كيف تحوَّلت بلجيكا من إحدى أفشل البلدان الأوروبية في مجال التطعيم إلى واحدة من أنجح دول العالم؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/18 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/18 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش
مواطنون بلجيكيون مصطفون أمام أحد مراكز التطعيم لكورونا/ رويترز

تعطي قصة بلجيكا مع التطعيم بلقاحات كورونا أملاً للدول المتعثرة في هذا الملف الحساس.

فلقد كانت بلجيكا بمثابة النموذج الأوروبي للفشل الحكومي في التعامل مع الجائحة، ولكنها فاجأت الجميع بأن تحولت إلى واحدة من أكثر الدول الأوروبية في تطعيم مواطنيها بل والأقرب عالمياً لتحقيق مناعة القطيع، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.

فما هي قصة بلجيكا مع التطعيم بلقاحات كورونا، وكيف تحوَّلت من إحدى أفشل البلدان الأوروبية في مجال التطعيم إلى واحدة من أنجح دول العالم في هذا المجال؟

قصة بلجيكا مع التطعيم بدأت بفشل ذريع

بحلول أواخر مارس/آذار عام 2021، كانت حملة تطعيمات الاتحاد الأوروبي قد دخلت شهرها الثالث بالفعل. لكنك لم تكن ستشعر بذلك عند دخول مركز التطعيم في بلدة ليير القريبة من العاصمة البلجيكية بروكسل. 

فبتعداد سكانها الذي لا يتجاوز الـ36 ألف نسمة، وكان يُفترض بالمركز أن يُقدم جرعات اللقاح لأكثر من ألفي شخص يومياً، لكنه كان هادئاً للغاية، وكانت أعداد الأطباء والممرضين والمتطوعين تفوق بكثير أعداد الأشخاص الذين حصلوا على موعد لتلقي التطعيم. 

بينما كانت الدول الأخرى تُسارع لتطعيم سكانها بالكامل، لكن بلجيكا كانت متأخرةً كثيراً. وكذلك كان حال غالبية دول الاتحاد الأوروبي، لكن بلجيكا ظلّت أبطأ من الجميع.

بداية إلكترونية متعثرة، ولكن أسترازينيكا أنقذها

وفي أبريل/نيسان، شهدت بلجيكا بدايةً فاشلةً أخرى؛ إذ كان هناك تطبيقٌ يُدعى QVAX، حيث يُمكن لأي شخصٍ يعيش في بلجيكا التسجيل عليه من أجل إدراج اسمه على قوائم انتظار التطعيم. ومتى تخلّف أي شخصٍ عن موعد تطعيمه المعتاد، فسوف يتم اختيار شخصٍ آخر من قائمة الانتظار. لكن مع محاولة عددٍ كبير من الناس التسجيل؛ كانت مجرد إضافة اسمك للقائمة تستغرق أكثر من 10 ساعات. ورأى العديد في الأمر مؤشراً آخر على فشل الحكومة من جديد.

ورغم استمرار الأنباء السيئة، بدأت الموازين تنقلب بالفعل وأصبحت قصة بلجيكا مع التطعيم بلقاحات كورونا مثالاً يحتذى، حسب المجلة الأمريكية.

فبينما أوقفت غالبية دول أوروبا تقديم جرعات أسترازينيكا في مارس/آذار، بناءً على التقارير الأولية حول أثرٍ جانبي نادر ومميت، لم تُغيّر بلجيكا موقفها؛ لدرجة أنّ أحد أشهر علماء الفيروسات في بلجيكا مارك فان رانست خرج على شبكة CNN للدفاع عن لقاح أسترازينيكا. 

وحين زاد توافر جرعات اللقاح في أبريل/نيسان، ومايو/أيار، بدأت بلجيكا تتسلّق المراتب الأولى في صفوف الدول الأوروبية ذات أعلى معدلات التطعيم. وبدأت تتفوّق على دولٍ مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا واحدةً تلو الأخرى، بعد أن كانت متخلفة عنها في البداية.

دولة يسيطر عليها الشلل الحكومي، والحل في تشكيل فريق خاص للمهمة

ولم تكن هذه العودة القوية مفاجأةً بالنسبة لرئيس الوزراء البلجيكي أليكساندر دي كرو، أو مستشاره العلمي سام بروسمانز؛ إذ قال رئيس الوزراء : "لقد أخذنا خطوةً للوراء من أجل التقدم خطوتين للأمام في وقتٍ لاحق".

