صفعات متتالية بات يتلقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً، والذي تنتظره انتخابات رئاسية حاسمة في نيسان/أبريل 2022، وسط انتكاسات خارجية واضطرابات في العلاقات مع الحلفاء، وأزمات داخلية متفاقمة عنوانها الأبرز الاقتصاد، فكيف سيؤثر ذلك على مستقبله السياسي؟
أزمة الغواصات الفرنسية.. آخر الصفعات التي يتلقاها ماكرون
خسر ماكرون مؤخراً صفقة ضخمة تُقدَّر بعشرات المليارات كانت بلاده قد وقَّعتها بالفعل مع أستراليا، ووصفت باريس مبادرة الشراكة الأمنية بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة والتي تم بموجبها إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية واستبدالها بصفقة غواصات نووية توفرها واشنطن ولندن لكانبيرا، بـ"طعنة أوكوس".
وفي ظل هذا التنافس الشرس بين الدول الكبرى في مجال التصنيع العسكري، بذلت فرنسا جهوداً دبلوماسية مرهقة وممتدة على مدار سنوات، ليس فقط بهدف التوصل إلى صفقة الغواصات التقليدية لأستراليا والتي تبلغ قيمتها نحو 65 مليار دولار، ولكن أيضاً بهدف تأسيس شراكة أمنية بين الجانبين تجعل فرنسا المورد الأول للسلاح وتقنيته إلى القارة الأسترالية.
وبالتالي لم تكن صفقة الغواصات الملغاة مجرد عقد لتوريد 8 غواصات فرنسية إلى أستراليا، بقدر ما كانت شراكة استراتيجية ممتدة كانت ستوفر شرياناً رئيسياً لعدد كبير من الشركات الفرنسية الصغيرة والمتوسطة وخلق مئات الآلاف من الوظائف على مدى 50 عاماً قادمة، وهو ما يوجه ضربة قاسية لماكرون الذي يطمح لولاية رئاسية جديدة ويواجه في الوقت نفسه غضباً داخلياً متصاعداً بسبب الأزمة الاقتصادية والبطالة التي خلقتها سنوات حكمه وفاقمتها الجائحة.
أزمات دبلوماسية مع واشنطن والحلفاء
وترسم هذه الصورة رؤية أكثر عمقاً لحجم الغضب الفرنسي بعد الإعلان عن "أوكوس"، والذي يبدو أن خطوة استدعاء باريس لسفيريها في واشنطن وكانبيرا بناءً على طلب مباشر من ماكرون ليست نهايته وإنما بدايته، فالقصة هنا تتعلق بضربة قاصمة وجهتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لقطاع الصناعات العسكرية الفرنسية، بحسب وصف تقرير موقع Firstpost حول أزمة السلاح الفرنسي حالياً بعنوان "من الغواصات إلى حاملات الطائرات: كيف دمرت الولايات المتحدة الصناعات العسكرية الفرنسية".
وفي هذا السياق، استخدم السفير الفرنسي لدى أستراليا جان بيير تيبوو لفظ "الخيانة" لوصف ما حدث في صفقة الغواصات، قائلاً إن بلاده "قد تعرضت للخداع المتعمد على مدار عام ونصف"، مضيفاً أن "الجريمة تم التخطيط لها من خلال مفاوضات سرية ترقى إلى درجة الخيانة من خلال استعمال لغة مزدوجة وأساليب ملتوية"، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
وكان وزير الخارجية الفرنسي لودريان قد استخدم أوصافاً شبيهة، في أول رد فعل من باريس على إعلان مبادرة "أوكوس"، حيث قال إن ما حدث (إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية) "طعنة في الظهر"، وأن ما حدث من جانب إدارة بايدن تصرف "يليق بترامب"، في إشارة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي شهدت علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين شرخاً عميقاً خلال رئاسته.
وبحسب المجلة الأمريكية، لا يمثل إلغاء صفقة الغواصات مع فرنسا واستبعادها من تحالف "أوكوس" انتكاسة كبيرة لاستراتيجية باريس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وحسب، لأن تلك الشراكة كان من المفترض أنها تشمل الهند أيضاً، وهو ما يهدد صفقات أخرى موقعة أو تعمل شركات دفاعية فرنسية على الاستحواذ عليها في المنطقة، لا سيما مع الهند واليابان.
الأزمة الاقتصادية نقطة ضعف ماكرون
لن ينسى ماكرون "الصفعة المهينة" التي تعرض لها في 8 حزيران/يونيو الماضي على يد أحد المحتجين الغاضبين من سياساته الاقتصادية، خلال "جولة شعبية" له ضمن حملاته الانتخابية المبكرة.
وكان ماكرون قد تعرَّض للصفع على وجهه من مواطن فرنسي كان ضمن تجمع لمواطنين خارج مدرسة ثانوية في منطقة دروم جنوب شرق فرنسا، حيث هتف المواطن الفرنسي: "تسقط الماكرونية" ثم وجّه إلى ماكرون صفعة على وجهه أثارت جدلاً واسعاً داخلياً وخارجياً.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يتلقى فيها الرئيس الحالي لفرنسا إيمانويل ماكرون صفعة، قبلها بعامين تلقى الرجل صفعة من نوع آخر خربت عليه أناقته وجعلت مرافقيه ينفرون منه واضطرته إلى الانسحاب، بعد أن أصابه مُزارع ببيضة في رأسه ألقاها عليه أثناء تجوله بمعرض الزراعة السنوي في باريس عام 2018.
