تغادر الولايات المتحدة أفغانستان، لكن من غير المُرجَّح أن تغادر الشرق الأوسط وتظلُّ خارجه. فخلال العقد الماضي، حاول ثلاثة رؤساء تقليص الوجود الأمريكي في المنطقة. ولأجيالٍ، كان الشرق الأوسط "مستنقعاً استراتيجياً". لكن يبدو أن الولايات المتحدة عالقةً هناك، لأن مصالحها تتعرَّض لتحدياتٍ من ثلاث أزماتٍ دائمة، كما تقول وكالة Bloomberg الأمريكية.
النفط والموقع الاستراتيجي والإرهاب
تقول بلومبيرغ إن المصالح الأمريكية الجوهرية في الشرق الأوسط واضحة ومباشرة. لا يزال نفط الخليج يعمل على تليين الاقتصاد العالمي، حتى لو لم تعد الولايات المتحدة نفسها تستورد الكثير منه.
تقع المنطقة على مفترق ثلاث قارات، مِمَّا يمنح واشنطن حافزاً إضافياً لحمايتها من القوى المعادية. تسعى الولايات المتحدة أيضاً إلى منع الشرق الأوسط من أن يصبح مصدراً للتهديدات، سواء كانت من جانب دولٍ "مارقة" مُسلَّحة نووياً أو "إرهاباً". وعلى مدار السنوات الأربعين الماضية، تعرَّضَت هذه المصالح للخطر بسبب ثلاثة اتجاهاتٍ مترابطة.
الأول: هو غياب أيِّ توازنٍ للقوى يمكن الحفاظ عليه دون تدخُّل الولايات المتحدة
كان انسحاب بريطانيا من "شرق السويس" في أواخر الستينيات يعني خسارةً لقوةٍ صديقة تراقب المنطقة. ثم حوَّلَت الثورة الإيرانية 1979 أقوى دولة في الخليج إلى مصدرٍ رئيسي لزعزعة الاستقرار. تذبذبت التحالفات منذ ذلك الحين، فقد كان العراق، على سبيل المثال، حليفاً ضمنياً للولايات المتحدة، ثم عدواً أساسياً لها، ومؤخَّراً صار يمثِّل دولةً صديقة، وإن كانت هشَّة. لكن الاضطرابات السياسية كانت هي القاعدة.
الثاني: هو صعود الحركات السياسية الإسلامية، وكثيرٌ منها معادٍ لواشنطن
بدأ هذا بعد حرب الأيام الستة في عام 1967، حين هزمت إسرائيل أنظمةً عربية علمانية. وقعت بعد ذلك أحداثٌ حاسمة في عام 1979. حلَّت الثورة الإيرانية محلَّ الملكية الموالية للغرب، وأنشأت نظاماً ثيوقراطياً معادياً للولايات المتحدة أدَّى إلى تحفيز التطرُّف في جميع أنحاء المنطقة. وأثار الغزو السوفييتي لأفغانستان ردَّ فعلٍ إسلامي غاضب، وهو الذي دعمته الولايات المتحدة خلال الثمانينيات قبل أن يصبح لاحقاً أحد أهدافها. جاء الإسلام السياسي بأشكالٍ عديدة، لكنه غالباً ما دعم الأنظمة والحركات التي تتحدَّى الولايات المتحدة- وفي بعض الأحيان بعنف.
الثالث: ألا وهو صعود "الإرهاب" كأداةٍ للحرب غير المتكافئة
بعد الثورة الإيرانية، استخدم النظام الإرهاب بقوةٍ لإظهار القوة ومهاجمة أعداءٍ أقوى. وهناك عددٌ من الجماعات المتطرِّفة تحذو حذو هذه الممارسة. كانت الولايات المتحدة من بين أهدافهم، ويرجع ذلك جزئياً إلى الوجود العسكري الذي أنشأته لحماية تدفُّق النفط والدفاع عن مصالحها الإقليمية الأخرى.
واجهت الولايات المتحدة إذاً مجموعةً متشابكةً من التهديدات على مدار الأربعين عاماً الماضية، ولم تنجح أيُّ من الاستراتيجيات العديدة التي جرَّبَتها بما يكفي للسماح لها بفكِّ الارتباط بأمان.
حلفاء واشنطن بالشرق الأوسط يشعرون بالقلق بشأن موثوقية راعيهم الأمريكي
في الثمانينيات، دعمت واشنطن العراق في ظلِّ حكم صدَّام حسين، كحصنٍ ضد إيران، وقد أصبح صدَّام لاحقاً تهديداً أكبر لأمن المنطقة. وبعد 11 سبتمبر/أيلول، غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، في المقابل، أدَّى ذلك، ولا سيما غزو العراق، إلى زعزعة المنطقة وظهور العديد من الحركات المتطرفة.
ثم سعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى تخفيف الأعباء الأمريكية بالانسحاب من العراق، وعقد اتفاق نووي مع إيران. لكن ذلك أثار مخاوف بين الدول السنيَّة الخليجية من أن إيران تتجه نحو الهيمنة الإقليمية، مِمَّا دفع المملكة السعودية إلى شنِّ حربٍ دموية ضد حلفاء إيران الحوثيين في اليمن، وتسهيل صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
واليوم، ينسحب الرئيس جو بايدن من أفغانستان على أساس حساباتٍ معقولة كما تقول بلومبيرغ. تواجه الولايات المتحدة تحدياتٍ أكبر في أماكن أخرى، وقد أدَّى تدخُّلها العسكري في أفغانستان إلى نتائج مخيِّبة للآمال. لكن الخروج لن يخفِّف من منابع عدم الاستقرار في المنطقة الأكبر، بل ربما يفاقم منها.
ومن المُحتَمَل أن يتزايد التهديد من الجماعات المتطرفة، حيث تتضاءل قدرة الولايات المتحدة على "مراقبة وقمع" هذا الخطر. لا يبدو أن ميزان القوى الإقليمي مستقر بشكلٍ خاص، حيث تستمر إيران في نشر نفوذها وتوسيعه نحو القدرات النووية. والآن، بعد سقوط كابول، بالتأكيد يشعر حلفاء الولايات المتحدة الإقليميون بالقلق بشأن موثوقية راعيهم. كلُّ هذا يعني أن السنوات القليلة المقبلة لن تجلب أيَّ تخفيفٍ للأزمات التي تتطلَّب اهتمام هذه القوة العظمى.
وتختم بلومبيرغ بالقول إن جذور البؤس الأمريكي في الشرق الأوسط أن المصالح الأمريكية هناك حقيقية، وأن التهديدات التي تواجهها أثبتت أنها مستعصيةٌ على الحل. والمفارقة في سياسة بايدن أنها قد تزيد من حِدَّة تلك المعضلة.