فداخل بلدٍ لطالما هيمن فيه الشلل والتعقيد على نظام الحوكمة، كان يتعيّن على الحكومة أول الأمر تشكيل فريق عملٍ لتولّي مسؤولية حملة التطعيم؛ حيث استعان دي كرو بخبراء من القطاعين العام والخاص ومختلف مستويات الهيكل الفيدرالي البلجيكي؛ وذلك أملاً في أن تُؤدّي هذه الخبرات المتداخلة إلى تعظيم النجاحات مستقبلاً، حتى وإن بدا فريق العمل أول الأمر أشبه بمجرد مجلسٍ استشاريٍ آخر. وعُيِّن بيدرو فالكون على رأس فريق العمل، ليصير أول مفوّضٍ لفيروس كورونا في بلجيكا مع سلطات واسعة لاتخاذ القرارات.

أما الخطوة التالية فكانت تقع على عاتق فريق العمل المنوط به اتخاذ القرارات بشأن لوجستيات الحملة. وفي مراحل التخطيط الأولى، افترض فريق العمل تأسيس ما يتراوح بين 100 و300 مركز كبير للقاحات من أجل خدمة السكان الذين يصل تعدادهم إلى 11.5 مليون نسمة، وفقاً لبروسمانز. 

مراكز قليلة ولكن فعّالة

وكانت إقامة عددٍ أكبر من المراكز يعني توفير الجرعات لعددٍ أكبر من الناس، لكن تقليل مراكز التطعيم سيكون الخيار الأكثر كفاءة من ناحية توزيع الجرعات. وفي النهاية، اختارت الحكومة الكفاءة، وأقامت 150 مركزاً كبيراً فقط. ولهذا تكبّدت الحكومة أول الأمر خسارةً محدودة تجلّت في خلو بعض المراكز الكبرى من الناس في البداية.

وإلى جانب مراكز التطعيم التي توفر العديد من المزايا، تم اتخاذ قرارٍ آخر منذ البداية لوضع نظامٍ عادل لتوزيع اللقاحات حسب الأولوية. ولم يكن العمر هو العامل الوحيد المؤثر في أولوية التطعيم: حيث يُؤخذ بعين الاعتبار أيضاً الحالات الطبية التي تزيد احتمالات الوفاة أو نقل الشخص إلى المستشفى. واعتمد فريق العمل في تحديد تلك الأولويات على قاعدة بيانات تم إعدادها على يد الأطباء المحليين في كل حي. وربما زاد هذا القرار من الضغوط على كاهل الأطباء، لكنه سمح للسلطات البلجيكية بتكوين قائمةٍ عادلة حسب الأولوية.

علاوةً على قائمة QVAX الاحتياطية؛ إذ كانت الفكرة المبتكرة من تطوير شركة Seaters، وهي شركة ناشئة متخصصة في حجز التذاكر من بروكسل، لكن أعمالها كانت شبه متوقفة خلال الجائحة حتى عثروا على استخدامٍ جديد لمنصتهم: إعادة تخصيص أدوار التطعيم الشاغرة بسبب تخلّف المواطنين، بدلاً من إعادة بيع تذاكر المباريات، ومن هنا وُلِد تطبيق QVAX.

البلجيكيون لم يثقوا في حكومتهم

ولم يكن البلجيكيون معتادين على الابتكار من حكومتهم؛ لذا شعروا بالقلق من التطبيق أول الأمر، لكنهم سجّلوا على التطبيق في النهاية؛ لعلمهم أنّ عدم التسجيل سيعني انتظارهم على القوائم لشهور طويلة. 

وفي الأسابيع القليلة الأولى لم يجر التواصل سوى مع بضعة آلاف فقط للتطعيم؛ وذلك نظراً لقلة الجرعات الإضافية المتاحة. ولكن مع تسريع عمليات تسليم اللقاحات، بدأ العديد من الناس في الاستفادة من هذه المنظومة. وتلقى حتى الآن أكثر من 310 آلاف بلجيكي (أي نحو 3% من السكان) تطعيمهم بهذه الطريقة، بحسب ما صرّح به الرئيس التنفيذي لشركة Seaters جان سباستيان غوسوين. وربما لا يبدو الرقم كبيراً، لكن كل نسبةٍ مئوية صغيرة مهمةٌ في حملات التطعيم الكبرى.

