حدّق جيوف غولبيرغ في شاشة جهازه غير مُصدِّق لما يراه، إذ وصفه مقطع فيديو قصير نُشِرَ على موقعي يوتيوب وتويتر في مارس/آذار الماضي بأنَّه عدو لدود للمملكة العربية السعودية، في نموذج فج لحملات الجيوش الإلكترونية السعودية.
وزعم حسين الغاوي الذي تحدث في الفيديو، أنَّ "كل أعمال غولبيرغ تستهدف تشويه السعودية ومصر والإمارات، زاعماً أنه ينشر تحليلات مزيفة تهدف إلى إغلاق الحسابات الموالية وتهديد المتعاطفين الأجانب مع تلك الدول".
كان الفيديو -الذي تصل مدته إلى ثماني دقائق منشوراً باللغة العربية مع ترجمة كتابية بالإنجليزية- جزءاً من سلسلة دورية ينشرها الغاوي، الذي يصف نفسه بأنَّه صحفي سعودي، حسبما ورد في تقرير لموقع The Intercept الأمريكي.
وأظهر المقطع صورة لوجه غولبيرغ، ووصفه خطأً بأنَّه صحفي لدى شبكة CNN الأمريكية. وقال الغاوي إنَّ عمل غولبيرغ، الذي يرسم خرائط للتلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي، قد وضع غولبيرغ في نفس المستوى مع كبار خصوم المملكة، أي حزب الله اللبناني وتركيا ودولة قطر.
خبير في التلاعب على وسائل التواصل الاجتماعي
وقال غولبيرغ، وهو خبير في تعقُّب التلاعب على وسائل التواصل الاجتماعي: "رؤية ذلك الفيديو، وتلك الصور من الاتهامات لي، جعلتني أشعر بأنَّ حياتي ربما تكون في خطر، وقد جعلني على أقل تقدير أشعر أنَّه ليس من الآمن لي القيام بنوع العمل الذي أعمل، حتى في الولايات المتحدة".
لم يكن غولبيرغ هو الوحيد الذي أثار غضب الغاوي، فقد وصف نفس الفيديو العديد من النشطاء السعوديين ممَّن لهم علاقة بالغرب بأنَّهم خونة، وأدان عدداً من النشطاء الأمريكيين وخبراء مراكز الأبحاث.
وظهرت في الفيديو سارة ليا واتسون، المديرة التنفيذية لمركز "الديمقراطية الآن للعالم العربي"، وهو مركز أبحاث في واشنطن يركز على المعايير الديمقراطية في الشرق الأوسط، وكذلك ظهرت أريان طباطبائي، وهي مسؤولة بوزارة الخارجية وأكاديمية أمريكية من أصل إيراني عملت سابقاً لـ"مؤسسة راند"، وهي مؤسسة غير ربحية كثيراً ما تقوم بأعمال بحثية لصالح الحكومة الأمريكية.
الأمر يذكرنا بما حدث قبل اغتيال خاشقجي
أصبحت المضايقات والتضليل على شبكة الإنترنت قضيتين سياسيتين في الولايات المتحدة، لكن يمكن أن يكون التهديد في البلدان المستبدة أكثر خطراً وبصورة فورية.
ففي ظل السيطرة الكاملة للنظم الحاكمة، يمكن أن يتحول المجال العام، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، بصورة تامة إلى سلاح. وقد أظهرت السعودية، بقيادة محمد بن سلمان، على وجه التحديد استعداداً للمواصلة حتى النهاية، والوفاء بتهديداتها وترهيبها على الإنترنت من خلال خطف وقتل مَن تتصور أنَّهم منتقدوها فعلاً، حتى أولئك الذين يعيشون بالخارج.
قالت واتسون: "أحد الأمور المهمة التي ينبغي وضعها في الاعتبار هي أنَّ حرية التعبير في السعودية قد سُحِقَت تماماً في عهد محمد بن سلمان. هذه الرسائل على الإنترنت لا تأتي من أصوات مستقلة داخل السعودية. لم تعد هناك أصوات مستقلة تخرج من ذلك البلد الآن"، حسبما ورد في تقرير الموقع الأمريكي.
وأضافت: "كانت هناك حملة لمضايقتي لفترة طويلة قبل قتل جمال خاشقجي، لكنَّ الأمر تصاعد منذ ذلك الحين".
وفي العديد من الحالات، تبدأ هذه الهجمات بالغاوي، وهو واحد ضمن عدد من المؤثرين السعوديين الرئيسيين الموالين للحكومة، والذين تُضخَّم رسائلهم ويجري مشاركتها عبر شبكة من الموالين للسعودية وبوتات الإنترنت والحسابات الأخرى غير الموثقة على الإنترنت.
