اعتقلت إسرائيل فجر اليوم الأحد 19 سبتمبر/أيلول الأسيرين أيهم كممجي ومناضل نفيعات ليسدل الستار على فرار الأسرى الستة من سجن جلبوع شديد الحراسة عبر نفق حفروه بملعقة، فما كشف حساب تلك المغامرة التي شغلت العالم طوال أسبوعين كاملين؟
كانت قصة انتزاع الحرية من جانب ستة من الأسرى الفلسطينيين في سجن جلبوع قد أصبحت حديث العالم منذ فجر الإثنين 6 سبتمبر/أيلول الجاري، حين أفادت وسائل إعلام إسرائيلية بفرار الستة من خلال نفق قاموا بحفره من زنزانتهم إلى خارج السجن، مما تسبب في أزمة كبيرة لإسرائيل على جميع المستويات، فيما اعتبر الفلسطينيون ما حدث انتصاراً آخر للمقاومة على الاحتلال.
وجندت إسرائيل جميع أجهزتها الأمنية لمطاردة الأسرى الستة، واعتقلت في بادئ الأمر اثنين منهم هما يعقوب قادري ومحمود العارضة أقدم المعتقلين الستة الذي أمضى 26 عاماً في السجن.
وفي اليوم التالي، ألقت الشرطة القبض على زكريا الزبيدي ومحمد العارضة، المُدان بالسجن مدى الحياة وقد أمضى منها 22 عاماً. وفجر اليوم الأحد 19 سبتمبر/أيلول، وقالت الشرطة الإسرائيلية في بيان إن الجيش الإسرائيلي ومقاتلي (جهاز الأمن العام-المخابرات) الشاباك، القبض على السجينين الهاربين من سجن جلبوع، في جنين".
وأضافت: "بعد حوالي أسبوعين من المطاردة، عمل مقاتلو حرس الحدود الليلة مع القوات الخاصة من جهاز الأمن العام والجيش الإسرائيلي في جنين للقبض على السجينين الهاربين، أيهم كممجي ومناضل نفيعات".
وبحسب البيان فقد تمكن جهاز الشاباك من تحديد المنزل الذي كان يقيم فيه المطلوبون، وأضاف: "تم القبض على المطلوبَين وهما على قيد الحياة، دون مقاومة، وتم اقتيادهما للاستجواب من قِبَل جهاز الأمن العام".
كما أصدر جهاز الأمن العام "الشاباك" بياناً قال فيه إنه تمكن من تحديد المنزل الذي تواجد فيه الأسيران شمالي الضفة الغربية. وأضاف البيان أنه تم اعتقال فلسطينيَين اثنين آخرَين، قدما المساعدة للأسيرين.
وبحسب صحيفة يديعوت أحرنوت، فإن قوات إسرائيلية كبيرة من الجيش الإسرائيلي طوّقت أحد البيوت الفلسطينية في جنين، وطلبت من سكانه الخروج منه وتسليم أنفسهم، وكان منهم الأسيران.
مَن هم الأسرى الستة؟
والأسرى الستة، الذين أعادت إسرائيل اعتقالهم تباعاً، ينتمون جميعاً إلى محافظة جنين في الضفة الغربية، وهم زكريا الزبيدي (45 عاماً) القائد السابق لكتائب شهداء الأقصى، من مواليد مخيم جنين، انتخب عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح عام 2006، واعتقل من مدينة رام الله في الضفة الغربية يوم 27 فبراير/شباط 2019، وكان معتقلاً بتهمة الانتماء لكتائب الأقصى ولم يصدر بحقه حكم.
مناضل يعقوب عبدالجبار نفيعات (32 عاماً) وهو من مواليد بلدة يعبد قضاء جنين، واعتقل عام 2006 وأفرج عنه عام 2015، ثم أعيد اعتقاله عام 2016 ثم عام 2020، متهم بالانتماء لسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي والمشاركة في عمليات للمقاومة ضد قوات الاحتلال، ولم يصدر بحقه حكم بعد.
