قوبلت تهديدات الرئيس الفلسطيني محمود عباس لإسرائيل بالاستنكار والاستخفاف من قبل تل أبيب، ولكن صحيفة Haaretz الإسرائيلية، ترى أن على المسؤولين الإسرائيليين عدم الاستهتار بما يختمر داخل المجتمع الفلسطيني بعدما دب اليأس في الوضع الحالي، وأن المسار الحالي قد يقود إلى حل الدولة الواحدة.
كان الخطاب المسجل الذي أدلى به الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم الجمعة 24 سبتمبر/أيلول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، موجهاً في الأساس إلى المجتمع الدولي وبقدر أقل إلى الفلسطينيين.
استشعر عباس الغضب والإحباط اللذين يحتدمان أسفل السطح بين عموم الفلسطينيين، بجانب تآكل الثقة في قيادته نظراً إلى أن أي حل دبلوماسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يغيب تماماً عن أي أفق.
ألقى عباس كلمته أمام الأمم المتحدة من مكتبه في رام الله وخلفه حائط يُعلق عليه أربع خرائط متراصة، تبدأ بخريطة لما يطلق عليها البريطانيون فلسطين، وما يسميها عباس "فلسطين التاريخية"، تليها خريطة تعرض ما اتُّفق عليه بموجب قرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام 1947، ثم خريطة للوضع على الأرض قبل اندلاع نكسة 1967، وآخرها خريطة للوضع الحالي، الذي وصفه بأنه سيطرة فلسطينية على حوالي 12% من الأراضي.
ذلك هو ما آل إليه خفض سقف الحلم القومي الفلسطيني. في خطابه، طالب عباس بالعودة إلى حدود 1967، أي قبل حوالي ثلاثة عقود من توقيع اتفاقيات أوسلو بين فلسطين وإسرائيل في البيت الأبيض، عندما بدت هذه الاحتمالية قريبة المنال، حسب Haaretz.
تهديدات الرئيس الفلسطيني تتضمن اللجوء لمحكمة العدل الدولية
الرئيس الفلسطيني البالغ من العمر 85 عاماً، الذي لم يعُد يقدر على إخفاء ثقل لسانه في الحديث وفي لغة الجسد، لجأ إلى التهديدات التي أطلقها بالفعل في السنوات الأخيرة. ومن ثم يهدد مرة أخرى باللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولي في لاهاي للاستغاثة وإلغاء اعتراف فلسطين بإسرائيل، مما يمكن أن يعني كذلك إبطال التنسيقات الأمنية بين السلطة الفلسطينية وبين إسرائيل.
لكن عباس يعرف كذلك أنه من المشكوك فيه أن يخاصم النوم قادة إسرائيل بسبب مثل هذه التهديدات، أو أنها سوف تزعج الرئيس الأمريكي جو بايدن وتدفعه نحو التحرك.
سُمعت مثل هذه التهديدات في الماضي، غير أن تأثيرها الدبلوماسي على كل من إسرائيل والمجتمع الدولي كان طفيفاً. مرة تلو الأخرى، في مواجهة الضغط العربي والدولي، تراجعت القيادة الفلسطينية عن كل تهديد لتجنب الإفلاس.
ومع ذلك، يظهر عباس محقاً في نقطة واحدة. إنها الديموغرافيا التي سوف تحدد وتملي الواقع على الأرض. وصل الفلسطينيون إلى مفترق طرق. فمع عباس أو بدونه، سوف يتحتم عليهم اتخاذ قرارات في المستقبل القريب. يعرف الرئيس الفلسطيني أنه منذ عام 1948، عندما تأسست إسرائيل، وحتى الآن، اتبعت إسرائيل استراتيجية واحدة: خفض مساحة أرض فلسطين إلى أقل قدر ممكن.
الزيادة السكانية واستمرار الاحتلال قد يدفعان الفلسطينيين للمطالبة بأرض فلسطين التاريخية
والآن، يكمن هدف الفلسطينيين في إقناع المجتمع الدولي بأنهم موجودون على الأرض وبأن أعدادهم تتزايد فحسب. لا يمكن لأحد أن يجادل مع حقيقة ديموغرافية. لا يزال عباس وقطاع كبير من القيادة الفلسطينية يدافعون عن حل الدولتين بوصفه أفضل معادلة ممكنة، وحتى إذا كان الشعب الفلسطيني لا يراه في الأفق.
