فشل فيسبوك في تبرئة ساحته من شبهة الانحياز لإسرائيل بشكل عام، وهي الاتهامات التي طفت على السطح بوضوح أثناء العدوان الأخير على قطاع غزة، وما صاحبه من اشتعال معركة "الرواية" على منصات التواصل الاجتماعي.
وكان عملاق منصات التواصل الاجتماعي فيسبوك والمنصات التي يمتلكها، خصوصاً إنستغرام، قد واجه حملة من الانتقادات العنيفة بأنه يمارس "الرقابة لصالح إسرائيل" على حساب الفلسطينيين الذين يدافعون عن أراضيهم المحتلة، وهي الاتهامات التي نفت إدارة فيسبوك صحتها.
لكن مجلس المشرفين على فيسبوك، الذي تولى النظر في الاتهامات الموجهة للشركة، أصدر حكمه أخيراً، وجاء في صورة "توصيات" بإجراء تحقيق مستقل في الاتهامات بالتحيّز التي وُجّهت إلى لجان المراجعين المشرفة على المنشورات الخاصة بفلسطين وإسرائيل، فماذا يعني ذلك؟
هل فيسبوك منحاز لإسرائيل؟
كان عدد كبير من النشطاء العرب على منصات التواصل الاجتماعي، وبصفة خاصة فيسبوك وتويتر، قد تعرضوا إما لإنذارات بالحظر أو حظر مؤقت أو إغلاق لحساباتهم بسبب ما قالوا إنه مناصرتهم لفلسطين وانتقادهم للعدوان الإسرائيلي على غزة، ثم تكررت نفس الشكوى ولا تزال من جانب كثير من المستخدمين العاديين لتلك المنصات، وبخاصة فيسبوك وتويتر.
وفي ذلك الوقت، مايو/أيار الماضي، كشف تقرير لموقع The Intercept عن قيام فيسبوك بتغيير الخوارزمية التي يستخدمها في الرقابة على المحتوى الذي ينشره مستخدمو التطبيق، دون أن يعلن عملاق منصات التواصل الاجتماعي عن تلك التغييرات.
وتمثل ذلك التغيير في ربط كلمة "صهيوني" باليهودية وإسرائيل، بمعنى أن أي محتوى يوجه انتقاداً للصهيونية يعتبره فيسبوك ضمنياً أنه انتقاد لليهودية وإسرائيل، ومن ثم يصنفه على أنه محتوى يحضّ على نشر الكراهية ويحرض على العنف ويقوم بحذفه وحظر حساب صاحبه.
وبحسب تقرير The Intercept القائم على قواعد فيسبوك الداخلية، والتي قال الموقع إنه اطلع عليها، يبدو أن تلك القواعد معمول بها منذ عام 2019. لكن مع تصدر الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة للمشهد إقليمياً وعالمياً في مايو/أيار، بدأ تطبيق تلك القواعد يأخذ شكلاً أكثر تكثيفاً، وهو ما لفت الأنظار لما يحدث.
ومن المهم هنا التذكير بأن فيسبوك كان قد قال في مارس/آذار الماضي إنه لم يتم اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان سيتم اعتماد مصطلح صهيوني على أنه مرادف ليهودي عند تحديد المحتوى الذي يمثل "خطاب كراهية"، لكن ما حدث بالفعل وما كشف عنه تقرير الموقع الأمريكي أظهر أن فيسبوك لم يذكر الحقيقة.
وفي ظل ذلك الجدل، فتح مجلس المشرفين على فيسبوك تحقيقاً حول منشور نقله مستخدم مصري، وتضمن خبراً من منصة إخبارية تابعة للجزيرة، قبل العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في مايو/أيار مباشرة.
المنشور كان عبارة عن خبر تضمن صورة تظهر شخصين في زي فصائل عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية، (حماس) التي تتولى الحكم في قطاع غزة.
ونقل المجلس محتوى الخبر بالإنجليزية على الشكل التالي: "قيادة المقاومة، في الغرفة العامة، تعطي الاحتلال هدنة، حتى الساعة السادسة، ليسحب جنوده من المسجد الأقصى، وحي الشيخ جراح، وإلا فقد أعذر من أنذر، أبو عبيدة -كتائب القسام- المتحدث العسكري".