صفعة أخرى تلقاها ماكرون لكنها جاءت من نحو 300 ألف من الفرنسيين ارتدوا ستراتهم الصفراء عام 2018 ليعلنوا احتجاجهم على سياسات ماكرون التي تطحن الطبقة العريضة من الشعب، لصالح شريحة صغيرة من الفرنسيين الأغنياء. لن ينسى الفرنسيون يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، الذي أظهروا فيه غضبهم من ماكرون وسياساته، مما دفع ماكرون لقمعهم بشدة ليسقط مئات الجرحى في ذلك اليوم.
وخرجت حركة السترات الصفراء في البداية للتنديد بارتفاع أسعار الوقود وكذلك ارتفاع تكاليف المعيشة، ثم امتدت مطالِبها لتشملَ إسقاط الإصلاحات الضريبية التي سنّتها الحُكومة، والتي ترى الحركة أنّها تستنزفُ الطبقتين العاملة والمتوسطة فيما تُقوّي الطبقة الغنيّة. دعت الحركة منذُ البِداية إلى تخفيض قيمةِ الضرائب على الوقود، ورفع الحد الأدنى للأجور، ثم تطوّرت الأمور فيما بعد لتصل إلى حدّ المناداة باستقالة إيمانويل ماكرون لكنها أطاحت بالعديد من وزرائه. ولم يوقف احتجاجات السترات الصفراء الجامحة إلا جائحة كورونا التي عمّقت الأزمة الاقتصادية ومعها غضب الفرنسيين من ماكرون.
ماكرون وسوء إدارة أزمة كورونا
ولا يزال الرئيس الفرنسي الشاب يتعرض لسيل من الانتقادات الشعبية ومن خصومه بسبب نتائج سوء إدارته لملف كورونا. وأثار ماكرون غضباً داخلياً واسعاً في أبريل/نيسان الماضي بعد فرضه إجراءات العزل العام للمرة الثالثة، بعد أن أصر لأسابيع على استمرار فتح البلاد مخالفاً نصائح العلماء، مما حوله إلى هدف لسهام النقد من خصومه الذين يضعون انتخابات العام المقبل نصب أعينهم.
حيث علقت حينها مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي، على قرارات الرئيس حول الإغلاقات العامة، بأنها "ووترلو" بالنسبة لماكرون، وهو تعبير يستخدمه الفرنسيون للإشارة إلى الهزيمة القاضية ومستوحى من المعركة التي هُزم فيها نابليون وقضت على أسطورته.
وكتبت لوبان، التي من المتوقع أن تكون المنافس الرئيسي لماكرون في انتخابات 2022، في تغريدة على تويتر: "من المؤسف أن الفرنسيين هم الذين يتحملون تبعات هذا التأخير، وعواقب تكبره، وعدم السلاسة في اتخاذ القرار، بثمن باهظ يدفعونه من حياتهم اليومية".
ويتهم معارضو ماكرون وقطاع من الجمهور بأنه يتصرف كأنه ملك يحيط نفسه بحاشية من المخلصين ولا يستمع لأحد، سوى قليلين، خارج هذه الدائرة منذ دخوله الإليزيه في 2017.
وفي مارس/آذار الماضي، أظهر استطلاع للرأي أن غضب التيار اليساري من الرئيس ماكرون ساعد في وضع لوبان على مسافة قريبة من تحقيق النصر في حال مواجهتهما في انتخابات العام المقبل، بحسب ما ذكرته صحيفة The Times البريطانية.
هذا الاستطلاع أشار إلى أن مارين قد تحقق 47% مقابل 53% لماكرون في جولة ثانية من المواجهة، ويرجع ذلك أساساً إلى أن الناخبين اليساريين سيتوقفون عن الالتفاف حول مرشح رئيسي لعرقلة زعيمة التجمع الوطني، وفقاً للاستطلاع الذي أجرته شركة Harris Interactive.
وأثارت هذه النتائج قلقاً متنامياً في معسكر ماكرون، مع إشارات توحي بأن كثيرين من اليسار يشعرون بغضب شديد تجاه ما يرون أنه سياساته المتغطرسة المؤيدة للشركات، لدرجة أنهم سوف يمتنعون عن التصويت إذا انتهى السباق بجولة إعادة بين ماكرون ولوبان.
الخطاب الماكروني المتطرف الذي يعمق الانقسام
ربما يكون المصطلح الذي أصبح ملتصقاً بماكرون خلال رئاسته لفرنسا هو "الرئيس الذي يعمق الانقسام"، فمن الاحتجاجات الشعبية الضخمة ضد سياساته الاقتصادية، والسترات الصفراء، إلى تصريحاته بشأن المسلمين في فرنسا والإسلام بشكل عام والتي أثارت غضب المسلمين حول العالم، تحول ماكرون إلى شخصية مثيرة للجدل في جميع الملفات داخلياً وخارجياً.
فالرجل الذي فاز في انتخابات 2017 وأصبح رئيساً لفرنسا من خلال دعم معسكر اليسار الفرنسي له والمسلمين الفرنسيين في مواجهة زعيمة اليمين المتطرف ماريان لوبان، أصبح الآن يتبنى خطاباً وسياسات أقرب لليمين ربما من لوبان نفسها.
وأثارت تصريحات ماكرون الشهيرة بشأن أن "الإسلام دين يواجه أزمة" وتقديم حكومته مشروع قانون لمحاربة ما وصفه بـ"الانعزالية الإسلامية"، أثارت انتقادات عنيفة داخل وخارج فرنسا، مع إصرار ماكرون على أن الرسوم المسيئة لنبي الإسلام تقع في إطار حرية التعبير، واضطر لاحقاً للاعتذار تحت ضغط الحملة الشعبية في العالمين العربي والإسلامي لمقاطعة البضائع الفرنسية.