خسرت الولايات المتحدة أرواحاً وأموالاً وغيرهما جراء هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، لكن منطقة الشرق الأوسط، والدول العربية بالتحديد، كانت الخاسر الأكبر من تلك الأحداث، التي غيرت وجه المنطقة للأسوأ على مدى 20 عاماً.
الهجمات التي تبناها تنظيم القاعدة، وكان مقرها أفغانستان في ذلك الوقت، لا تزال تمثل ذكرى مؤلمة للأمريكيين، وتزامنت هذا العام مع الانسحاب المهين من أفغانستان، مما وضع إدارة الرئيس جو بايدن في مرمى النيران داخلياً وعمق من انقسام الأمريكيين.
لكن تظل الآثار السلبية التي لحقت بالشرق الأوسط، والدول العربية على وجه الخصوص، واقعاً أكثر إيلاماً لا يمكن تجاهله، وهذا ما تناولته مجلة Foreign Affairs الأمريكية في تحليل لها بعنوان "ضجيجٌ وغضب: الشرق الأوسط ما بعد 11 سبتمبر/أيلول".
خسائر أمريكا من هجمات سبتمبر
يميل الأمريكيون إلى رثاء أحداث 11 سبتمبر/أيلول وما تلاها من آثارٍ طويلة من خلال النظر إلى ما خسروه بالداخل هم وبلدهم في "الحرب على الإرهاب". وقد خسرت الولايات المتحدة الكثير بالفعل، في الأرواح والمال والنفوذ والاحترام.
وأدَّى الهجوم وتداعياته -خاصةً غزو أفغانستان والعراق- إلى إضعاف البلاد من خلال تأجيج الانقسام، وانعدام الثقة، واستنزاف الثقة في الحكومات والمؤسسات، وتفاقم الاستقطاب الذي شوَّه الديمقراطية الأمريكية. شكَّلَت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بداية نهاية الحقبة الأمريكية، رغم ما قد تبدو عليه من قِصَر.
ومع ذلك، كان الحال في الشرق الأوسط أسوأ بكثيرٍ مِمَّا هو في الولايات المتحدة. إذا حكمنا على ما كان يمكن أن يكون وما كان بالفعل، فإن العقدين الماضيين كانا الأكثر تكلفةً ومأساويةً في التاريخ المعاصر للمنطقة.
فقد أثارت هجمات سبتمبر قدراً هائلاً من الاهتمام العالمي بالمنطقة وشعوبها، لكن الدافع الأكبر هو الخوف والغضب. كانت هناك أسبابٌ للأمل، لكنها لم تدم. وانحنى هذا التاريخ الحديث نحو اليأس لا العدالة.
الديمقراطية في أسوأ تجسيد لها
في الأشهر والسنوات التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، استعارت الأنظمة العربية حرب الولايات المتحدة على "الإرهاب" لتخوض حروبها الخاصة التي لا علاقة لها بهذه الحرب إلى حدٍّ كبير.
وباستخدام التهديد الإرهابي المنتشر كذريعة، اتَّهمَت هذه الأنظمة خصومها المحليين -وأغلبهم معارضون سلميون ينبذون العنف وينادون بالديمقراطية- بتقويض أمن الدولة. وكان المتطرِّفون على استعدادٍ تام للمساعدة في تأكيد هذه الرواية التي خدمت غاياتهم أيضاً.
فقد نشروا أشكال الفوضى التي تحتاجها الأنظمة لتبرير المزيد من الإجراءات القمعية. في مايو/أيَّار 2003، قَتَلَ مُفجِّرون انتحاريون في الدار البيضاء 33 شخصاً في أسوأ هجومٍ إرهابي في تاريخ المغرب. ثم وقعت تفجيراتٌ انتحاريةٌ في نوفمبر/تشرين الثاني 2005 في ثلاثة فنادق في العاصمة الأردنية عمان، وأعلن تنظيم القاعدة في العراق، الذي هو نفسه نتاجٌ للتمرُّد في العراق ومثَّلَ تمهيداً مُسبَّقاً لظهور تنظيم الدولة الإسلامية، مسؤوليته عن الهجمات.
