أصبح صانعو السياسة في الغرب يمتنعون الآن عن الحديث عن "حرب عالمية على الإرهاب"، وهي عبارة فضفاضة صيغت بعد هجمات 11 سبتمبر، التي تحل ذكراها الـ20 اليوم. وذلك بعد أن شجعت حروبهم العنيفة على "الإرهاب" والتجاوزات المرعبة الأنظمةَ في جميع أنحاء العالم -وخاصة الحكومات الاستبدادية ذات الأيديولوجيات المختلفة- على استخدام رواية الحرب الشاملة على الإرهاب كأداة مفيدة جداً لقمع الأعداء وخنق المعارضة، وتبرير إساءة استخدام السلطة.
إذ تشن الصين اليوم "حرباً على الإرهاب" ضد أفراد الأقلية الإيغورية المضطهدة، وحتى الأنظمة الاستبدادية والتي تصنف في الغرب على أنها "داعمة للإرهاب" مثل سوريا وإيران وصفت معركتها ضد جماعات المعارضة السورية بأنها جزء من "حرب عالمية أوسع ضد الإرهاب".
الحروب الغربية التي غذت التطرف والاستبداد في العالم
تقول إليزابيث تسوركو، الباحثة في معهد New Lines Institute في واشنطن لصحيفة The Independent البريطانية: "لا يقتصر ذلك فحسب على الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة، مثل الإمارات والسعودية ومصر، بل أيضاً الأنظمة التي تستخدم هذه الرواية ذريعة لتحدي الولايات المتحدة مثل إيران وسوريا. وتشير هذه الأنظمة باستمرار إلى حربها على الإرهاب. وكأن جنياً خرج من القمقم، ويُستخدَم الآن لوسم المعارضين من قبل الحكومات الاستبدادية في كل مكان".
من موسكو إلى الرياض، ومن مانيلا إلى دمشق، ومن بوغوتا إلى بنغازي، تبنّى رجال الدولة الأقوياء "قصة ملحمية" عن "حرب كبرى ضد شر لا يمكن فهمه"، مثلما ورّثها لهم جورج دبليو بوش ونوابه بعد 11 سبتمبر/أيلول. ويقحمون أعداءهم في شبكات الإرهاب العالمية ذريعةً للقضاء عليهم، وربما يكتسبون بعض المزايا الأخرى من خلال تكثيف المراقبة، وسحق القيم المتناقضة الصاخبة وفرض الامتثال.
وتقول صحيفة "ذي إندبندنت" البريطانية، إنه عندما يتحدث الدبلوماسيون الغربيون أو المدافعون عن حقوق الإنسان ضد هذه الانتهاكات، فإنَّ الأنظمة الاستبدادية ترد معبرة عن ازدرائها.
ويجادلون كيف يجرؤ الغرب على انتقاد سوريا والصين وروسيا لاستخدامها أساليب ضد أولئك الذين يعتبرونهم "إرهابيين" في حين شنّت الولايات المتحدة وحلفاؤها معركة عالمية وحشية رداً على هجمات 11 سبتمبر/أيلول؟ كيف يمكن لأولئك الذين يقفون وراء تسليم المشتبه بهم من القاعدة إلى مواقع غامضة، وتعذيب السجناء العراقيين في سجن أبو غريب، وضربات الطائرات بدون طيار على حفلات الزفاف الأفغانية والعراقية واليمنية، أن يتذمروا بشأن الانتهاكات؟
وعَذَر المدافعون عن الكرملين القصف الروسي على المستشفيات السورية بأنه لا يختلف عن الهجمات التي يشنها الأمريكيون على المنشآت الطبية في أفغانستان. وسحق المستبدون العرب الانتفاضات الشعبية من خلال تشويهها بأنها "محاولات من الإرهابيين الإسلاميين للسيطرة".
إرث الحروب الغربية الوحشية
قد يكون أكبر إرث لأحداث 11 سبتمبر/أيلول هو السماح للحكومات بمواجهة كل تحدٍّ لسلطتها بالشرطة والجنود والجواسيس والسجون والبنادق والقنابل.
يقول جوزيف باحوط، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت، للصحيفة البريطانية: "طريقة التعامل مع كل شيء هي في الأساس نهج أمني. سواء الأسئلة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية؛ كل شيء يُدرَج في نهج أمني شامل".
وفي الواقع، أعطت هجمات 11 سبتمبر والرد الأمريكي اللاحق تشجيعاً كبيراً للجماعات المتطرفة، حتى لو أصبحت قدرتها على العمل في الغرب أكثر محدودية.
