يتأرجح المشهد الليبي بين العملية السياسية التي وضعتها الأمم المتحدة متمثلة في الانتخابات، في 26 ديسمبر/كانون الأول 2021، وبين الصراع المستمر بين جنرال الحرب خليفة حفتر والقوى المختلفة في الغرب الليبي. ورغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان عقب حرب طرابلس عام 2020، فإنه لا تزال قوات مرتزقة فاغنر أو التشادية منتشرة في وسط وجنوب ليبيا، ولا تزال الخطابات التي يلقيها حفتر تُنذر بالحرب وتؤشر إليها.
وقبل حرب طرابلس كان المشهد العسكري هو الذي يحرك العملية السياسية، لكن وبعد هزيمة حفتر صارت السياسة هي المحرك للجهود العسكرية، وهذا كما سنرى قد يفسر الكثير من الأحداث التي شاهدناها في الأشهر السابقة، كخروج سيف الإسلام القذافي في حواره مع صحيفة نيويورك تايمز، أو كخطابات حفتر المتناقضة وتهديده بالحرب على طرابلس.
ورغم فتح الطريق الساحلي بين الشرق والغرب فإن أزمة المصادقة على ميزانية الحكومة الوطنية، وإعداد قانون للانتخابات، قضايا لم يفصل فيها مجلس النواب، ومحل جدل كبير بين لجنة الحوار التي اختارتها الأمم المتحدة دون الوصول لصيغة توافقية.
الحملات الانتخابية في ليبيا تبدأ مبكراً
المراقب للمشهد الليبي سيرى هذا الإطار واضحاً، إذ إن التصديق على الميزانية سيعطي للحكومة القدرة على الظهور القوي، وبذلك تتعزز فرص القيادات السياسية في الغرب الليبي، وخاصة رئيس الحكومة الوطنية عبدالحميد الدبيبة في الانتخابات القادمة.
لقد بدأت الحملات الانتخابية في ليبيا قبل أن تعلن الانتخابات بشكل رسمي، فمشهد رئيس حكومة الوحدة الوطنية في يوم الشباب العالمي، وهو يعِد الشباب بمنح للزواج والسكن يمثل مشهداً انتخابياً بامتياز.
كما أن خطاب حفتر الذي يوجهه لأنصاره بأنه لا يخضع لأي سلطة ما هو إلا محاولة للاستمرار في المشهد والتهيؤ للانتخابات كرقم صعب لا يمكن الوصول للاستقرار إلا من خلاله.
وسلوك حفتر هنا يندرج ضمن سلوك أمراء الحروب الذين تتحول مواقفهم بشكل سريع ومفاجئ. وكذلك الانتشار في كل عملية سياسية من أجل البقاء في المشهد بأي ثمن كان.
وفي الوقت نفسه، خرج سيف الإسلام القذافي وبشكل مفاجئ، ليفصح عن سردية كثيراً ما يرددها أنصار النظام السابق بأن الشعب قد يلجأ لأنصار القذافي على أنهم الحل لمشاكل البلاد، بعد أن فشلت الثورة والدولة وكل القوى على الساحة في إيجاد حل للأزمة الليبية.
التناقض في الخطاب كاستراتيجية للبقاء لدى خليفة حفتر
خلال الفترة الماضية، تناقضت خطابات حفتر بين الدعوة للسلام والاستقرار كما قال في خطابه بعد الإعلان عن فتح الطريق الساحلي، في يوليو/تموز الماضي، حين رحب به ودعا لسلام عادل، مذكراً بضرورة خروج القوات المرتزقة والأجنبية من ليبيا، لكنه بعد أسبوعين من ذلك الخطاب ظهر في عرض عسكري، وأكد أنه لا يخضع لأي سلطة في ليبيا رغم أنه يدعو للاستقرار.
وكغيره من أمراء الحروب، يسعى حفتر للبقاء في المشهد الليبي أكثر من تحقيق أهداف سياسية بعينها، لذا فإن تناقض المواقف لديه هو استراتيجية للبقاء. ففي الوقت الذي يتحدث فيه حفتر عن أنه لا يخضع لأي سلطة يحاول في نفس الوقت أن يتحصل على ميزانية خاصة بقيادته من حكومة الوحدة الوطنية، وهذا ما وافق عليه رئيس حكومة الوحدة الوطنية بتخصيص مليارات الدنانير لحفتر وقيادته، ولم يصدق مجلس النواب بعد على هذه الميزانية.
وحفتر مع السلام والديمقراطية إذا خاطب الولايات المتحدة الأمريكية، وهو لا يؤمن بالقيم الغربية إذا كان مع روسيا، وهو مع التهدئة إذا كان مع مصر، ومع الحرب إذا تحسس الأموال الإماراتية، وهذا هو سلوك أمراء الحرب.
