رغم أن انسحاب أمريكا من أفغانستان كان مخططاً ومعلناً منذ فترة، فإن سيطرة طالبان وانهيار الحكومة الأفغانية وفوضى عمليات الإجلاء قد تشجع الصين على أن تسرع من غزو تايوان، بحسب كثير من المراقبين.
فقد أثارت الأحداث المتسارعة في أفغانستان، عقب انسحاب القوات الأمريكية، مخاوف جدية في عواصم شرق آسيا الحليفة لواشنطن، ورسمت مشاهد الأفغان، الذين يحاولون الحصول على مكانٍ في طائرةٍ عسكرية أمريكية تغادر كابول، صورةً عميقة لا تُمحَى عن تراجع القيادة الأمريكية عن حماية حلفائها، حسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
والآن، تراقب الدول الآسيوية الموقف بغرض الوقوف على ما إذا كان الانسحاب من أفغانستان سيؤثِّر على نهج الرئيس الأمريكي جو بايدن بمنطقة المحيطين الهادي والهندي. وتخشى الحكومات في المنطقة، وبصفة خاصة اليابان وتايوان، أن تستغل الصين ما حدث في أفغانستان وتسرع من خططها لضم تايوان، ولو بالقوة العسكرية، وهو الأمر الذي كرره الرئيس الصيني شي جين بينغ مراراً.
التشكيك في مصداقية واشنطن تجاه حلفائها
وتناول موقع Responsible Statecraft الأمريكي مدى تأثير الانسحاب من أفغانستان على الموقف الإقليمي في آسيا بشكل عام، وسياسة الصين تجاه تايوان بشكل خاص، في تقرير أعده إيثان بول، الباحث المساعد والصحفي بمعهد كوينسي الأمريكي.
وكان جورج ستيفانوبولوس، المذيع بشبكة ABC الأمريكية، قد وجه سؤالاً مباشراً، الأربعاء 18 أغسطس/آب، للرئيس بايدن حول ما إن كان انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان يقود إلى التشكيك في مصداقية التزام أمريكا بحلفائها وشركائها، لاسيما تايوان.
ورد بايدن على السؤال بسؤال، إذ قال "مَن قد يقول ذلك؟"، لكن الحقيقة هي أن الكثير من حلفاء واشنطن يرددون نفس التساؤل، أو بمعنى أدق التشكيك في مدى مصداقية الولايات المتحدة، قبل خصومها حتى، وبخاصة بكين وموسكو.
وكان ستيوارت لاو، مراسل شؤون الصين لدى مجلة Politico Europe الأمريكية، من أوائل من دعوا أتباعه لـ"تخيُّل بكين وهي تتابع (الالتزام) العسكري الأمريكي في أفغانستان أثناء تفكيرها في خطوتها التالية بشأن تايوان".
وشعر جيم سكويتو، من شبكة CNN الأمريكية، أيضاً بالقلق من أنَّ "شعب تايوان يتعين عليه مشاهدة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بقلق". وحلَّت تايوان أولاً في قائمة الكاتب بصحيفة The New York Times الأمريكية لحلفاء الولايات المتحدة الذين "سيستخلصون الدرس بأنَّهم وحيدون في مواجهة أعدائهم".
وكان دونالد ترامب الابن، نجل الرئيس السابق دونالد ترامب، أقل تحفظاً، إذ كتب على تويتر: "أيَّاً ما كان الجدول الزمني للصين قبل أن تحاول الاستيلاء على تايوان، نعلم جميعاً أنَّ لعابها يسيل الآن وهي تعلم أنَّه لن تكون هناك إدارة أضعف من هذه في السلطة".
كيف ترى إدارة بايدن الصراع مع الصين؟
إنَّ هذا الميل المتسرِّع لتهديد وخداع 24 مليون شخص في تايوان من أجل تبرير استمرار حرب أفغانستان الدائرة منذ عقود ولا يمكن الانتصار فيها أمر مقلق، لكنَّه ليس مفاجئاً جداً.