ولم يتردَّد المستبدون العرب قط في استخدام التهديدات الأمنية لقمع المعارضة، بحسب تقرير المجلة الأمريكية، لكن "الحرب على الإرهاب" سمحت لهم بمهاجمة خصومهم بحماسةٍ متجدِّدة. ثم شهد العقد الذي تلا 11 سبتمبر/أيلول إغلاق الحكومات العربية المساحات السياسية، وقمعها الجماعات الإسلامية غير العنيفة، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك المنظمات السياسية العلمانية وجماعات المجتمع المدني. حدث هذا على الرغم من سعي الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إلى ما سماه "أجندة الحرية".
ورأت إدارة بوش أن الشعوب في الشرق الأوسط كانت أكثر عرضة للجوء إلى العنف عندما تفتقر إلى الوسائل السلمية للتعبير عن مظالمهم. وعليه، فإن أحداث 11 سبتمبر/أيلول لم تحدث لأن العرب كرهوا الحرية، ولكن لأن مزيجاً ساماً من القمع السياسي قد ولَّد إحباطاً وغضباً.
كان هذا منطقياً من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية، فقد مارس بوش في الواقع ضغوطاً على بعض حلفاء الولايات المتحدة الاستبداديين في الشرق الأوسط، مِمَّا ساهَمَ في أول ربيع عربي (منسي إلى حدٍّ كبير)، مثلما كان معروفاً في ذلك الوقت بين النشطاء في المنطقة، والذي شهد اندلاع احتجاجات جماهيرية في البحرين ومصر ولبنان في 2004 و2005.
دعم واشنطن لقمع المعارضين العرب
في عام 2006، أقرَّ محمد مهدي عاكف المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر آنذاك، على مضضٍ بأن ضغط بوش على الديكتاتورية المصرية قد فَتَحَ المجال للمعارضة. وكما قال عبدالمنعم أبوالفتوح، وهو شخصية قيادية سابقة في الإخوان، آنذاك: "الجميع يعرف ذلك… استفدنا واستفاد الجميع واستفاد الشعب المصري".
فقد صادَفَ أن أطلَقَت جماعة الإخوان في مصر مبادرة إصلاح جديدة في مارس/آذار 2004، في الوقت الذي كانت فيه إدارة بوش تعمل على كشف النقاب عمَّا يسمَّى مبادرة الشرق الأوسط الكبير الخاصة بها.
لكن الضغط لم يدم. بعد أن حقَّقَت الحركات الإسلامية مكاسب انتخابية في جميع أنحاء المنطقة -وخاصةً بعد فوز حماس المفاجئ في الانتخابات في الأراضي الفلسطينية عام 2006- قرَّرَت إدارة بوش أن آفاق الديمقراطية العربية أقل جاذبية مِمَّا كانت تعتقد في البداية.
علاوة على ذلك، من أجل تحقيق الاستقرار في العراق بعد الغزو ومواجهة إيران، كانت الإدارة بحاجةٍ ماسَّة إلى تعاون الحلفاء الاستبداديين، وبدا أن طلب تعاونٍ أكبر مع التهديد أيضاً بقطع المساعدات هو أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر.
وعلَّقَت إليزابيث تسوركوف، الزميلة في معهد نيولاينز في واشنطن، على ذلك، قائلةً لصحيفة The Independent البريطانية: "إنها ليست مجرد أنظمة متحالفة مع الولايات المتحدة، مثل الإمارات والمملكة السعودية ومصر، بل أيضاً أنظمة تستخدم هذه الذريعة لتحدي الولايات المتحدة، مثل إيران وسوريا". وأضافت: "إنهم يشيرون باستمرار إلى حربهم على الإرهاب. وهذا حقاً جِنيٌّ خرج من القمقم، ويُستخدَم لوصم المعارضين من قِبَلِ الحكومات الاستبدادية في كلِّ مكان".
