وضعت روسيا ثقلها العسكري والسياسي في الميزان لإنقاذ نظام بشار الأسد حتى تَحقق لها ما أرادت، لكن القتال المتجدد في درعا وسقوط عشرات الضحايا بين المدنيين يقوض فرصة موسكو لفرض النفوذ في الشرق الأوسط.
كانت روسيا قد فرضت عام 2018 وقفاً لإطلاق النار بين قوات بشار الأسد والمعارضة في منطقة درعا، مهد الثورة السورية، وتلا ذلك توقيع اتفاقيات أخرى مشابهة في مناطق أخرى، كانت تسيطر عليها المعارضة، وصولاً إلى الاتفاق الخاص بإدلب بمشاركة تركيا.
وتمثلت استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في دعم بشار الأسد لتحقيق هدف رئيسي، هو ترسيخ أقدام موسكو في منطقة الشرق الأوسط، بوصفها شريكاً يمكن الاعتماد عليه، في وقت يشهد النفوذ الأمريكي التقليدي تراجعاً ملحوظاً.
ماذا يعني تجدد القتال في سوريا؟
تناولت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية ما يعنيه تجدد القتال في سوريا بالنسبة لاستراتيجية روسيا، التي يبدو أنها اكتشفت أن الحفاظ على السلام في سوريا أصعب من القتال في حربها الأهلية.
ويرجع ذلك إلى الاعتداء الشرس من جانب قوات النظام السوري ضد إدلب، المعقل الأخير للمعارضة السورية، في تقويض الهدف الأساسي لموسكو الرامي إلى ترسيخ أقدامها بوصفها وسيطاً قوياً رئيسياً في المنطقة.
وأدت هجمات قوات الأسد إلى ارتفاع أعداد الوفيات، وهو ما يهدد بفسخ الهدنة التي رعتها روسيا، والتي كان من المفترض لها أن تُشكل نهاية اللعبة للمعارضة المسلحة في درعا، وتُقدم نموذجاً لإنهاء الصراعات في مناطق أخرى تسيطر عليها المعارضة المسلحة في البلاد.
إذ تضمّنت تلك الاتفاقية وقف الأعمال العدائية التي تفاوضت عليها سوريا وتركيا في شمال غرب محافظة إدلب، وهي منطقة تشكل أكبر جزء لا يزال تحت سيطرة المعارضة المسلحة في سوريا. وتهدد الصراعات الآن بتقويض الثقة في روسيا، بوصفها حكماً سياسياً في سوريا، رغم المكاسب التي حققتها من خلال مؤازرة الرئيس السوري بشار الأسد ومساعدته في البقاء في سدة الحكم.
احتجاجات ضد الأسد وقصف درعا
ففي الأسابيع الأخيرة كثفت قوات النظام السوري من قصفها درعا، رداً على الاحتجاجات المناهضة للنظام هناك. وفي المقابل، هاجمت المعارضة المسلحة بعض المواقع العسكرية الحكومية، مع أنهم صاروا مسلحين بأسلحة هجومية خفيفة بعد ترك أسلحتهم الثقيلة في إطار اتفاقية السلام الموقعة في 2018، وذلك حسبما أفاد سكان ومقاتلون محليون في صفوف المعارضة المسلحة.
وتسبب القصف في مقتل ما لا يقل عن 90 شخصاً، من بينهم 27 طفلاً. وبحسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أجبر القتال 24 ألف شخص على الفرار من منازلهم هناك. قال أبو علي المحاميد، أحد وجهاء درعا البلد، للصحيفة الأمريكية: "لا نملك الخبز، ولا الكهرباء، ولا الحد الأدنى من الأساسيات الضرورية للمعيشة".
وادّعى مسؤولو الجيش الروسي، في أواخر يوليو/تموز، أن القوات السورية نجحت في فرض الاستقرار على الموقف في سوريا، مع أن الناس على أرض الواقع يقولون إن جهود روسيا في التفاوض من أجل وقف القتال تفتقر إلى الحماسة.
ويقول المحللون إن أيادي موسكو يمكن أن تصير أقوى إذا استطاع حليفها السيطرة على كامل المنطقة، وليس من المرجح أن يؤدي القتال المتصاعد في درعا إلى تدمير التحالف الأوسع بين روسيا والأسد، ولن يؤثر على قواعد روسيا العسكرية الموجودة في مناطق أخرى بسوريا.
وبينما لم ترد الحكومة الروسية على طلب وول ستريت جورنال للتعليق، أعرب النظام السوري عن رفضه انتقادات الغرب للهجمات التي ينفذها، وقال إنه يقاتل "الإرهابيين"، حسب وصفه.
وقبل عقد من الزمن، وفي أوج ثورات الربيع العربي، أسفرت عن الاحتجاجات في درعا ثورة حاشدة تطالب الرئيس السوري بشار الأسد بالرحيل، قبل أن تتحول إلى معارضة مسلحة. سيطرت المعارضة المسلحة على مناطق من محافظة درعا لحوالي 7 سنوات، حتى استعاد النظام السوري، المدعوم من روسيا وإيران وحزب الله اللبناني، أغلب هذه المناطق عن طريق هجوم عسكري شنّه في عام 2018.
