يبدو الانهيار أن المتسارع للحكومة في أفغانستان كان مفاجئاً بالنسبة للكثيرين ممن يراقبون الآن. ففي بضعة أشهر من شهور الصيف الحارقة، اجتاحت قوات حركة طالبان معظم أرجاء أفغانستان. ويسيطر مقاتلوها على مراكز الولايات الواحد تلو الآخر فيما تنهار حكومة كابول التي من المفترض أنها تمتلك الكثير من العتاد والعدّة مقارنة مع مقاتلي طالبان.
وسيطرت الحركة، حتى يوم السبت 14 أغسطس/آب، على نحو من 17 ولاية في غضون أسبوع، ما من شأنه أن يكون ضربة قاصمة لحكومة الرئيس أشرف غني المحاصرة في كابول. وذكرت وكالة Associated Press الأمريكية أنَّ قوات طالبان سيطرت أيضاً على مدينتيّ هرات وقندهار الرئيسيتين، بعد عمليات استسلام بالجملة في صفوف الجيش الأفغاني أمام مقاتلي طالبان الذين يمتلكون أسلحة خفيفة.
طالبان أقوى مما كانت عليه قبل الغزو الأمريكي لأفغانستان
وتقول صحيفة The Washington Post الأمريكية حيال ذلك، إنه مع وجود كابول الآن في مرمى النيران، نجد أن حركة طالبان في أقوى حالاتها منذ عام 2001، قبل أن يطيح الغزو الذي قادته الولايات المتحدة بها من السلطة.
فيما قال مسؤولون محليون السبت 14 أغسطس/آب 2021، إن العاصمة كابول على بعد أيام من هجوم قد ينتهي بسيطرة الحركة عليها تماماً، كما حصل في ثاني وثالث أكبر مدن البلاد خلال الأيام القليلة الماضية.
في غضون ذلك، يترنَّح الجيش الأفغاني- الذي بُني خلال سنوات من التدريب والتمويل المالي الكبير من الولايات المتحدة- وبات مُثبَط العزيمة. إذ استسلم الجنود أو هجروا مواقعهم في المدينة تلو الأخرى. وقد هاجمتهم طالبان في بعض الأحيان باستخدام معدات عسكرية أمريكية، بما في ذلك أسلحة ومركبات.
التطورات على الأرض تبِعها قلق أمريكي كبير، إذ تعمل واشنطن على تقليص عدد رعاياها للحد الأدنى في العاصمة، فيما كشفت مصادر أنها أمرت بتدمير "وثائق حساسة" بالسفارة، تمهيداً لإخلائها تماماً إن لزم الأمر.
وتفيد تقارير بأنَّ المسؤولين الأمريكيين فكروا في نقل سفارتهم إلى قرب المطار، وحثّوا المواطنين الأمريكيين في البلاد على المغادرة فوراً. وسيجري نشر الآلاف من القوات الأمريكية الإضافية مؤقتاً لتأمين الموظفين من أجل عملية إجلاء محتملة.
وفي الوقت نفسه، تحاول إدارة بايدن بشدة حشد الفاعلين الإقليميين المتباينين، من جيران أفغانستان إلى الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، لتقديم جبهة موحدة في خضم المباحثات مع وفد طالبان في قطر. لكنَّ نفوذ طالبان في ازدياد فيما تتردد أصداء تكرار ما حصل في سايغون الفيتنامية عام 1975 بأعلى صوت في كابول 2021.
فوفقاً لتقديرات الاستخبارات الأمريكية، يعني الانهيار السريع لقوات الأمن الأفغانية أنَّ احتمال سيطرة طالبان على كابول نفسها يمكن أن يكون مسألة وقت. ويتزامن نجاح هجوم طالبان مع انسحاب آخر كتائب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) المتبقية في البلاد.
عندما سخر بايدن من "اجتياح طالبان لكل شيء"
سخر الرئيس الأمريكي جو بايدن في مطلع يوليو/تموز الماضي من احتمال قيام طالبان بـ"اجتياح كل شيء"، وعلَّق آماله على تسوية سياسية بالوساطة بين الأطراف الأفغانية المتحاربة. ورأى المنتقدون الأكثر تشدداً أنَّ على الولايات المتحدة إبقاء تهديد رادع ضد حركة طالبان الناهضة من جديد. ورد خصومهم بأنَّ عدم الاستقرار المستمر في البلاد حتى بعد عقدين من الاحتلال دليل كاف على الحاجة لإنهاء المهمة. دافع البيت الأبيض طوال أسابيع عن قراره بإنهاء وجود القوات الأمريكية باعتباره خطوة ضرورية حان أجلها.