هذا التفسير يؤكد أن حفتر سيعمل جاهداً على الاستمرار في إعاقة المسار السياسي الليبي قبل الانتخابات، لكنه في الوقت نفسه سيعمل على أن يكون أحد المشاركين فيها، وهذا ما جعل أتباع حفتر في مجلس النواب ومنهم رئيس المجلس يحرصون على وضع قانون انتخاب يسمح لمزدوجي الجنسية والعسكريين بالدخول للانتخابات حتى دون استقالة من الخدمة العسكرية، وهذا تفصيل لشروط الانتخاب على مقاس حفتر الذي يدعي أنه غير معني بالعملية السياسية.
عودة سيف الإسلام القذافي
في مشهد درامي نشرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً تقريراً مطولاً حول عودة سيف الإسلام معمر القذافي. والخطاب الذي قدمه القذافي للصحفي الأمريكي روبرت روث، هو خطاب انتخابات بامتياز، فقد كان يخاطب بالدرجة الأولى أنصار القذافي الذين يحلمون بعودته ليعيد إرث والده.
ويبين سيف الإسلام خلال المقابلة أنه على خطى أبيه ليس فقط لاستعادة السلطة، بل فكرياً أيضاً، قائلاً إن العالم وصل إلى أفكار أبيه ويطبقها الآن بعد وفاته، حسب تعبيره.
وتحدث سيف الإسلام عن "حركة خضراء" يقودها، ولمّح تمليحاً يقترب من التصريح بأنه سيشارك في الانتخابات الرئاسية بعد بضعة أشهر، طامحاً إلى الحصول على الدعم من قبل الليبيين.
وهذا الخطاب الانتخابي يُبين كيف تغير المزاج العام في ليبيا بعد تحديد موعد الانتخابات، ويبين كيف أن المعركة على أشدها في لجنة الحوار بين المقترحات المختلفة حول القاعدة الدستورية للانتخابات.
ويرى البعض أن يكون النظام رئاسي موسعاً بصلاحيات فرض حالة طوارئ، وكذلك تعيين رئيس الوزراء، وهذا ما يمثّل حالة نموذجية لحفتر وداعميه، وبالطبع محاولة تطويع كل شروط الانتخاب لتناسب خليفة حفتر، لكن ليس هناك خلاف كبير حول أن من صدر بحقه حكم بات أو مطلوب للجنائية الدولية أنه لا يحق له المشاركة في الانتخابات، وهذا ما صرح به رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عقب يوم من تصريحات سيف الإسلام معمر القذافي.
هنا يبرز الصراع بين حفتر وسيف الإسلام، واستخدام حفتر لمؤسسات الدولة للبقاء في المشهد والسيطرة عليه حتى من خارجه، وهذا تحدٍّ كبير لسيف الإسلام وأنصار النظام السابق؛ يؤكد أن ما صدر من تصريحات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول محاولته إقناع حفتر بدعم سيف الإسلام في الانتخابات جزء من السياق الخفي للمشهد الليبي ومساعي روسيا لوضع رجالها في الانتخابات القادمة.
مناورات قادة الغرب الليبي قبيل الانتخابات
في هذا السياق، يبدو أن الغرب الليبي يسعى كذلك لتجهيز نفسه للانتخابات، فهناك عدة قيادات يبدو أنها جاهزة لخوض معركة الانتخابات كرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، وفتحي باشاغا وزير الداخلية السابق، وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة حالياً، بالإضافة إلى شخصيات أخرى وأحزاب وتيارات مدنية.
وتسعى هذه الشخصيات والقوى خلال الفترة الجارية لتوفير الأمن وسد خلل فشل الدولة الليبية التي أرهقت مؤسساتها "الصراعات الزعاماتية". كأي دولة هشة تبدو الحرب فيها وسيلة للنفوذ والظهور.
وبالطبع لكل من هذه القيادات حظوظ في الانتخابات، وقد بدأت المعركة الانتخابية مبكراً، بسبب الصراع حول القاعدة الدستورية للانتخابات، مثل قانون الانتخاب، وشروط الانتخاب.
وقد بات واضحاً أن فشل أي دولة يؤثر في النظام العالمي، والأوضح كذلك أن هذا النظام بات يعاني من حالة تفكك تجعل من فشل الدول مرضاً عضالاً يصعب علاجه، وهنا تبدو الانتخابات كالغريق الذي يتعلق بقشه، وتبدو التدخلات الخارجية جزءاً من المشهد.
ليبيا بين الاحتراب والانتخاب
ومن خلال سردية الصراع السابق في ليبيا، وذكريات الحرب القاسية التي عاشها الليبيون، وحالة فشل الدولة، تسعى القيادات السياسية الليبية للفوز بالانتخابات القادمة التي لا يزال موعدها غير ثابت.
لكن الخطير الذي قد يواجه ليبيا هو أن تجرى الانتخابات ولدى الأطراف المختلفة القدرة على العودة للسلاح، وهذا ما يجعل الاحتراب بعد الانتخاب أمراً وارداً لا يمكن تجاوزه، وهذا يؤكد أن الانتخابات يجب أن تقام بحذر وبقواعد دستورية توافقية حتى لا تعود ليبيا للاحتراب.