ويُعَد تنديد فيديوهات الغاوي بشخصيات مثل غولبيرغ وواتسون وآخرين جزءاً من سلسلة دورية تُنشَر على تويتر ويوتيوب تُدعى "جمرة". ويُركِّز البرنامج القصير بالكامل على تحديد قوائم أعداء النظام السعودي حول العالم.
يوجد القليل من المعلومات عن الغاوي نفسه، والذي يُعرِّفه جزء السيرة الذاتية في تويتر ببساطة بأنَّه "صحفي سعودي". ويُنشَر برنامج جمرة، الذي يُبَث باللغة العربية مع ترجمة كتابية إنجليزية، على قناة الغاوي على يوتيوب.
تملك صفحة جمرة أكثر من 120 ألف مشترك، ويصف البرنامج نفسه بأنَّه "برنامج سياسي يُوصِلك للمعلومات الخفية". ويُروِّج الغاوي لفيديوهات سلسلته على حسابه المُوثَّق في تويتر، حيث يملك أكثر من ربع مليون متابع.
بالنسبة لغولبيرغ، الذي يقول إنَّه غير مهتم البتة بالسياسة في الشرق الأوسط، يشير ظهوره في فيديو جمرة إلى أنَّه أثار غضب أناس أقوياء في السعودية. وتراوده شكوك بأنَّ أولئك الفاعلين انزعجوا من عمله في تعقُّب النشاط الداعم للمملكة على وسائل التواصل الاجتماعي.
تلاعُب واسع النطاق عبر حسابات غير موثقة
وكان غولبيرغ قد وجد بيانات تحليلية تُظهِر تلاعباً واسع النطاق من خلال بوتات الإنترنت وحسابات أخرى غير موثقة على تويتر، تروج لرسائل داعمة للحكومة السعودية.
وكانت السعودية محط اهتمام واحد من بين اهتمامات أخرى كثيرة لغولبيرغ –نشر غولبيرغ سابقاً دراسات تحليلية لأنصار عملة الريبل، وهي عملة رقمية رائجة، ولأنصار الرئيس دونالد ترامب، لكنَّ رد فعل المملكة كان مختلفاً. فقال غولبيرغ إنَّ شيئاً لم يُثِر رد فعل سلبياً أو خوفاً مثلما فعل عمله حول السعوديين. الأسوأ في الأمر أنَّ منصات التواصل الاجتماعي لم تفعل شيئاً لمساعدته.
قال غولبيرغ: "أتمنى لو كنتُ شخصاً مشهوراً أو لديه حساب كبير موثق، حتى إذا بدأتُ نشر معلومات عن الهجمات ضدي على تويتر ويوتيوب شعرت هاتان المنصتان بأنَّهما مضطرتان لحذفها، لدى الأشخاص الذين يمكلون منصات كبيرة القوة لحذف أمور مثل المعلومات الشخصية أو التهديدات بالقتل، لكن حين يحدث شيء لشخص عادي لا يوجد الكثير مما يمكنه عمله".
تركت التهديدات والهجمات ضد غولبيرغ أثراً نفسياً وعاطفياً عميقاً عليه، وتركته في حالة صراع مع نفسه حول استمراره فيما يفعل من عدمه.
الجيوش الإلكترونية السعودية تستهدف عميلاً سابقاً بمكتب التحقيقات الفيدرالية
سلط تقريرٌ نُشِرَ في صيف 2020 في مجلة The New Yorker الأمريكية الضوء على هدف آخر للغاوي: العميل السابق لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) علي صوفان. وبعدما نبَّهت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية صوفان في مايو/أيار من ذلك العام إلى وجود تهديدات ذات مصداقية لحياته، وجد صوفان نفسه مُستهدَفاً أيضاً بحملة شرسة من التهديدات والتشهير على الإنترنت. استعان صوفان بشركة أمن سيبراني حددت تورُّط مسؤولين في الحكومة السعودية في جزء على الأقل من الحملة على الإنترنت، وأنَّ "حسين الغاوي قد بدأ الحملة".
ووفقاً للمجلة الأمريكية، وجد التحليل أنَّ الغاوي قد لعب أيضاً دوراً رئيسياً في قيادة حملة الإنترنت ضد خاشقجي في الأشهر التي سبقت مقتله.
يُعَد صوفان عميلاً سابقاً مرموقاً لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي، ويتمتع بعلاقات وثيقة مع مسؤولين حاليين وسابقين بالحكومة الأمريكية. وربما جعلت مكانته وعلاقاته منه هدفاً باهظ التكلفة بالنسبة للسعوديين، لكنَّ أمريكيين آخرين شملتهم حملات التشهير على وسائل التواصل الاجتماعي هم أكثر عرضة للخطر، تماماً كما هو الحال بالنسبة لعائلاتهم.
