً جداً. الفيضانات موجودة في ألمانيا والصين، وثمة مشكلة جفاف خطيرة في البرازيل".
هناك كذلك جفاف خارج حدود البرازيل في الأرجنتين وتشيلي وكندا ومدغشقر والمكسيك وروسيا. وواجهت الولايات المتحدة كارثة في الشرق وفي الغرب: فقد واجه الغرب الأمريكي موجات حرارة قياسية وحرائق غابات وجفافاً شديداً، ومثلها مثل البرازيل، تجف البحيرات والغابات مما يعرقل توليد الطاقة الكهرومائية. وفي غضون ذلك، واجه الساحل الشرقي للولايات المتحدة عواصف استوائية وفيضانات قاتلة بصورة قياسية.
يقول سيلوتشي: "العالم يسير على درب خطير للغاية".
بحسب دراسة حديثة نُشرت في الدورية العلمية Journal of Environmental Economics and Management، سوف يؤدي كل هذا إلى انخفاض المحاصيل الزراعية بنسبة 10% على مدى العقود الثلاثة القادمة، خلال مدة يُتوقع أن ترتفع خلالها أعداد سكان العالم بأكثر من الخُمس.
القهوة أول المتأثرين
يعرض الدمار الذي حل بالبرازيل لمحة لذلك المستقبل. بين الجفاف والصقيع، دُمرت المحاصيل التي كانت تُزرع فوق حوالي 1.5 مليون كم مربع من الأراضي، وهي مساحة تعادل 1.5 مساحة مصر. خسائر القهوة هي الأكثر إذهالاً: فقد دُمر حوالي 650 ألف طن من البن، وهو ما يكفي لتحضير كل أكواب القهوة التي يشربها جميع أفراد الشعب الأمريكي لمدة 4 شهور.
أثار هذا حالة هلع بين أكبر تجار القهوة بالتجزئة حول العالم لتأمين احتياجاتهم، مثل ستاربكس ونستله.
يقول جاك سكوفيل، أحد التجار في شركة Price Futures Group، وهي وسيط سلع مقرها شيكاغو: "هؤلاء القوم يتدافعون بشدة". وقالت سلسلة ستاربكس في بيان إنها تشتري دائماً مقدماً قبل أشهر، فيما أبلغ الرئيس التنفيذي لشركة نستله، مارك شنايدر، المستثمرين في اجتماع عبر الهاتف عُقد في يوليو/تموز بأن الشركة حمت تمويلاتها عن طريق شراء عقود تحوّط تمتد إلى مطلع العام القادم.
لكن سكوفيل حذر من أن النجاح في تأمين الأسعار لا يشبه الحصول على ما يكفي من القهوة على المدى الطويل؛ إذ إن ضعف المحاصيل في البرازيل سوف يهز السوق لأعوام، وذلك حسبما يتنبأ. ويرى سكوفيل مشترين كانوا يحصلون في المعتاد على كل حبوب البن من البرازيل وفيتنام، يتحولون فجأة إلى مكان آخر لمحاولة تعويض العجز.
وذلك تماماً هو الموقف الذي يواجهه بنفسه بدر أولابي، مالك محمصة بن في مدينة إسطنبول التركية. يحاول أولابي قنص موردين جدد في كولومبيا والهند وإفريقيا لاستعاضة 100 حاوية من حبوب البن يحصل عليها سنوياً من البرازيل. ويعرف أن الأمر لن يكون سهلاً لإقناع الناس بأن هذه الأنواع من القهوة تضاهي جودة البن البرازيلي. يقول أولابي إن "البن البرازيلي هو الأفضل" في تركيا.
ربع محصول القهوة ينكمش
تتنبأ البرازيل الآن بأن ينكمش محصولها من حبوب القهوة بنسبة 25% هذا العام. كانت نقطة الصفر لهذا مشهودة في هلاك المحصول في كاكوندي، وهي قرية بُنيت بعد استقطاع غابات الأخشاب الصلبة المورقة في شمال غرب ولاية ساو باولو.
تشكل القهوة حوالي 80% من الاقتصاد هناك. فإذا وقف المرء فوق أعلى قمة، فلن يشاهد إلا مزارع حبوب القهوة على مدى البصر. إحدى هذه المزارع المُرتبة الصغيرة يملكها مصرفي سابق يبلغ من العمر 70 عاماً ويُدعى أنطونيو ريبيرو غولارت.
فقد غولارت كل محصول مزرعته بعد أن ضربت موجة صقيع المنطقة.
وتحولت أوراق كل شجرة كان يملكها، وهي حوالي 11 ألف شجرة، من اللون الأخضر الزاهي إلى البني الكئيب في غضون 24 ساعة. وبعد مرور شهر، يبدو أنه لا يزال في حالة صدمة. فلا يزال يمر بيديه ببطء بين أفرع الأشجار الميتة أثناء الحديث. تتشقق الأوراق ثم تتفتت إلى قطع صغيرة. يقول غولارت بهدوء: "لقد كانت رائعة للغاية قبل الصقيع".