يقول زيد العلي، مستشار الأمم المتحدة السابق في العراق والباحث الدستوري في مركز "ذراع بناء الديمقراطية" التابع للأمم المتحدة: "إنَّ أحداث 11 سبتمبر نفسها أعطت بالتأكيد الكثير من التشجيع للجماعات المتطرفة. لكن صعود هذه الجماعات مرتبط أيضاً برد فعل الولايات المتحدة. عندما غزت الولايات المتحدة العراق في عام 2003، فإنها في الواقع أزعجت الكثير من الناس الذين لم يروا أنَّ الغزو مبرر بأي شكل من الأشكال وانجذبوا نحو العمل المسلح".
وتظل كل من "القاعدة" و"داعش" المنبثقة عنها منظمات قوية في جميع أنحاء العالم، وأكثر وضوحاً مما كانت عليه قبل 20 عاماً. كان الكثير من ذلك نتيجة للحملات العسكرية الأمريكية ضد المدنيين، التي شجعت المجندين على القتال ومنحتهم مساحة للتنظيم في تضاريس العراق غير الخاضعة للحكم، التي أصبحت منبع الجماعات المتشددة في جميع أنحاء العالم بعد استنزاف القاعدة لأفغانستان.
ويقول العلي: "الدولة التي أقامتها الولايات المتحدة في العراق لم تسيطر على المنطقة. كانت هناك جيوب كبيرة من الأراضي استخدمتها هذه الجماعات لتسليح نفسها وتدريبها وإعادة تجميع صفوفها. وبدأت الكثير من هذه المجموعات في التنظير والتوصل إلى ما يجب فعله بعد ذلك".
وأدى عقدان من الغزو وضربات الطائرات بدون طيار وعمليات الترحيل السري إلى نتائج متباينة من حيث "التحسينات الأمنية". لكن هناك نطاق واحد كان للحرب على الإرهاب فيه تأثير لا يرقى إليه الشك.
صار الناس أقل حرية ويخضعون لمزيد من التجسس، ربما أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية. في جميع أنحاء العالم، تفرض الحكومات بانتظام قوانين الطوارئ التي تُعلِّق الحقوق والحريات بينما تمنح سلطات إنفاذ القانون سلطات استثنائية، كل ذلك باسم مكافحة الإرهاب.
حالة الطوارئ أصبحت قاعدة لا استثناء
تخضع الاتصالات الإلكترونية للمراقبة بأوامر من المحكمة أو بدونها، وحتى بدون سبب محتمل. وغالباً ما تُثبّت كاميرات الأمان المزودة ببرنامج التعرف على الوجه في جميع أنحاء المدن. وتُسجّل المكالمات الهاتفية على نطاق جماعي.
يرسم مقال قاتم للباحث النرويجي توماس هيغهامر في مجلة Foreign Affairs صورة عن مدى قدرة الدول ذات الموارد الجيدة على تكثيف المراقبة الإلكترونية باسم مكافحة الإرهاب.
وكتب هيغهامر: "في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، صوّر المعلقون في كثير من الأحيان حكومات هذه الدول على أنها بيروقراطيات خاملة يتفوق عليها المتمردون الخفيون. لكن مع مرور السنين، ظهرت بدلاً من ذلك تقنيات ديناميكية مزودة بجيوب عميقة ومحققين وعاملين مدربين تدريباً عالياً. مقابل كل دولار واحد في خزائن داعش، هناك ما لا يقل عن 10000 دولار في البنك المركزي الأمريكي. ومقابل كل صانع قنابل في القاعدة، هناك ألف مهندس متدرب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا".
يصف مقال هيغهامر كيف يكاد يكون من المستحيل على أي شخص إنشاء، على سبيل المثال، معسكراً سرياً لتدريب المقاتلين أو ينظم مؤامرة للإطاحة بالحكومة في الغرب؛ لأنَّ كل متر تقريباً من هذه المجتمعات يخضع للمراقبة. وينتقل الباحث لوصف هذا المستوى المكثف من المراقبة بأنه تطور خطير وبائس أحدثته الحرب على الإرهاب، مع استخدام كل هجوم وقع منذ 11 سبتمبر مبرراً لتجاوزات أخرى من الحكومات.
بدورها، تقول تارا فارما، مديرة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في باريس: "أصبحت حالة الطوارئ هي القاعدة. هذه اللحظات التي من المفترض أن تكون استثنائية ومؤقتة صارت جزءاً من حياتنا الآن".