والثالث هو يعقوب محمود أحمد قادري (39 عاماً)، من مواليد قرية بير الباشا قضاء جنين، وتعرض عام 2000م للمطاردة من الاحتلال، وشارك في معركة الدفاع عن مخيم جنين عام 2002م، اعتقل في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2003، وصدر ضده الحكم بالسجن المؤبد مرتين و35 عاماً وذلك عام 2004. وعام 2014م حاول مع مجموعة من الأسرى الفرار من سجن شطة، عبر نفق، لكن المحاولة لم تنجح.
أما أيهم فؤاد نايف كممجي (35 عاماً)، فهو من مواليد قرية كفر دان من مدينة جنين، وبدأ الاحتلال في مطاردته في مايو/أيار 2003 واعتقلته قوات الاحتلال في 4 يوليو/تموز 2006، وحُكم عليه بالسجن المؤبد مرتين.
محمود عبد الله علي عارضة (46 عاماً) من مواليد بلدة عرابة قضاء جنين، اعتقل لأول مرة عام 1992 وتم إطلاق سراحه عام 1996، ثم اعتقل من جديد بالعام نفسه بتاريخ 21 سبتمبر/أيلول 1996. محكوم بالسجن المؤبد بالإضافة إلى خمسة عشر عاماً، بتهمة الانتماء والعضوية للجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، والمشاركة في عمليات للمقاومة.
محمد قاسم أحمد عارضة (39 عاماً) من مواليد بلدة عرّابة قضاء مدينة جنين. اعتقل في كمين إسرائيلي بتاريخ 7 يناير/كانون الثاني 2002، ثم أفرج عنه منتصف شهر مارس/آذار من عام 2002، ويوم 16 مايو/أيار 2002، تمت محاصرته واعتقل في مدينة رام الله، ومحكوم عليه بثلاثة أحكام بالمؤبد و20 عاماً.
فرح إسرائيلي.. ولكن!
كان متوقعاً أن تسود حالة من الإحباط لدى الجانب الفلسطيني بعد نجاح إسرائيل في إعادة اعتقال الأسرى الستة، خصوصاً في ظل حالة "الفرح" التي ظهرت في بيان نفتالي بينيت رئيس الحكومة الإسرائيلية بعد اعتقال الأسيرين الأخيرين.
إذ "هنَّأ" بينيت الأجهزة الأمنية على إلقاء القبض على باقي الأسرى الفلسطينيين، وقال، في بيان عبر حساب رئاسة الوزراء الإسرائيلية بموقع تويتر، إنه يود طيّ صفحة هذا الحدث. وما تعطل (بسبب عملية الفرار) يمكن إصلاحه.
"انتهى الأمر"، مضيفاً أنه تم إلقاء القبض على جميع الهاربين وهم سيعودون إلى السجن، "نتيجة عملية مثيرة للإعجاب وذكية وسريعة نفذتها قوات الشاباك والشرطة وجيش الدفاع (جيش الاحتلال الإسرائيلي)".
إسرائيل، الدولة التي تحتل الأراضي الفلسطينية وتمارس بحق الفلسطينيين جميع أشكال القمع التي تصفها منظمات حقوقية دولية بأنها ممارسات ترقى إلى "جرائم الحرب"، تعتبر الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال ويدافعون عن حقهم المشروع "إرهابيين".
ويعكس بيان بينيت وتهنئته للجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية حجم ما سببه نجاح الأسرى الستة في الهروب من سجن جلبوع، أحد أكثر معتقلات إسرائيل أمناً وحراسة لدرجة أنه يطلق عليه "الخزنة الحديدية"، من صدمة داخل إسرائيل على جميع المستويات السياسية والأمنية، وتم تشكيل لجنة تحقيق مستقلة بالفعل للوقوع على أسباب ما حدث وكيفية نجاح الأسرى الستة في تجاوز أنظمة السجن شديدة الصرامة.