صاغ بايدن، في مقابلة ستيفانوبولوس، ضمناً الانسحاب باعتباره خطوة استراتيجية في منافسة القوى العظمى، قائلاً: "أتعلم مَن أكثر المُحبَطين من خروجنا؟ روسيا والصين". وحين أعلن عن خطته للانسحاب في أبريل/نيسان الماضي، كان أحد المبررات الرئيسية هو تحويل الطاقة والموارد نحو "التحديات الماثلة أمامنا"، وأولاً وقبل كل شيء "المنافسة الشديدة التي نواجهها من الصين التي تزداد حزماً".
لكن ليس الصحفيون والمتحزِّبون وحدهم من أثاروا مسألة المصداقية. إذ نشرت صحيفة The Global Times، وهي صحيفة صينية غير رسمية، مقالاً افتتاحياً يسخر من تايوان، وأعرب عن شماتة في أنَّ "دفاعها سينهار في غضون ساعات، ولن يأتي الجيش الأمريكي للمساعدة" في حال نشوب حرب.
أثار هذا غضب السيناتور الأمريكية عن ولاية تينيسي، مارشا بلاكبيرن، التي صرَّحت بأنَّ "بايدن كشف مدى ضعفه، والحزب الشيوعي الصيني يستغل ذلك". وفي مقابلة مع مقدم البرامج شون هانيتي في قناة فوكس، روى الرئيس السابق دونالد ترامب قوله للرئيس الصيني، شي جين بينغ، "لا تفعل أي شيء له علاقة بتايوان. أعلم أنَّك تريد ذلك، لكن لا تفعل". لكنَّه الآن قلق من أنَّ "أموراً سيئة ستحدث بخصوص تايوان، لأنَّهم لا يحترمون قيادتنا ولم يعودوا يحترمون بلدنا".
لكن تشين دينغ دين الأستاذ بجامعة جنان في مدينة غوانزو الصينية أشار إلى أنَّ "معظم الخبراء الصينيين متفقون" على أنَّ "التداعيات المتعلقة بتايوان حقيقية". وسواء كانت حقيقية فعلاً أم لا، شعرت واشنطن وتايبيه بأنَّهما مضطرتان للرد.
تايوان قلقة من رد فعل الصين
وعند سؤاله عن المسألة في مؤتمر صحفي الثلاثاء الماضي، 17 أغسطس/آب، ردَّ مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بالقول إنَّ "التزاماتنا تجاه حلفائنا وشركائنا مقدسة، ولطالما كانت كذلك. نؤمن بأنَّ التزامنا تجاه تايوان وإسرائيل يظل قوياً مثلما كان في أي وقتٍ مضى".
وأعربت وزارة الخارجية التايوانية عن "امتنانها" لتأكيد سوليفان، الذي قالت إنَّه تأكيد "للدعم القوي الذي أظهره بايدن للبلاد منذ توليه المنصب". وتناولت الرئيسة التايوانية تساي إنغ ون المسألة علانيةً أيضاً، ولو بصورة غير مباشرة.
ومن جانبه، أعاد بايدن التأكيد على دعمه لتايوان في مقابلة الأربعاء، وذكرها في نفس السياق مع باقي الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة: "إذا ما غزا أي أحد حلفاءنا في الناتو أو قام بتحرك ضدهم فسنرد. والأمر نفسه ينطبق على اليابان، وينطبق على كوريا الجنوبية، وينطبق على تايوان".
كاد ذلك يتناقض مع سياسة "الغموض الاستراتيجي" الأمريكية طويلة الأمد في نظر بعض المحللين، لكنَّ مسؤولاً لم تحدد هويته أوضح بعد فترة قصيرة أنَّ "السياسة الخاصة بتايوان لم تتغير".
وكان بيان صادر عن البيت الأبيض بعد قمة جمعت بايدن ورئيس وزراء اليابان، في مايو/أيار الماضي، قد تضمَّن عبارة لافتة: "أعلنت الولايات المتحدة دعمها الثابت للدفاع الياباني بموجب المعاهدة الأمريكية اليابانية للتعاون والأمن المُتبادَل، باستخدام مجموعة كاملة من قدراتها، بما في ذلك القدرة النووية".
