منذ إعلان السلطة الفلسطينية، الأسبوع الماضي، موافقة إسرائيل على منح خمسة آلاف قرار "لم الشمل" العائلي، ازدحمت أقدام فاقدي الهوية، أمام مكاتب هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية، وهي جهة التواصل الرسمية مع إسرائيل، لإتمام المعاملات المطلوبة.
ويعيش بعض "فاقدي قرار لم الشمل"، منذ عقود، دون وثيقة تثبت شخصياتهم، ما حوّل حياتهم لما يشبه السجن، ويجعلهم في دائرة الملاحقة الإسرائيلية، وقد يتم ترحيلهم من الضفة الغربية في حال تم اعتقالهم؛ فضلاً عن عدم قدرتهم على السفر، حتى للعلاج، وتعطل كثير من مناحي حياتهم ومعاملاتهم.
ما هي مشكلة "لم الشمل" في الأراضي الفلسطينية؟
يؤرق ملف "لم الشمل" آلاف الأسر الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث ترفض إسرائيل الاعتراف بقانونية وجودهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتبرز مشكلة هذه الفئة بشكل أكبر، لدى العائلات التي دخل بعض أفرادها بتصاريح مؤقتة أو "سياحية"، والفلسطينيين الذين تزوّجوا من جنسيات أخرى مثل الأردنية أو المصرية، دون أن يحصلوا على قرار "لم الشمل". وتعتبر إسرائيل هؤلاء "مقيمين غير شرعيين"، وفي حال اضطر بعضهم للسفر، فإنه لا يستطيع العودة للعيش مع أسرته.
ولا تتوفر معطيات حديثة حول عدد طالبي "لمّ الشمل"؛ ففي حين تقدرهم هيئة الشؤون المدنية بـ "الآلاف"، تقدرهم حملة "لمّ الشمل حقي" على صفحتها بفيسبوك بنحو 22 ألفاً.
ويتشعب ملف "لمّ الشمل" ليشمل أيضاً العائلات التي تقيم داخل أراضي السلطة الفلسطينية، لكن قد يختلف مكان سكن بعض أفرادها بين الضفة والقدس وقطاع غزة؛ حيث تتعمد إسرائيل الفصل بين تلك المناطق، وتمنع تواصل الفلسطينيين بينها، إلا وفق تصاريح خاصة. كما يشمل الملف أولئك الذين تزوجوا من فلسطينيي 48 والقدس، وبالعكس.
لكن التفاهمات المعلن عنها مؤخراً، تشمل فقط وكمرحلة أولى "تسوية أوضاع المواطنين الذين دخلوا لأرض الوطن بموجب تصريح زيارة أو تأشيرة فيزا وذلك لحصولهم على المواطنة وجواز السفر الفلسطيني"، وفق بيان لهيئة الشؤون المدنية.
كما تشمل "حملة الهوية الفلسطينية لكنهم يقيمون في المحافظات الشمالية (الضفة) وعنوانهم في الهوية، قطاع غزة" وهؤلاء سيشار إلى تعديل مكان سكنهم.
وخلال الشهور الأخيرة تحرك عدد من ضحايا السياسات الإسرائيلية في حملة "لم الشمل حقي" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واستمروا في تنظيم وقفات في مدينة رام الله وفي قطاع غزة.
آلاف الفلسطينيين غرباء في وطنهم
فور الإعلان عن "التفاهمات" الفلسطينية-الإسرائيلية، بدأ توافد آلاف الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، إلى مكاتب هيئة الشؤون المدنية، طلباً للحصول على "لمّ شمل".
وفي مدينة غزة، تعيش عبير طعيمة (51 عاماً)، "فقدان الهوية" منذ أكثر من عقدين، ومع تحريك الملف تأمل أن تنتهي معاناتها وأسرتها.
وتقول طعيمة، متحدثة لوكالة الأناضول: "نحن فاقدو الهوية الفلسطينية، الغرباء في وطننا، نعاني منذ سنوات طويلة من عدم لم شملنا، وحُرمنا السفر، والمشاركة في مناسبات كثيرة سعيدة وحزينة، حتى التعليم في الخارج".
وتضيف: "جئت في عام 2000 لغزة من مصر، بتصريح زيارة، ومنذ ذلك الحين لم أستطع العودة لرؤية أهلي بمصر، ولم أستطع المشاركة في أي مناسبة".
اشتد ألم عبير طعيمة، وهي الأم لثلاث بنات، حين غادر زوجها غزة بجواز سفر لمرة واحدة، إلى مصر لغرض العلاج، لكنه توفي هناك. واشتد الوجع حين لم تستطع إحضار جثمان زوجها أو الذهاب إلى مصر لوداعه، ليس هذا فقط بل "توفي كثير من (أفراد) عائلتي وكانت هناك مناسبات، وعشت ظروفاً مؤلمة وقاسية، كي أتمكن من الوصول لهم، لكن لم يحالفني الحظ".