حذر عباس بأن البيانات وتطورات الأوضاع على الأرض سوف تُملي واقعاً بموجبه سوف يطالب الشعب الفلسطيني بحقوقه في جميع أراضي فلسطين التاريخية.
وفي غضون ذلك، يتشكل واقع مختلف يسبق فيه المواطنون الفلسطينيون قياداتهم بعدة خطوات. ثمة غضب متزايد ضد إسرائيل، فضلاً عن تآكل الإيمان بعباس وقدرته على التوصل إلى حل في المنطقة.
وفي مخيم جنين الذي شهد المعركة الشهيرة ضد الاحتلال عام، يظهر جيل من المقاومين الشباب يطلقون النار على الجنود الإسرائيليين ويريدون إعادة مجد المخيم، فيما فقدت السلطة الفلسطينية سيطرتها الفعلية على المخيم.
حل الدولة الواحدة لم يعُد مجرد نظرية
والجدال الدائر حول حل الدولة الواحدة التي تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، وتضم الفلسطينيين واليهود، لم يعد مجرد حل نظري، وفي ظل غياب أفق دبلوماسي حقيقي والانقسامات المستمرة بين الفلسطينيين، فقد تتفكك السلطة الفلسطينية؛ إذ تصعد على السطح فعلياً بواكير العلامات الدالة على ذلك.
وفي موقف يشهد المواجهة والفوضى، يشرع عدد كبير من أبناء الشعب في التفكير فيما سوف يفعلونه، حتى إن العائلات والعشائر الفلسطينية تبدأ في تسليح نفسها، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
سوف يواصلون في إسرائيل وفي إدارة بايدن التقليل من عباس وتهديداته، مع عرض امتيازات ومشروعات اقتصادية مقابل الصمت، لكنهم يتجاهلون ما يحدث في الشارع الفلسطيني؛ إذ إن مفترقات الطرق لا تنطوي فحسب على مستقبل عباس والسلطة الفلسطينية، بل تنطوي على ما سوف تبدو عليه المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن في غضون عقد آخر قادم.
حتى الأمريكيون المهتمون بالقضية باتوا يلمّحون إلى حل الدولة الواحدة
اللافت أن النظرة لحل الدولتين باتت تتغير في أوساط الأمريكيين، حسبما ورد في مقال نشر في مجلة The American Prospect الأمريكية لسارة ليا ويتسون، المدير التنفيذي لمنظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، والمدير التنفيذي السابق لقسم شؤون شمال إفريقيا والشرق الأوسط بمنظمة "هيومن رايتس ووتش".
إذ ترى أنه حتى مراكز الأبحاث الأمريكية الرصينة قد غيّرت تحليلها، وتخلت عن العناصر المكررة في خطابها، وما تتمسك به من أساطير تقليدية عن "حل الدولتين" و"عملية السلام"، التي لطالما اعتمدت عليها تل أبيب وواشنطن، لتبرير الوضع القائم المتعلق بالدعم الأمريكي اللانهائي لجيش الاحتلال.
وهكذا أصدرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، التي ينحدر منها عدد كبير من كبار المسؤولين في إدارة بايدن، توصيات بالعمل على إطار سياسي جديد يركِّز على المساواة في الحقوق وضمان الحريات للفلسطينيين والإسرائيليين، الذين يعيشون تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي في واقع الدولة الواحدة القائم وهو بمثابة تقبل تدريجي لفكرة حل الدولة الواحدة.
مثل هذه الدعوات هي بمنزلة زلزال فكري في سياق التناول لشؤون إسرائيل وسياساتها، التي ترتكز قانونياً وسياسياً على أفكار التفوق اليهودي والعرقية القومية ودعوات طرد الفلسطينيين، والأهم من ذلك أنها تطالب بضمان حقوق تصويت متساوية، ومشاركة سياسية متساوية، وحقوق مواطنة متساوية لليهود والمسيحيين والمسلمين الفلسطينيين على حد سواء، في وقت أصبحت فيه قيم المساواة وعدم التمييز وحقوق الإنسان مسائل ليست محل خلاف باعتبار أنها قيم أساسية عالمية.