إذ أثارت عملية الفرار موجة هائلة من الانتقادات في الداخل الإسرائيلي، وهو ما دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار بتشكيل لجنة تحقيق وإعادة فحص كل السجون الإسرائيلية التي تضم نحو 4650 أسيراً فلسطينياً، بينهم 200 طفل وقاصر.
رسالة الأسرى وصلت بنجاح
ويرى أغلب المراقبين والفلسطينيين والمتعاطفين معهم أن ما قام به الأسرى الستة من تخطيط على مدى أشهر طويلة وتنفيذ ناجح لعملية "انتزاع الحرية" قد حقق هدفه بصورة كاملة، ولا ينقص من هذا النجاح إعادة اعتقالهم من جانب إسرائيل مرة أخرى.
فالفرار من المعتقلات الإسرائيلية، بحسب ما يراه الفلسطينيون، شكل من أشكال مقاومة الاحتلال، وهناك تاريخ ممتد في هذا الصدد، شهد الكثير من عمليات الفرار باستخدام وسائل مبتكرة وغير تقليدية، كان آخرها حفر "نفق الحرية" في سجن جلبوع -كما يسميه الفلسطينيون- باستخدام ملعقة، وهو ما حول الملعقة إلى رمز من رموز المقاومة.
وقد تجمع عدد من الفلسطينيين أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن وأقاموا "فعالية الملعقة" كنوع من الدعم للأسرى الستة، حيث ألقوا بعدد كبير من "الملاعق" أمام بوابة السفارة، فيما وصفه البعض بأن "الملعقة" أصبحت رمزاً للنضال الفلسطيني.
وقد عبر والد الأسير أيهم كممجي عن اعتقاده بأن "الأسرى الفارين والمعاد اعتقالهم أوصلوا رسالتهم بعد أن كان ملفهم طيّ النسيان". وأضاف فؤاد كممجي للأناضول: "الأسرى الستة أوصلوا رسالة أسرى منسيين من جميع شرائح المجتمع، لقد دقوا ناقوس الأسرى". وأعرب كممجي عن أمله في أن "تكون الرسالة قد وصلت لكل من يستطيع أن يحرر أسرى من السجن".
ملف الأسرى الفلسطينيين تحت الأضواء
ما قاله والد أيهم كممجي يعبّر عما يعتقده أغلب الفلسطينيين بالفعل، فالرجل يقول إن "الأسرى لما فقدوا الأمل في إخراجهم من الأسر قرروا بسواعدهم وأصابعهم أن يخرجوا نحو الحرية".
وبالتالي فإن إعادة اعتقال الأسرى الستة لا تقلل من حجم الإنجاز الذي حققوه بالفعل، وهذا ما عبرت عنه حركة حماس بقولها في بيان إن إعادة اعتقال آخر أسيرين فرا من سجن جلبوع في منطقة جنين، "لن تغطّي على حجم الانتصار".
وقال زاهر جبارين، عضو المكتب السياسي للحركة، في بيان، إن نجاح عملية الفرار "وضع العدو في حجمه الطبيعي ألعوبة يسخر منها الجميع"، وأضاف: "ملحمة نفق الحرية في سجن جلبوع، قدمت نموذجاً مُلهماً لكل أحرار الشعب، وأثبتت أن الحقوق تُنتزع انتزاعاً".
وأشار إلى أن اعتقال آخرين أسيريْن "لن يؤثر على عزم الفلسطينيين وإصرارهم على تحرير الأسرى"، مجدداً تأكيد حماس على أن ملف "تحرير الأسرى استراتيجي، وأن قيادة المقاومة تعمل من أجل إتمام صفقة تبادل، يكون من ضمنها الأسرى الستّة".
