كانت تغطية الإعلام للوضع في أفغانستان مسؤولة بشكل كبير عن تفاقم الأزمة في البلاد، وفي تقييم الجمهور لما حدث بشكل خاطئ..
إذ كان هناك العديد من المفاهيم الخاطئة في تغطية الإعلام للوضع في أفغانستان، حسبما كتب بول بيلار المسؤول المخضرم السابق الذي عمل في الاستخبارات الأمريكية طوال 28 عاماً في مقال في موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
إضافة إلى أخطاء تغطية الإعلام للوضع في أفغانستان فاقم الوضع عملية إلقاء اللوم المتبادل والاتهامات التي تُحرِّكها إمَّا السياسات الحزبية في واشنطن أو الرغبة في الحفاظ على السمعة الشخصية.
تغطية الإعلام للوضع في أفغانستان ركزت على شيطنة طالبان
شيطن الإعلام الغربي حركة طالبان بشكل بدا كوميدياً، وقد ساهم ذلك في حالة الجزع التي أصابت كثيراً من الأفغان، وأدت إلى المشاهد المروعة لعملية الهروب.
تحدث الإعلام الغربي عن أن طالبان، تزوج الفتيات القصر لأعضاء الحركة قسراً، وهو أمر يقول عنه المحلل السياسي الأفغاني روح الله عمر لموقع "إندبندنت عربية"، إن الأنباء التي ترددت عن إجبار الحركة أهالي منطقة "بدخشان" عند السيطرة عليها بتزويج بناتهم فوق 15 عاماً بمقاتليها غير صحيحة، وإن الحركة طالبت الإعلام المحلي والدولي بزيارة المنطقة تحت حمايتها للتأكد من السكان بأنفسهم، مضيفاً أن "ما يتم تداوله على وسائل الإعلام الدولية والمعادية شيء، والواقع الذي تعيشه مناطق سيطرة طالبان شيء آخر".
وقال روح الله إن التغير يمكن تلمسه في المناطق التي سيطر عليها التنظيم حتى قبل سقوط كابول، "فكل مدارس البنات أبقت عليهن الحركة مستمرة في جداولها وبرامجها من دون التدخل في مناهجها، فضلاً عن أن تمنع حضور الفتيات إليها، لكن يجب ألا تكون مختلطة"، جاء ذلك في معرض رده على سؤالنا عما إذا كان عناصر "طالبان" سمحوا بالفعل كما يقولون باستمرار الجميع في حياتهم الطبيعية كما كانوا قبل أن تسيطر، بما في ذلك النساء السافرات.
وتحدث تقرير لموقع دويتش فيله الألماني عن وداع الطالبات لجامعاتهن ومدارسهن، دون أن يقدم دليلاً على إعلان طالبان نيتها إغلاق المدارس.
ولكن السفير الروسي لدى أفغانستان دميتري جيرنوف، قال: بدأت المدارس بالعمل، حتى مدارس للبنات. حاول الغرب تخويفنا من أن أنصار "طالبان" سيأكلون النساء، لم يأكلوهن، وإنما فتحوا مدارس للفتيات".
وأشار جيرنوف إلى أنه يخطط للقيام بجولة في جميع أنحاء المدينة برفقة عناصر من "طالبان" ليرى كل شيء بأم عينه، مضيفاً أن "طالبان" اقترحت اختيار أي مسار تريده السفارة لتلك الجولة.
من جانبه، قال الدكتور محمد نعيم، الناطق باسم المكتب السياسي لحركة طالبان، إن المرأة في أفغانستان لها الحق في التعليم والعمل والملكية والتجارة، ولكن مع احترام أعراف وتقاليد المجتمع.
وما زالت وسائل الإعلام الغربية تواصل الحديث عن تقارير تقول إنها موثقة لعمليات انتهاكات واسعة تنسبها غالباً لمصادر مجهلة تقول إنها تخشى على حياتها، دون أن تقدم دليلاً على صحة هذه التقارير في زمن يمكن تسجيل أي انتهاكات فيه عبر الهاتف المحمول.
ولكن هذه التقارير تبدو مختلفة عما تقوله منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف"، إذ أبدى أحد مسؤوليها بأفغانستان تفاؤلاً حذراً إزاء العمل مع مسؤولي حركة "طالبان" بعد تعبيرهم عن الدعم لتعليم الفتيات.