من موسكو إلى الرياض، ومن مانيلا إلى الرباط، ومن بوغوتا إلى بنغازي، تبنَّى حكَّامٌ استبداديون قصةً عن حربٍ كبرى ضد شرٍّ يتعثَّر فهمه، ويقحمون أعداءهم بشبكات الإرهاب العالمية كذريعةٍ للقضاء عليهم، وربما يكتسبون بعض المزايا الأخرى من خلال تكثيف المراقبة وفرض الإذعان لهم.
بصيص أمل ثم العودة للمربع صفر
في عام 2008، استغلَّ سيناتور أمريكي شاب غير معروف إلى حدٍّ كبير يُدعَى باراك أوباما أخطاء غزو العراق الفادحة، والوصمة الأخلاقية للتعذيب، وترشَّحَ لمنصب الرئيس، واعداً بعصرٍ جديدٍ في السياسة الخارجية الأمريكية. وفي تناقضٍ صارخٍ مع خصمه الجمهوري، جون ماكين، راهَنَ أوباما بشكلٍ صائبٍ على أن الأمريكيين كانوا مستعدين لإعادة ضبط الأوضاع.
كان أحد أول أعماله الرئيسية كرئيسٍ هو إلقاء خطابٍ اجتذب الكثير من الأنظار في القاهرة في عام 2009، وكان يهدف إلى عرض احتمالية "بداية جديدة" مع العالم الإسلامي.
وفي العام التالي، انطلقتٌ البداية الأولى للربيع العربي في تونس، ثم انتشرت في جميع أنحاء المنطقة. وبعد أن أطاح المصريون الديكتاتور حسني مبارك في فبراير/شباط 2011، أصبح من الشائع سماع مراقبين من داخل وخارج البلاد يعلنون أن الشعب المصري لن يسمح أبداً بأن يحكمه طاغيةٌ مرةً أخرى. لقد اتَّحدوا، والأهم من ذلك أنهم استعادوا كرامتهم.
لكن التفاؤل المستوحى من هذه التطوُّرات لم يدم طويلاً، فبعد عامين فقط، أطاح الجيش المصري، بقيادة الجنرال عبدالفتاح السيسي آنذاك، بالحكومة المُنتَخَبة ديمقراطياً برئاسة محمد مرسي، أحد قيادات الإخوان المسلمين. ويتفق أغلب المحللين في المنطقة وخارجها على أن انقلاب السيسي يمثِّل بداية النهاية للربيع العربي.
وبعد عامٍ من الاحتجاجات الصغيرة، ولكن المهمة لمناهضة النظام، انتشر هدوءٌ متوتِّرٌ في جميع أنحاء مصر. ثم صعَّدَ السيسي، الذي أصبح الآن رئيساً لمصر، من القمع، واعتقل عشرات الآلاف، وحكم على المئات بالإعدام، وأصدر سلسلةً من القوانين التي تجرِّم المعارضة. وكما اتَّضَحَ، من الممكن سحق روح الشعب -على الأقل مؤقَّتاً. فقد شُيِّدَ جدار الخوف من جديد في مصر، ومهما ضعُفَت أساساته، فإنه يظل هائلاً.
وإذا كان التاريخ هو الدليل الذي نسترشد به، فإن اللجوء إلى القمع يمكن أن يثبت فاعليته لفتراتٍ طويلة. إذ بعد مجزرة عام 1982 في حماة، سوريا، والتي قَتَلَ فيها نظام حافظ الأسد عشرات الآلاف من المواطنين، استغرق الأمر من السوريين 29 عاماً لاستجماع الشجاعة للثورة مرةً أخرى. وبعد الانقلاب العسكري في 1992، الذي أنهى التجربة الديمقراطية القصيرة في الجزائر، مرَّت 27 عاماً قبل أن يتمكَّن الجزائريون مرةً أخرى من بناء حركة احتجاجية واسعة النطاق.
20 عاما من الأحداث الكبرى عربياً
ومع تراجع مركزية الصراع العربي-الإسرائيلي (رغم الصراعات الدورية)، ركَّزَت الأنظمة العربية المزيد من الموارد والاهتمام على شعوبها -ولم يكن ذلك بالضرورة لتحسين حياتهم. وباعتبار نظام السيسي نموذجاً، قامت حكومة البحرين والمملكة السعودية والإمارات بقمع حتى أقل تلميحاتٍ للمعارضة الداخلية بلا رحمة. وفي الوقت الحالي، يبدو أن هذا القمع قد نجح في إخضاع الجماهير العربية.