لكنَّ المؤكد هو أن إدارة بايدن من المرجح جداً أن تكون واعية لحقيقة أنَّ الانسحاب قد غيَّر لوح الشطرنج نفسه، على الأقل بصفة مؤقتة، بسبب التصورات الجديدة أو المُتعزِّزة بشأن عجز أمريكا واضمحلالها.
الصين تتحين الفرصة
أصدر راش دوشي، أحد مديري شؤون الصين بمجلس الأمن القومي الأمريكي، مُؤلَّفاً في وقت سابق من هذا العام بعنوان "The Long Game: China's Grand Strategy to Displace American Order"، يجادل فيه بأنَّ بكين صاغت وضبطت سياستها الخارجية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي اعتماداً على تصوراتها بشأن قوة واشنطن ونفوذها.
وكتب دوشي أنَّ الأزمة المالية عام 2008 تمثل نقطة تحول بالغة الأهمية، وجاء التحول الأكثر قوة وطموحاً في عهد الرئيس الصيني شي جين بينغ مدفوعاً بـ"التصورات بتسارع التراجع الأمريكي عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وترامب، وجائحة فيروس كورونا عام 2020″. ويتلاءم التصور الرائج بأنَّ الانسحاب "فشل" ويمثل أزمة لبايدن مع هذه القائمة بصورة جيدة.
من المرجح أن يكون فريق بايدن حساساً جداً تجاه هذه الديناميات، وتفسير الانسحاب، وتصور بكين حياله، وكيفية الرد من خلال هذه المنظورات النفسية المختلفة. وإن كان الحال كذلك فإنَّ الفريق سيسعى لتبديد أي فكرة تشير إلى أنَّ واشنطن تتعثر وعاجزة، من أجل طمأنة تايوان والشركاء الآخرين، وفي الوقت نفسه التقليل من أي شعور بوجود فرصة أو مشاعر ثقة زائدة لدى بكين.
ومن المرجح أيضاً أن تبذل الإدارة كل ما بوسعها لضمان ألا يصبح الانسحاب مُحدِّداً لسياستها الخارجية، لاسيما مع بدء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في اكتساب زخم. وقد يتطلب ذلك التركيز أكثر على أفغانستان في قادم الأشهر لتحقيق استقرار الوضع.
لكنَّ مساعدين كباراً لبايدن "أكَّدوا مراراً" أنَّ الانسحاب جزء من "تحول استراتيجي أوسع بكثير وجرى التفكير فيه بعناية"، يتضمَّن "حدوث تحول في تركيزنا وتوزيع مواردنا من الشرق الأوسط الكبير إلى منطقة آسيا والمحيط الهادي". ويرى البعض أنَّ حلفاء الولايات المتحدة يرحبون بهذا ويتوقعون "توجه بايدن إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي" بعد الانسحاب.
أمضت الإدارة الأمريكية بالفعل أشهراً في تمهيد الأرضية لهذا تحديداً، فنظَّمت حملة شاملة متضافرة لزيادة الضغط على بكين من كل الزوايا تقريباً، في حين أعادت تجهيز مجالات القوة الوطنية المختلفة- من وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) مروراً بالقيادة الجنوبية للجيش الأمريكي وصولاً لسلاح الجو- من أجل التنافس في هذه اللعبة الكبرى.
وانطلاقاً من هذا الأساس، وهذه المجموعة من الأدوات، سيُعدِّل فريق بايدن سياسته تجاه الصين ويتوسع فيها ويؤكد عليها، ما يعني أنَّه بالإمكان توقُّع أن تصبح الأمور ساخنة جداً في العام المقبل. ربما تكون "الحرب العالمية على الإرهاب" قد انتهت تقريباً، والآن ستبدأ حقبة تنافس القوى العظمى جدياً.