يأتي ذلك بعدما عقدت "اليونيسف" التي لا تزال تقدم مساعدات في معظم أنحاء أفغانستان، اجتماعات مبدئية مع ممثلي طالبان الجدد في المدن الخاضعة لسيطرة الحركة مثل قندهار وهرات وجلال آباد.
وقال مصطفى بن مسعود مدير العمليات الميدانية بـ"اليونيسف" في إفادة أمام الأمم المتحدة: "نجري مناقشات، ونحن متفائلون إلى حد ما استناداً إلى تلك المناقشات"، مضيفاً أن 11 مكتباً من 13 مكتباً ميدانياً تواصل عملها في الوقت الراهن.
ومضى قائلاً: "لا نواجه أي مشكلة مع طالبان في تلك المكاتب الميدانية".
وأشارت "اليونيسف" إلى أن بعض مثلي "طالبان" المحليين ينتظرون إرشادات من قادتهم فيما يتعلق بتعليم الفتيات، بينما قال آخرون إنهم يريدون أن تظل أبواب المدارس مفتوحة.
جزء من رسم الصورة غير الواقعية، هو أن الإعلام الأمريكي يفترض أن ما يريده المواطن الأفغاني، مشابه لما يريده المواطن الأمريكي، وتباكت وسائل إعلام أمريكية، عن احتمال وقف دروس الموسيقى في المدارس في بلد يعيش على شفا مجاعة، وفي حين أن دولاً إسلامية أكثر تقدماً من أفغانستان، يرفض أولياء الأمور دروس الموسيقى لأنها قد تؤثر على تحصيل الطلاب في المواد الأخرى.
والقلق من احتمال فرض طالبان شروطاً على ملابس النساء مبرر تماماً، ولكنه يجب أن يوضع في سياق أن أفغانستان مجتمع محافظ يرتدي جزءاً كبيراً من نسائه ملابس محتشمة، وبالتالي الفجوة بين ما قد تفعله طالبان التي تخفف تشددها في هذا المجال وما يقبله المجتمع ليست كبيرة، كما تظن المرأة الأمريكية التي تتعاطف مع النساء الأفغان.
جزء من مسؤولية الإعلام الغربي عما يحدث في أفغانستان، إضافة إلى شيطنته طالبان، محاولته تقديم حكومة كابول باعتبارهم الرجال الأخيار، لمجرد أنهم حلفاء لأمريكا، متجاهلين مقدار الفساد والمحسوبية بها، والأهم أنها حكومة قامت على تحالف إثني للأقليات بقيادة الطاجيك اعتبره البشتون الذين يمثلون أغلب سكان البلاد، تهميشاً.
ويظهر ذلك واضحاً في تقديم أحمد شاه مسعود، كبطل قومي رغم أنه زعيم حرب طاجيكي لعب دوراً أسياسياً في إشعال الحرب الأهلية الأفغانية في التسعينيات عندما أخل باتفاق بين المجاهدين بعدم الانفراد بدخول كابول خلال عملية انهيار النظام الشيوعي، وهو الأمر الذي استفز البشتون الحكام التقليديين للبلاد، وخاصة زعيم الحرب البشتوني قلب الدين حكمتيار، الذي كان يعد أكبر زعامات المجاهدين في ذلك الوقت، وأدت هذه الحرب الأهلية إلى ظهور طالبان كرد فعل من طلاب العلم على الفوضى والعنف التي شهدتها البلاد.
منتقدو الانسحاب الأمريكي لم يقدموا أي بديل
يقول بول بيلار بمقاله في موقع Responsible Statecraft "يشعر الكل تقريباً بالاستياء من الطبيعة الفوضوية للناتج النهائي في أفغانستان. لكن لم يُقدِّم أيٌّ ممَّن يعربون عن هذا الاستياء سيناريو بديلاً مناسباً للطريقة التي كان يمكن أن ينتهي بها التدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان بصورة أكثر إرضاءً وتنظيماً بكثير.