وقسم اتفاق وقف الأعمال العدائية لعام 2018 الذي تفاوضت روسيا للوصول إليه، قسّم المحافظة إلى قسمين: أحدهما عادت السيطرة عليه كلياً إلى قوات النظام السوري، فيما مُنح الآخر حكماً ذاتياً جزئياً. وافقت المعارضة المسلحة على تسليم المدفعية والأسلحة الثقيلة الأخرى، ووافق بعض أفرادها على الاندماج في جيش النظام.
سوريا نقطة ارتكاز لنفوذ روسي أوسع
كانت المبادرة الروسية -التي دعمت حكومة الأسد أولاً ثم أعادت تهيئة نفسها لتكون صانعة سلام- محور جهود أوسع لكسب مزيد من النفوذ في الشرق الأوسط. فقد أرسلت روسيا طائرات مقاتلة وقوات شبه عسكرية -مجموعة فاغنر- للقتال إلى جانب زعيم ميليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر في ليبيا، كما توددت إلى حلفاء أمريكا التقليديين، من أمثال مصر والسعودية، في جهود للضغط على الولايات المتحدة للخروج من المنطقة، وذلك حسبما يقول المحللون.
ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC تقريراً الأربعاء 11 أغسطس/آب بعنوان "مرتزقة حفتر الروس: في قلب مجموعة فاغنر"، كشف المزيد عن تفاصيل جرائم الحرب التي ارتكبها المرتزقة الروس، والتي شملت قتل الأسرى والمدنيين بدم بارد، وزرع الألغام في المناطق السكنية والبيوت، دون إشارات تحذيرية، وهي جرائم حرب بتوصيف القانون الدولي.
ولا شك أن هذه الجرائم تنال من صورة الدب الروسي في المنطقة، رغم النفي المتكرر لروسيا أن لها أي علاقة رسمية مع مجموعة فاغنر، التي تنشط أيضاً على الساحة السورية، وتواجه اتهامات مشابهة لتلك التي كشف عنها تقرير بي بي سي في ليبيا.
وبالإضافة إلى ذلك يطرح تجدُّد القتال في درعا تساؤلاً حول قدرة موسكو على الاضطلاع بدور الوسيط بنجاعةٍ، في الوقت الذي يحاول خلاله نظام الأسد السيطرة على جميع مناطق جنوب سوريا، بدعمٍ جزئيٍّ من إيران ووكلائها.
ويمكن أن يكون هناك سقوط في مكان آخر في البلد الذي مزقته الحرب، إذ يعيش ملايين السوريين في جيبٍ منفصل تسيطر عليه المعارضة المسلحة ويقع في شمال غرب البلاد، وتهاجمه أحياناً القوات المؤيدة للحكومة، رغم اتفاق وقف إطلاق النار الروسي التركي.
وقالت جمانة قدور، الزميلة الأقدم غير المقيمة في المجلس الأطلسي بواشنطن، وعضوة في اللجنة الدستورية السورية التي يسرتها الأمم المتحدة: "لا أعتقد أننا رأينا نهاية الملحمة السورية. بالنسبة للأماكن التي اعتقدنا أنها ستستأنف الحياة الطبيعية، لا أعتقد أنه ينبغي لنا الشعور بتلك الثقة".
وتطلب مجموعات المعارضة السورية من الولايات المتحدة أن تضغط على روسيا للمساعدة في وقف هجوم النظام السوري. وفي تغريدة نُشرت في 4 أغسطس/آب، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: "ندين الاعتداء الدموي الذي شنّه نظام الأسد على درعا، ونطالب بإنهاء فوري للعنف، الذي قتل المدنيين وشرد الآلاف الذين يعانون من نقص الغذاء والدواء".
تنازعت إدارة بايدن فعلياً مع روسيا حول سوريا، إذ تفاوضت واشنطن في يونيو/حزيران على تجديد قرار سمح بتدفق عمليات المساعدة الأممية إلى مناطق شمال غرب سوريا، التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، وتجنبت تهديداً باستخدام روسيا حق الفيتو لنقض القرار الذي كان من الممكن أن يقطع ما يمثل شريان إغاثة لملايين من الأشخاص.
وفي غضون ذلك، يبدأ السكان داخل المنطقة المحاصرة بدرعا في الشعور بالعبء الكامل للصراع، الذي تسارعت وتيرته بعد مطالبة النظام بأن تسلم المعارضة المسلحة الأسلحة الخفيفة التي سُمح لهم بالإبقاء عليها بموجب اتفاقية 2018. يتهم بعض الأشخاص روسيا بالفشل في الوفاء بمسؤولياتها المتعلقة بضمان الهدنة. قال عدنان مسالمة، وهو محامٍ ومفاوض باسم المعارضة: "المفاوضات مُختلَّة وظيفياً".
فيما يقول آخرون إن الغذاء والمياه النظيفة صارت نادرة الآن. وبحسب جماعات المساعدة، أُغلقت العيادة الوحيدة التي كانت مخصصة للمنطقة بسبب قصف الحكومة. وقال تيم الأحمد، وهو ناشط إعلامي يعيش في المنطقة المحاصرة: "أعتقد أن هناك احتمالية كبيرة لحدوث مذبحة طائفية إذا لم يُحل هذا الأمر".