امتلكت عائلة غولارت قطعة الأرض هذه على مدى عقد من الزمن. فقد ورثها عن أبيه واستقر فيها بعد قضاء حوالي ثلاثة عقود في شركة Banco Bradesco للخدمات المالية. وكان موظفاً متوسطاً هناك مكلفاً بإدارة فرع في وسط ساو باولو عندما تقاعد قبل 10 سنوات.
في عام 2019، تعهد بمنح جزء من محصول هذا العام إلى مورد باع إليه ماكينة تقشير جديدة، لكن ذلك كان مستحيلاً الآن. فلن يكون لدى غولارت حصاد هذا العام أو في العام التالي. بل إن محصول عام 2023 صار مفقوداً تقريباً. وأوضح أنه سوف يتواصل مع المورد ويتفاوض على الشروط. وبعد ذلك، مثل آلاف المزارعين من حوله، سوف يقطع أفرع جميع الأشجار أملاً في أن تنبت جذوعها مرة أخرى. وإذا لم تنبت، فسوف يضطر إلى قطعها من جذوعها والبدء من الصفر، وهو الأمر الذي يخشاه.
يقول غولارت: "ليس هناك حل آخر".
ربما كان غولارت يحب الطريقة التي بدت بها أشجاره قبل اجتياح الرياح القطبية، لكن الحقيقة تقول إن الحصاد في كاكوندي كان ضعيفاً بالفعل. والجفاف، الذي وصل الآن إلى شهره السابع، كان قاسياً للغاية لدرجة يصعب معها إنتاج محصول جيد. انخفضت رطوبة التربة إلى 20% فقط. في الحالة المثالية، يمكن أن يقترب الرقم من 60%، حسبما يقول أديمار بيريرا، رئيس جمعية مزارعي البن المحلية.
يشير بيريرا إلى العلامات الدالة على الطقس الجاف: المروج التي تحولت إلى اللون البني، والأضرار التي خلّفتها الحرائق الحديثة في جبل بعيد، وخزان الطاقة الكهرومائية في الوادي الذي صار أداؤه منخفضاً للغاية لدرجة أن المراسي التي كانت مبنية عند حافة المياه مباشرة، صارت الآن على بعد ربع ميل.
يقول بيريرا: "لم نر ذلك من قبل".
عند استعراض النقص التراكمي في الأمطار على مدى العقود السابقة في أحواض المياه في البرازيل، نستخلص أنها وصلت إلى ما يعادل عاماً كاملاً من هطول الأمطار، وذلك بحسب شبكة الكهرباء الوطنية ONS؛ إذ يتأخر وصول الرياح الموسمية التي يعتمد عليها المزارعون أكثر فأكثر عاماً بعد عام. تتنبأ الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بأن هذا الاتجاه سوف يتفاقم في السنوات القادمة، بجانب زيادة مدة مواسم الجفاف الممتدة من وسط البرازيل وصولاً إلى غابات الأمازون.
الحرائق طالت الكثير
وعلى طول الحافة الخارجية للغابات الاستوائية، في بلدة تسمى نوفا موتوم، شاهد كليفرسون بيرتاموني حقول الذرة خاصته وهي تحترق في أحد أيام شهر يوليو/تموز.
هرع بيرتاموني بوضع عمال المزرعة في شاحنتي المياه خاصته وأرسلهم لإطفاء الحريق، لكن النيران استعرت برغم ذلك. طلب بيرتاموني المساعدة. وسارع جيرانه بإرسال 13 شاحنة أخرى. وفي الوقت الذي انطفأت فيها النيران، بعد حوالي 6 ساعات، دُمّر حوالي 250 فداناً من الأرض.
لم يشهد بيرتاموني، 43 عاماً، حريقاً مثل هذا خلال مسيرته المهنية التي بدأت عندما كان صبياً صغيراً يلحق بأبويه إلى حقول الذرة والفول الصويا. وقد قال إن الأرض جافة للغاية الآن لدرجة أن شرارة بسيطة كانت كافية لإشعال الحريق. وأضاف: "لقد انتشر بسرعة كبيرة".
وفجأة وجد الرجل نفسه أمام معضلة تتلخص في عجز يقدر بـ16 ألف جوال ذرة تعهد بتسليمها إلى دور التجارة في ساو باولو. وينص العقد بأن عليه دفع 120 ألف دولار لتعويض الفارق. ولن ينجح بالوفاء بهذا الشرط لأنه لا يملك هذا المال؛ لذا عقد صفقة معهم تقضي بتسليم أكثر من 20 ألف جوال ذرة من حصاد العام القادم تعويضاً عن كمية العام الحالي.
اطمأن بيرتاموني، وإن كان متوتراً قليلاً؛ إذ يعتقد أن كل شيء لا بد أن يسير على ما يرام، ما دامت الأمطار تهطل وما دام قادراً على إبعاد الحرائق عن محصوله.