بطبيعة الحال، حين ننظر إلى ما جرى بعد انتهائه نجد العديد من التفاصيل الإجرائية حول الانسحاب والتي كان بالإمكان التعامل معها بشكل مختلف، والمسؤولون في إدارة بايدن بلا شك يتمنون لو أنَّهم فعلوا ذلك. لكنَّ التفاصيل التي ننظر إليها بعد انتهاء الأمر لا تُعبِّر عن الأوضاع الأساسية الكامنة وراء ما حدث في أفغانستان.
فتُظهِر السرعة التي انهارت بها الحكومة الأفغانية وقواتها الأمنية هشاشة ما كان الجيش الأمريكي يُدعِّمه. وتُناقِض حقيقة أنَّ الوجود الأمريكي في أفغانستان ودعم حكومة كابول استمر طوال 20 عاماً أي تأكيد بأنَّ المزيد من الوقت أو المزيد من الصبر كان من الممكن أن يؤدي إلى شيء مختلف بدرجة ملحوظة.
إخراج الأفغان المتعاونين مع أمريكا كان سيعجل بالانهيار
لم يكن من سبيل لإخراج المزيد من المواطنين الأفغان الذين عملوا مع الأمريكيين، والذين أصبح مصيرهم الحالي موضع تعاطف وقلق كبيرين، دون التعجيل بعملية الانهيار، حسب المسؤول الاستخباراتي السابق.
إذ يقول: "كما أشار الرئيس بايدن في خطابه حول أفغانستان في منتصف أغسطس/آب الماضي، طلبت الحكومة الأفغانية نفسها من الولايات المتحدة ألا تُنظِّم أي عملية هجرة جماعية كهذه تحديداً بسبب الخوف من أنَّها ستثير أزمة ثقة وتُعجِّل بالانهيار".
تعود الخيارات السياسية بنا إلى الانسحاب القبيح الذي جرى في عام 2021، أو إبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان– وإطالة أمد الحرب هناك- إلى أجل غير مسمى (أو إلى سنة مستقبلية أخرى سيظل يؤدي إلى انسحاب قبيح وانهيار في وقت متأخر قليلاًً).
يولع المنتقدون بالإشارة إلى أنَّه كان هناك طريق وسط بين الأحداث الفعلية لعام 2021 وشن حرب أبدية، لكنَّهم لا يطرحون مثل هذا الطريق الوسط، أو لا يُقدِّمون أي تصور على الإطلاق.
يقول بول بيلار: "من السهل التحسر، دون تقديم بديل موثوق، على الحالة المؤسفة للأوضاع وانتقاد مَن هم في السلطة حين تحدث مثل هذه الأوضاع. وعلى الإعلام أن يقوم بعمل أفضل في فضح أوجه القصور في مصداقية منتقدي الانسحاب أو كيفية إنجازه".
أحد الأمثلة على ذلك هو الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي قام مستشاره للسياسات والمناهض للهجرة ستيفن ميلر، في الواقع بكل ما بوسعه لإبطاء إجراءات تأشيرات الهجرة الخاصة للأفغان الذين عملوا مع الولايات المتحدة. ونفس الميل السياسي لمعاداة الأجانب لا يزال حاضراً لدى بعض الأعضاء البارزين بحزب ترامب الذين يقاومون إعادة توطين أولئك الأفغان في الولايات المتحدة.
السؤال الغبي: هل هو فشل استخباراتي أم سياسي؟
بعد أي حدث بارز غير مرغوب بالخارج (أو يشمل أجانب) يعتبره الجمهور أو الإعلام الأمريكي صادماً أو مفاجئاً، يُطرَح تساؤل اتهامي مألوف: هل كان هذا فشلاً استخباراتياً أم فشلاً في السياسة؟ أحد الافتراضات الكامنة في هذا السؤال هو أنَّ أي شيء يفاجئ الجمهور والإعلام لا بد أنَّه كان مفاجئاً بنفس القدر للمُكلَّفين بمتابعة الوضع محل التساؤل داخل الحكومة. وأحد الافتراضات الأخرى هو أنَّ وكالات الاستخبارات ينبغي أن تتنبّأ بالأحداث المستقبلية بدقة وبالتفصيل. وإذا فعلوا ذلك، وأبلغوا صانعي السياسات بنبوءاتهم، يُفتَرَض إذاً وجود فشل في السياسة. وإذا لم يفعلوا، يُنظَر إلى الأمر باعتباره فشلاً استخباراتياً.