ولم يضف المستخدم إلى المنشور الأصلي إلا عبارة "أووه". لكن فيسبوك حذف المنشور بشكل سريع، لكن أعاده بعد أن تقدم صاحب الحساب بشكوى إلى مجلس المشرفين.
كيف دافع فيسبوك عن موقفه "المنحاز"؟
فيما يتعلق بواقعة الخبر الذي قام المستخدم المصري بإعادة نشره على حسابه الشخصي في فيسبوك، لم يتوصل التحقيق الذي أجراه مجلس المشرفين إلى سبب حذف المنشور من الأساس، إذ لم يقدم اثنان من مراجعي المنشورات في فيسبوك على المنشور المذكور سبباً لتصنيفهم المنشور على أنه عنيف أو يحض على العنف ويخرق قواعد الموقع، مع العلم.
ومن المهم هنا التأكيد على أن قواعد فيسبوك المطبقة حالياً لا تفرض على "المراجعين" أن يسجلوا أسباب قراراتهم المتعلقة بالمحتوى، وهذه النقطة في حد ذاتها تمثل ثغرة واضحة في كيفية مراجعة منصة بحجم فيسبوك للمحتوى الذي يتم نشره عبرها.
وكانت هذه النقطة بالتحديد مثاراً لانتقادات كثيرة يوجهها نشطاء عرب وأجانب لآلية عمل المنصة الاجتماعية العملاقة، إذ إنها تقدم مخرجاً من جانب إدارة فيسبوك عندما تحدث حالات صارخة لحذف المحتوى الفلسطيني، فيتم تبريرها على أنها "حادث غير مقصود".
وهذا ما حدث بالفعل عندما واجه فيسبوك حملات انتقاد جماعية ودعوات للمقاطعة بسبب "الانحياز" لإسرائيل على حساب فلسطين، إذ ألقت صوفي فوغيل المتحدثة باسم الشركة في بريد إلكتروني أرسلته لموقع The Intercept، حيث ألقت باللوم في حذف المنشورات، التي ترصد وتوثق في أغلبها، محاولات المستوطنين الإسرائيليين الاستيلاء على منازل الفلسطينيين، على "قضية تقنية أعمق" في تطبيق إنستغرام وعلى سلسلة من "عمليات الحذف غير المقصود" و"الأخطاء البشرية".
ما الهدف من "التحقيق المستقل"؟
مع وضع تلك "الثغرات" والتساؤلات التي فشل فيسبوك في تقديم إجابات عنها، وجميعها تصب في صالح إسرائيل والترويج لروايتها مقابل التضييق على فلسطين وحجب روايتها، توصل مجلس المشرفين على فيسبوك إلى توصيات أهمها حتمية إجراء تحقيق مستقل بشأن الاتهامات الموجهة إلى فيسبوك.
وركز جزء من التحقيقات التي أجراها مجلس المشرفين على فيسبوك على نقطتين تتعلقان بإذا ما كانت إسرائيل قد قدمت "طلبات رسمية أو غير رسمية" تتعلق بحذف منشورات بعينها أثناء الحرب على غزة في مايو/أيار.
وجاء رد فيسبوك على تلك التساؤلات بأنه "لم يتلقّ أي طلبات رسمية من إسرائيل بهذا الخصوص". لكن إدارة فيسبوك رفضت التعليق على الجزء الآخر من السؤال المتعلق بالطلبات غير الرسمية، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وكان هذا الموضوع، تنفيذ فيسبوك لما تطلبه إسرائيل بشأن المحتوى، مثاراً لتعليقات هائلة تضمنت اتهامات صريحة لفيسبوك، بالتمييز، والتحيز ضد المحتوى الذي ينشره الناشطون الفلسطينيون، والمحتوى باللغة العربية خلال العدوان الأخير على غزة.
وكانت مجموعة حقوقية فلسطينية على شبكة الإنترنت قد وجدت أنه خلال الفترة بين يومي 6 و19 مايو/أيار الماضي، أزال فيسبوك 500 منشور متعلق بقطاع غزة. واعتذر نائب رئيس فيسبوك للشؤون الدولية، نيك كليغ لاحقاً، لرئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتيه، عن تصنيف منشورات محرضة على العنف، بشكل خاطئ.