وتضيف: "اعتصمنا كثيراً، وقدمنا طلبات كثيرة للحكومة (الفلسطينية)، لأننا مواطنون بلا مواطنة في بلدنا، بدون أي اعتراف من أي أحد، وقمنا بعمل جواز مُصفّر، ولم يخدمنا في شيء، ولم نسافر". وتواصل عبير طعيمة بث شجونها: "نحن فلسطينيون، الكل يعترف بنا، إلا في وطننا لا أحد يعترف بنا".
وتشير إلى أنها واحدة من بين مئات توافدوا إلى هيئة الشؤون المدنية على أمل أن يكون الحل هذه المرة؛ لكنها تستدرك: "لن أصدق حتى أمسك بطاقتي بيدي".
وتقول طعيمة إن كثيرين من فئة فاقدي الهوية خسروا مستقبلهم، وتعطلت مصالحهم في الخارج. وهنا تشير إلى معاناة مستفحلة أخرى، وهي رفض بعض البنوك الفلسطينية التعامل معهم.
حرمان من السفر والعلاج
بدوره، يوضح أسامة الغول (60 عاماً)، من قطاع غزة، بينما ينتظر دوره لإتمام معاملة حصوله على هويته الفلسطينية، أنه لا يحمل سوى بطاقة تعريف، لا ينتفع منها سوى في معاملات محلية، ولديه طفل معاق لا يقدر على السفر من غزة لعلاجه.
ويقول الغول بنبرة غضب: "ليس بمقدوري السفر، زيارة الأرحام، العلاج، العمل؛ كل الحقوق التي كفلتها الأعراف السماوية والقوانين، لم تستطع أن تعطينا بطاقة هوية تثبت أنني فلسطيني، أستطيع الحصول على جواز سفر، والتنقل بحرية، دون قيد وشرط".
وفي الضفة الغربية، تتكرر أوجه المعاناة، لكن وجود الاحتلال حوّل فاقدي الهوية إلى سجناء في بيوتهم وفي أحسن الأحوال مدنهم، إذ يتربص الترحيل بكل من يوقفه الجيش ولا يملك هوية.
وأمام مقر هيئة الشؤون المدنية في مدينة رام الله (وسط)، يحتشد دوماً مئات الفلسطينيين لتقديم الوثائق المطلوب لإتمام معاملات لم شملهم.
"سناء محمد" من بين طالبي لم الشمل، وهي متزوجة في الضفة الغربية، بينما تعيش عائلتها في الأردن ولم تلتق بها منذ 24 عاماً. وإذا غادرت سناء الضفة الغربية، فلن يسمح لها بالعودة: "السبب بسيط لا أملك هوية، والسفر يعني عدم العودة للضفة الغربية حيث بيتي وزوجي وأولادي" تقول سناء لمراسل الأناضول.
وتضيف: "عانيت كثيراً، بكيت، حُرمت من أن ألقي نظرة الوداع على والدي، ومعانقة إخواني.. أنتظر لحظة الحصول على الهوية بفارغ الصبر". بدورها، تقول نعمة قاسم (53 عاماً) إن عائلتها تعاني منذ 13 عاماً من التشتت بين المملكة الأردنية والضفة الغربية.
وتضيف: "تزوّجت ابنتي بقريبها الساكن في الأردن، ومنذ ذلك الحين نسعى لحصوله على هوية فلسطينية دون جدوى.. تشتت عائلتي ابنتي، لا تستطيع الاستقرار في الأردن وفي الضفة، تتنقل بشكل دائم بين الجانبين". وتقول: "هذا حق كفله القانون الدولي تحرمنا إياه إسرائيل".
أزمة لمّ الشمل.. للمعاناة وجوه كثيرة
وجه آخر للمعاناة يحكيها الفلسطيني ناصر مصطيف، من رام الله، فقد خسر عمله في الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمس سنوات، جراء عدم قدرته على السفر بعد أن وصل الضفة الغربية.
يقول مصطيف للأناضول: "بالرغم أنني أملك الجنسية الأمريكية رفضت السلطات الإسرائيلية تجديد إقامتي، وهذا يعني- إن سافرت- عدم القدرة على العودة للضفة الغربية".
وتابع: "أعيش في سجن هنا، أخشى في كل يوم من الترحيل، في الوقت ذاته أنا بحاجة للسفر وأن يُسمح لي بالعودة مرات أخرى، هذه بلدي وهنا تعيش عائلتي، وهناك (الولايات المتحدة) لي أعمال متعثرة اليوم".
ولا تملك السلطة الفلسطينية في الضفة، ولا حركة "حماس" في قطاع غزة، سلطة إجراء أي تغيير على السجل السكاني للفلسطينيين، سوى تسجيل المواليد والوفيات واستبدال بطاقات الهوية الشخصية.
وتشترط إسرائيل للاعتراف بقانونية تواجد الفلسطينيين، في الضفة وغزة، بأن يكونوا قد تواجدوا في المنطقتين إبان احتلالها لهما في يونيو/حزيران 1967.
وعقب تأسيس السلطة الفلسطينية (الحكم الذاتي) عام 1994، وافقت إسرائيل على "لمّ شمل" آلاف العائلات الفلسطينية. لكنّها عادت وأوقفت منح قرارات "لم الشمل"، منذ عام 2009، عقب تولي بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود، مقاليد الحكم.