في الواقع، تنبع الكثير من الأحداث الخارجية القادرة على التسبب بمفاجأة للجمهور من تفاعل معقد على نحوٍ مبهم بين التخوفات والغضب والمشاعر الأخرى لكثير من الناس المختلفين، ويكون هذا التفاعل مغلفاً بمصفوفة مماثلة معقدة من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. تشمل هذه الأحداث الانتفاضات الشعبية والاضطرابات السياسية الثورية فضلاً عن بعض الانهيارات الأمنية والعسكرية. ومثل هذه الأحداث تتجاوز قدرة حتى أكثر وكالات الاستخبارات مهارة على التنبؤ بأي شيء قريب من الدقة.
يجب توقع الفهم العميق للأوضاع والمظالم الكامنة، وللسيناريوهات المحتملة بل المرجحة، لكن ليس القدرة على إطلاق نبوءات بشأن التوقيت الذي سيحدث فيه سيناريو معين أو ماذا سيكون الحدث المحفز بالضبط الذي سيُعجِّل بالتغيير النبوئي.
يندرج الانهيار في أفغانستان بدرجة كبيرة في هذه الفئة من الأحداث الخارجية القادرة على التسبب بصدمة ومفاجأة عامة، لكن تتجاوز القدرة على التنبؤ. ولا توجد مؤشرات على أنَّ وكالات الاستخبارات الأمريكية أو صانعي السياسة في إدارة بايدن كانوا يفتقرون إلى فهم هشاشة ما يتعاملون معه. لكنَّ التنبؤ بتوقيت وسرعة الانهيار، التي كانت نتيجة تخوفات ومشاعر أخرى لآلاف الأفغان، مسألة مختلفة. فإذا كانت طالبان نفسها متفاجئة بوضوح من سرعة اكتساحها المُظفَّر وصولاً إلى السلطة، لا تتوقعوا أن تجدوا دقة تنبئية أكبر في تحليلات الاستخبارات الأمريكية أو أوراق السياسات المتعلقة بما قد تفعله طالبان.
مع ذلك، يستمر هذا التوقع الذي لا أساس له بوجود دقة، وكثيراً ما يتعزز من جرَّاء التلاوم الرامي لتحقيق المصلحة الشخصية. فعلى سبيل المثال، أقرَّ مسؤولان سابقان بإدارة ترامب للصحفيين بأنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) حذَّرت من الوضع الهش للحكومة وقوات الأمن الأفغانية، لكنَّهما حاولا جاهدين الإشارة إلى أنَّ الوكالة "عارضت تقديم إطار زمني محدد" للانهيار.
الإعلام ركز على الإثارة وهو مسؤول بشكل كبير عن الهزيمة
من المُسلَّم به أنَّه كانت هناك مسائل فورية ذات أهمية حقيقية ينبغي معالجتها في الأسابيع القليلة الماضية، يشمل معظمها وضعية المواطنين الأفغان الذين عملوا مع الولايات المتحدة إلى جانب الوضع الأمني الإشكالي حول مطار كابول خلال عمليات الإجلاء. لكن معظم ما كان يُنشَر عن أفغانستان في الصحف وعبر موجات الأثير خلال الأسابيع القليلة الماضية كان عبارة عن إثارة محضة. كان من نوعية الأمور التي تجذب الأنظار إلى الشاشات، وتُحفِّز النقر لفتح المواقع، وتبيع الصحف.
وأدَّت هذه العملية إلى صور ستأخذ مكانها في الثقافة الأمريكية إلى جانب صور أخرى بالغة السوء من الحروب الأمريكية السابقة. وليس من قبيل المبالغة القول إنَّ "الهزيمة" أو "الإخفاق التام" في أفغانستان كان في جزء كبير منه صنيعة وسائل الإعلام.
يؤدي هذا التوجيه الخاطئ للانتباه إلى إغفال أنَّ المشكلة الرئيسية ليست ما جرى خلال الأسبوعين الأخيرين من الحرب الأمريكية، بل ما جرى خلال السنوات العشرين الماضية، بكل ما يصاحب ذلك من تكاليف وعبث. ويشتت الانتباه أيضاً عن الاهتمام المطلوب توجيهه للسياسة المتبعة إزاء أفغانستان في الأشهر والسنوات المقبلة.