وشملت توصيات مجلس المشرفين لفيسبوك "تشكيل هيئة مستقلة غير مرتبطة بأي من الطرفين الفلسطيني أو الإسرائيلي، لتجري تحقيقاً شاملاً حول مراقبي المحتوى باللغة العربية والعبرية على فيسبوك، والتأكد من أن المراقبين والبرامج التي يستخدمونها لأداء عملهم غير منحازة لأي من الجانبين"
والتوصية الثانية أن يتم نشر التحقيق ونتائجه للعالم، والتوصية الثالثة أن يتم تشكيل آلية تحدد كيف يتلقى فيسبوك الطلبات الحكومية لإزالة المحتوى والتأكد من وجودها بشكل واضح وشفاف للجميع.
والتوصية الأخيرة أن تميّز مراجعة المحتوى بين الطلبات الحكومية، التي تؤدي لحذف منشورات بناءً على اختراق القوانين المحلية، والطلبات التي تؤدي إلى حذف المنشورات بناءً على مخالفة قوانين فيسبوك، علاوةً على الطلبات التي تنتهي دون قرار بحذف المنشور المشكو بخصوصه، على أن يكون سبب الحذف مذكوراً بتفاصيله.
ماذا تعني تلك التوصيات؟
إدارة فيسبوك برئاسة مارك زوكربيرغ، من جانبها، قالت إنها "ترحب بالتوصيات التي أصدرها مجلس المشرفين وستنظر فيها"، دون مزيد من التفاصيل، وهو ما يشير إلى أن "تنفيذ" تلك التوصيات قد يتم وقد لا يتم، فالقرار في النهاية في يد الإدارة التي يرأسها زوكربيرغ نفسه.
وكان زوكربيرغ وإدارته هم أصحاب فكرة تأسيس "مجلس المشرفين"، ليكون بمثابة هيئة مستقلة تنظر في القواعد المنظمة لنشر المحتوى على عملاق منصات التواصل الاجتماعي، التي يستخدمها ما يقرب من 3 مليارات شخص حالياً، وتنظر في شكاوى المستخدمين وتقدم توصيات للإدارة بكيفية التعامل مع تلك القضايا.
ووجدت الفكرة انقساماً بين من يؤيدها ومن يعارضها، فالمؤيد للفكرة يرى أنها خطوة إيجابية للمستخدمين الذين يختصمون فيسبوك فيشكون إلى مجلس المشرفين، بينما الرافضون للفكرة فيرون فيها "تحايلاً" من جانب فيسبوك ليظل بعيداً عن أي "مساءلة حقيقية"، في ظل تحقيقات فيدرالية أمريكية في سلوك فيسبوك الاحتكاري.
ففيسبوك يقوم بتغيير قواعد عمل خوارزمية فحص المحتوى المنشور عبر منصاته بصورة شبه أسبوعية، دون الإفصاح عن بعض تلك التغييرات من الأساس أو نشرها بصورة معقدة لا يستوعبها أغلب المستخدمين، الذين يجدوا حسابهم محظوراً بشكل مؤقت أو حتى دائم دون أن يعرفوا السبب.
وقد زادت تلك التغييرات من تعقيد الأمور بالنسبة للمستخدمين وزيادة الغموض المحيط بطريقة تعامل فيسبوك مع المحتوى، فالقواعد تتغير نحو 2000 مرة كل عام، بحسب معلومات فيسبوك نفسه، ما يزيد من حجم المحتوى الذي يتم تصنيفه "مخالف" بصورة ضخمة يومياً، بحسب دراسة حول خطوة تأسيس مجلس المشرفين ومدى جدواها.
ويصدر مجلس المشرفين توصياته لفيسبوك بصورة دورية، كل ثلاثة أشهر، ومن المؤكد أن التوصيات الخاصة "بالانحياز لإسرائيل" تمثل لحظة الحقيقة بالنسبة لإدارة فيسبوك، التي رحبت بالتوصيات ووعدت بالنظر فيها، فهل تعترف إدارة فيسبوك بأن "قواعدها وخوارزمياتها" منحازة لإسرائيل وتبدأ في تعديلها؟ هذا ما ستكشف عنه الفترة المقبلة، خصوصاً وأن تلك التوصيات قد وضعت فيسبوك تحت المنظار.