وصرَّح بايدن للصحفيين مؤخراً في البيت الأبيض: "انظروا، لقد أنفقنا ما يزيد عن تريليون دولار على مدار 20 عاماً. وقد درَّبنا وزوَّدنا أكثر من 300 ألف من القوات الأفغانية بمعدات حديثة. وعلى القادة الأفغان التكاتف معاً".
ومن المؤكد أنه لم يعد بإمكان العدد الصغير من القوات الأجنبية المتبقي في البلاد عمل شيء ما لإحباط تقدم طالبان الحالي نحو كابول، بصرف النظر عن الانسحاب المُعلَن. وكان مأزق البلاد مصدر نفاد صبر متزايداً بالنسبة لبايدن. لكن بالنسبة لعدد لا يُحصى من الأفغان، بما في ذلك عدد متزايد من النازحين داخلياً، أصبح الوضع ميؤوساً منه على نحوٍ أكبر.
وأكَّدت عمليات الإجلاء السريع للدبلوماسيين الغربيين من العاصمة الأفغانية الشعور بالأزمة أكثر. فقال مايكل كوغلمان، الباحث في شؤون جنوب آسيا بمركز ويلسون، لصحيفة واشنطن بوست: "يجب على المجتمع الدولي بكل تأكيد إعطاء الأولوية لأمن دبلوماسييه. لكن دعونا نكُن واضحين: ستعطي مغادرته لأفغانستان إشارة مُؤرِّقة بأنَّ العالم يستسلم لترك الأفغان لمصيرهم".
الهزيمة الأمريكية الطويلة والبطيئة في أفغانستان
لكنَّ الدلائل بذلك كانت واضحة منذ فترة طويلة. فقد كشف الصحفي في الواشنطن بوست، كريغ وايتلوك، مجموعة من الوثائق الحكومية الأمريكية الداخلية التي تبحث إخفاقات الجهود الأمريكية لشن الحرب وبناء الدولة في أفغانستان، اعترفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بأنَّ طالبان لن تختفي بسهولة، وبأنَّ الدولة الأفغانية ضعيفة ومليئة بالفساد، وبأنَّ تحقيق نجاح ارتجالي دون استراتيجية متماسكة هو أفضل من الإقرار بالهزيمة.
وأوضح وايتلوك: "تُظهِر المقابلات والوثائق، والكثير منها لم يُنشَر سابقاً، كيف أخفت إدارات الرؤساء جورج بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب الحقيقة لعقدين. كانوا يخسرون ببطء حرباً كان الأمريكيون في وقتٍ من الأوقات يدعمونها بصورة جارفة. وبدلاً من ذلك، اختار القادة السياسيون والعسكريون دفن أخطائهم وترك الحرب تمضي على غير هدى".
كان مسؤولو إدارة بوش، قبل مرور أقل من نصف قرن على الغزو، يستحضرون المقارنات مع حرب فيتنام، بعدما بات واضحاً أنَّ طالبان ما تزال تشكل تهديداً. فقال أحد مسؤولي الإدارة لاحقاً لمحاورين حكوميين: "جاءت نقطة التحول في نهاية 2005 وبداية 2006 حين استفقنا أخيراً على حقيقة أنَّ هناك تمرداً قد يجعلنا نخفق فعلاً. كان كل شيء يمضي في الاتجاه الخاطئ في نهاية 2005".
وبعد قرابة عقد من ذلك تقريباً، في نهاية 2014، حاول أوباما التلويح بنهاية المهمة العسكرية الأمريكية في البلاد بعد سنوات من التمرد، مُعلِناً في بيانٍ أنَّ "أطول حرب في التاريخ الأمريكي تقترب من الوصول إلى نهاية مسؤولة". لكنَّ المسؤولين الأمريكيين كانوا يعرفون أنَّه ما من نهاية في الأفق، وكما كتب وايتلوك، فإنَّ إدارة أوباما "استحضرت وهماً. إذ نقلت للأمريكيين أنَّ القوات الأمريكية باقية فقط من أجل مهام (غير قتالية). لكنَّ البنتاغون قام بالعديد من الاستثناءات التي جعلت التمييز، عملياً، بلا معنى تقريباً".
ثم جاء ترامب، الذي دعا بصوتٍ عال لإنهاء التورطات العسكرية الأمريكية في الخارج. لكنَّه منح تفويضاً بتكثيف حملات القصف الجوي ضد الأهداف المسلحة، وهو ما أدى- بحسب إحدى الدراسات- إلى تزايد الضحايا المدنيين الأفغان بنحو 330%.