والموقف نفسه عبَّرت عنه حركة الجهاد الإسلامي، التي حملت إسرائيل المسؤولية الكاملة عن المساس بحياة الأسرى الستة، وقالت الحركة في بيان وصل وكالة الأناضول: "نعاهد الأسرى على مواصلة العمل من أجل تحريرهم، وهذا من أكثر الواجبات إلحاحاً وأولوية". ودعت الشعب الفلسطيني إلى الخروج بمسيرات "مساندة لأهالي الأسرى الستة، ومناصرة للأسرى عموماً".
كما طالبت الأجنحة العسكرية للمقاومة بـ"البقاء في حال استنفار وجاهزية عالية، للدفاع عن الأسرى"، مستكملة:" المعركة مستمرة والحساب لن يغلق إلا برحيل العدو".
الهروب من المعتقل ليس غاية
وبشكل عام لا يعتبر الأسرى الفلسطينيون أن محاولات الفرار من المعتقل غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الهدف الأكبر وهو مواصلة المقاومة للاحتلال حتى من داخل معتقلاته، وهو ما يفسر استمرار محاولات انتزاع الحرية عن طريق الفرار دون توقف.
كما أن استسلام الأسيرين كممجي ونفيعات عندما حاصر الجيش الإسرائيلي المنزل في جنين حرصاً على عدم تعريض حياة المدنيين للخطر يمثل في حد ذاته دليلاً على هذه الرؤية الخاصة بالهدف الأكبر من محاولات الفرار من معتقلات الاحتلال الإسرائيلي. فكممجي ونفيعات محكومان بالسجن مدى الحياة، ومن ثَمَّ قد تكون المقاومة، حتى وإن أدت إلى استشهادهما عوضاً عن العودة للمعتقل، تصرفاً منطقياً، بحسب كثير من المحللين.
لكن ما قاله والد كممجي يفسر كيف فكر ولده ورفيقه نفيعات في تلك اللحظات التي سبقت إعادة اعتقالهما، إذ قال للأناضول إنه "فوجئ بعد منتصف الليلة الماضية باتصال هاتفي من أيهم يخبره فيه اعتزامه تسليم نفسه، بعد حصاره من الجيش الإسرائيلي حفاظاً على سلامة أهل المنزل الذي كان يؤويه".
وأضاف: "كان يتوقع مغادرة أيهم البلاد ووصوله لإحدى الدول المجاورة، فوجئت باتصاله، كان موجوداً بجنين ويبعد عني 2 أو 3 كيلومترات، ومنذ أسبوعين بجانبي يستنشق الحرية ولا أعرف عنه أو أراه".
وعبَّر فؤاد كممجي عن خشيته على مصير ابنه أو تعرضه للتعذيب، وقال: "ما دام هناك احتلال فهناك خوف" محملاً الاحتلال "كامل المسؤولية عن حياته (أيهم) وسلامة جسمه". كما طالب "المنظمات الحقوقية وغير الحقوقية بأن تتوجه إلى الأسيرين المعاد اعتقالهما وتُطمئِن الشعب عنهما".
وقال والد أيهم إن "إيواء واستقبال الأسيرين المعاد اعتقالهما لا يقل وطنية عن عمل الشباب أنفسهم، ولا ينم إلا عن شرف وشهامة وقمة الوطنية".
الخلاصة في قصة الأسرى الستة هي أن نجاحهم المذهل في الفرار من "الخزنة الحديدية" قد تسبب في أزمة كبيرة لإسرائيل، ووضع ملف الأسرى الفلسطينيين تحت دائرة الضوء عالمياً، وأوصل رسالة بأن المقاومة لن تنتهي إلا بحصول الفلسطينيين على حقهم في إقامة دولة مستقلة، وكلها مكاسب لا يقلل من حجمها نجاح إسرائيل في إعادة اعتقالهم مرة أخرى بعد أسبوعين من الاستنفار غير المسبوق.