وأضافت صحيفة The Independent أنه، بعد عقدين من غزو أفغانستان وضربات الطائرات المُسيَّرة وعمليات الترحيل السرية، أدَّى كلُّ ذلك إلى نتائج متعدِّدة، لعلَّ أبرزها هو أن الناس صاروا أقل حريةً وأكثر تعرُّضاً للتجسُّس ربما من أيِّ وقتٍ مضى في تاريخ البشرية.
في جميع أنحاء العالم، فرضت الحكومات بشكلٍ أكثر انتظاماً قوانين الطوارئ التي تعلِّق الحقوق والحريات، بينما تمنح سلطات إنفاذ القانون صلاحياتٍ استثنائية، وكلُّ ذلك باسم الحرب على الإرهاب. وتُراقَب الاتصالات الإلكترونية بأوامرٍ من المحكمة أو بدون سببٍ مُحتَمَل. وغالباً ما تُثبَّت كاميرات المراقبة المُزوَّدة ببرامج التعرُّف على الوجوه في أنحاء المدن، بينما تُسجَّل المكالمات الهاتفية بأعدادٍ هائلة.
عاشت شعوب الشرق الأوسط تاريخاً كاملاً في غضون 20 عاماً فقط؛ حيث الحرب على الإرهاب وحرب العراق، والربيع العربي، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية. كانت هناك ثوراتٌ وثوراتٌ مضادة. وشهدت بلدانٌ مختلفة، مثل ليبيا وسوريا واليمن، السياسة كحربٍ في غياب السياسة نفسها. وساد الإرهاق السياسي بين شعوب الشرق الأوسط.
لكن العكس صحيح بالنسبة للأنظمة التي تحكم هذه الشعوب. ومن المفارقات أن الربيع العربي بَعَثَ حياةً جديدةً في الدول العربية التي بدت تحتضر. لطالما اعتمدت دولٌ مثل مصر على الإجراءات القمعية، لكنها لم تكن راغبةً في أخذ تلك الإجراءات إلى النهاية المنطقية لها -أي استخدام القوة الغاشمة من نوع إطلاق النار على حشدٍ كبيرٍ من المتظاهرين.
ودَفَعَ التهديد بالاضطراب وإطاحة هذه الأنظمة إلى التأكيد على "قوميتها" و"دولتها"، بما في ذلك في البلدان التي سبق أن عرَّفَت نفسها في الأساس على أساسٍ ديني وليس وطنياً.
على سبيل المثال، في أعقاب الربيع العربي، أصبحت المملكة السعودية، إحدى الدول الثيوقراطية القليلة المتبقية في العالم، دولةً أكثر نموذجية، فضلاً عن كونها أكثر قمعية. صاغ وليّ العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، "قوميةً جديدة" من خلال حملة تحديثٍ طموحة، وعن طريق إزالة القيود الدينية في الداخل.
وبدأت الحكومة السعودية في تقليص دورها التاريخي كقوةٍ إسلامية شاملة. كان القادة السعوديون يأملون أيضاً في حشد المشاعر القومية من أجل مغامراتٍ مختلفة في الخارج، مثل التدخُّل العسكري في البحرين عام 2011 لقمع الاحتجاجات الجماهيرية هناك، والحملة العسكرية الوحشية ضد الحكومة التي يقودها الحوثيون في اليمن.
وفي تونس، حيث انطلقت شرارة الربيع العربي أواخر عام 2010، وبدا أنها الدولة الوحيدة عربياً التي أوشكت على الإفلات من براثن الثورات المضادة، قام الرئيس قيس سعيد أواخر يوليو/تموز الماضي بتجميد البرلمان المنتخب وإقالة الحكومة وتركيز السلطات كاملة بين يديه، وألمح السبت 11 سبتمبر/أيلول 2021 أنه سيغير الدستور، فيما وصفته أغلب الأحزاب السياسية بأنه انتكاسة على مكتسبات الثورة.