وها هي تنافس الولايات المتحدة وقد تصبح أولى دول العالم تحقيقاً لمناعة القطيع

ومع تزايد عمليات تسليم الجرعات سرعةً وحجماً؛ وجدت بلجيكا نفسها تُسارع من أسفل قائمة أعلى معدلات التطعيم إلى قمتها. وبحلول الـ17 من يونيو/حزيران، تفوّقت بلجيكا على الولايات المتحدة. وبحلول الـ12 من أغسطس/آب، كان نحو 72% من سكان بلجيكا قد حصلوا على جرعة لقاح واحدة على الأقل، بينما حصل 62% على جرعتين كاملتين. وصار من الصعب تصديق أنّ هذا هو نفس البلد الذي كان قبل أشهرٍ قليلة أشبه برجل أوروبا المريض.

وربما تصير بلجيكا أول دولةٍ في العالم تُحقّق مناعة القطيع، التي يُعتقد أنّها تحدث عند تطعيم ما يتراوح بين 80% و90% من السكان. لكن تحقيق ذلك يتطلّب أكثر من مجرد الاعتماد على التفوّق التشغيلي، بل يتطلب كذلك شعباً راغباً في الحصول على التطعيم أيضاً.

قصة بلجيكا مع التطعيم بلقاحات كورونا
بلجيكا اقتربت من تحقيق مناعة القطيع/رويترز

ويعتقد دي كدرو، المبتهج بالنجاحات الأخيرة لبلاده، أنّ اجتياز عتبة الـ80% في معدلات التطعيم لن يُمثّل مشكلة: "لا أعتقد أنّ هذه العقبة سوف تُعرقلنا".

لكن تحقيق مناعة القطيع يتطلّب ما هو أكثر من القناعات الحكومية كذلك. حيث أثبت التردد بشأن اللقاحات أنّه أكبر عقبةٍ في طريق تحقيق مناعة القطيع حول العالم.

وفي النهاية، ربما لن يتوقف تحقيق النسب المئوية الأخيرة على الخطط الحكومية؛ حيث إنّ الفوز بمعركة مناعة القطيع سوف يتحقق من داخل المجتمعات المحلية وعلى الأرض؛ إذ يفخر البلجيكيون بروابطهم المحلية، ولهم تاريخٌ طويل من التنظيم المجتمعي. وما يزال العقد الاجتماعي للبلاد متماسكاً لدرجة أنّ كل فردٍ في المجتمع يجب أن يُساهم في نجاح المجتمع ككل. وربما واجه هذا التقليد تحديات صعبة خلال العقود الأخيرة، لكنه ما يزال قائماً.

المفارقة أنها فعلت ذلك دون منع تصدير اللقاحات التي تُصنع على أراضيها

وفي حال نجاح بلجيكا، رغم محنتها المأساوية والمُميتة خلال السنة الأولى من الجائحة، فسوف تكون النتيجة مرضيةً للمؤمنين بأهمية التضامن الدولي؛ لأن اللافت في قصة بلجيكا مع التطعيم بلقاحات كورونا أنها استمرت في إرسال جرعات اللقاح خارج البلاد طوال فترة الجائحة دون فرض أي قيود؛ حيث كانت لقاحات فايزر وأسترازينيكا تعتمد على المصانع البلجيكية لإنتاج جزءٍ كبير من إمداداتها العالمية. 

ففي أبريل/نيسان على سبيل المثال، كان مصنع فايزر في بلجيكا قد صدّر أكثر من 300 مليون جرعة لـ80 دولة بالفعل، مع تسليم مليوني جرعة فقط لبلجيكا نفسها. ولكن رغم معاناة البلاد مع نقص وتأخير اللقاحات، لم تفكر القيادة البلجيكية مطلقاً في إبطاء عمليات التصدير.

حيث قال دي كرو: "لم نستسلم للإغراءات. نحن من أهم الدول المنتجة للقاحات في العالم، ونفخر بذلك، بل وقد حاربنا في الواقع من أجل الحفاظ على استمرار تدفق اللقاحات".

وفي النهاية، نجد أنّ قصة بلجيكا مع التطعيم بلقاحات كورونا هي نجاح للشعب البلجيكي، وللحكومة الجديدة، وللمسؤولين عن حملة التطعيمات. كما تُوفّر وساماً على جبين كافة المنظمين، والمشرعين، والمتطوعين في المجتمعات المحلية ممن أثمرت جهودهم على الخطوط الأمامية وفي الظل.

لكن قصة بلجيكا مع التطعيم بلقاحات كورونا تُقدّم أيضاً درساً مشجعاً للدول والمجتمعات الأخرى التي ما تزال تُعاني مع إمدادات ولوجستيات اللقاح حول العالم. والدرس هو أن الأوان لم يفت على تحقيق عودةٍ قوية في المعركة ضد كوفيد-19.

تحميل المزيد