ومحمد سلطان مستهدف حتى بعد إطلاق سراحه من القاهرة
محمد سلطان هو مصري أمريكي قضى قرابة عامين داخل سجن مصري عقب الإطاحة بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013، وقد أوشك على الموت خلف القضبان خلال إضراب عن الطعام استمر لأكثر من عام. وقد أُطلِقَ سراحه أخيراً بعد غضب دولي وعاد إلى الولايات المتحدة في مايو/أيار 2015. وقال إنَّه على الرغم من كونه مواطناً أمريكياً موجوداً داخل الولايات المتحدة، لم يعنِ حصوله على حريته من السجن عدم تعرُّضه للمزيد من المضايقات والتهديدات، سواء من جانب المسؤولين المصريين أو حلفائهم السعوديين، بما في ذلك حسين الغاوي.
نشر الغاوي في مارس/آذار الماضي فيديو على تويتر ويوتيوب كجزء من سلسلة جمرة، وصفت سلطان بأنَّه متطرف دبَّر لشنّ هجمات ضد الحكومة المصرية. وصف الغاوي أيضاً سلطان بأنَّه عدو للسعودية كان يُشوِّه حكامها من خلال دعمه لمنظمات حقوق إنسان مقرها الولايات المتحدة. وعرض الغاوي صورة قديمة لسلطان مع رجل الدين المقيم في قطر الشيخ يوسف القرضاوي كدليل على ذلك، والقرضاوي هو رجل دين كثيراً ما يجري ربطه بجماعة الإخوان المسلمين في مصر، التي تنظر إليها السعودية باعتبارها تهديداً.
اغتيال معنوي قد يتطور لما هو أخطر
واعتبر سلطان أنَّ حملة الغاوي وآخرين ضده هي محاولة مباشرة لتبرير أي أذى مستقبلي ربما يتعرض له مُقدَّماً.
وقال: "إنَّهم يختارون هدفاً ثم يغتالونه معنوياً، حتى إذا ما حدث أي شيء لاحقاً يمتنع الناس عن الحديث عن ذلك الشيء، هذا هو ما فعلوه بجمال خاشقجي، إنَّهم يرسمون صورة سلبية قدر الإمكان كي يجعلوا الناس بعد ذلك يقولون (الأمر معقد) إذا وقع أي شيء وحين يقع أي شيء".
خضعت صلات تويتر بالسعودية للتدقيق في وقت سابق، ففي عام 2020 كان اثنان من موظفي الشركة موضوعاً لشكوى من مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي، إذ اتُّهِما بالتجسس داخل مكتب الشركة نيابة عن الحكومة السعودية، بما في ذلك نقل أرقام هواتف المعارضين وعناوين IP الخاصة بهم.
ويشن تويتر دورياً حملات حذف للحسابات الموالية للسعودية، التي يجد أنَّها تسيء استغلال المنصة، فحُذِفَت بضعة آلاف من الحسابات الموالية للسعودية في ديسمبر/كانون الأول 2019، لانتهاكها سياسات تويتر الخاصة بـ"التلاعب بالمنصة"، وذلك بعد فترة قصيرة من خروج المزاعم العلنية بشأن الجاسوسين إلى النور. وحُذِفَ أيضاً العام الماضي من الموقع 20 ألف حساب قِيل إنَّها مرتبطة بالحكومات السعودية والمصرية والصربية.
تويتر ويوتيوب راضيان عما يحدث
لكن يبدو أنَّ كلاً من تويتر ويوتيوب راضيان بالسماح بحملات التلاعب المستمرة الموالية للحكومات في المنصة باللغة الإنجليزية، بل يصبح غياب الكبح أكثر جلاءً في اللغة العربية واللغات غير الإنجليزية، ويُقدِّر غولبيرغ أنَّ الحملات المعلوماتية المستمرة الموالية للسعودية على تويتر "تنطوي على عشرات آلاف الحسابات غير الموثقة".
وقال: "حددتُ شركات تسويق كاملة موجودة في السعودية، تساعد في إدارة حسابات غير موثقة لصالح الحكومة السعودية. وبالحكم استناداً إلى الرسائل التي تعززها، فإنَّها تعمل مع الحكومة ولا تروج فقط لسرديات معينة، بل تواصل أيضاً الاغتيال المعنوي لأعضاء المجتمع المدني الذين لا تحبهم الحكومة، أراد تويتر بهذه الإيقافات السابقة للحسابات السعودية إعطاء مظهر أنَّه يُطهِّر المنصة قليلاً، وقد فعل، لكن لا يزال هناك قدر لا يُصدَّق من نفس النشاط الموالي للحكومة السعودية يتم اليوم".
يواصل الغاوي البث المنتظم لبرنامجه جمرة. وقد نشر في مطلع يوليو/تموز الماضي فيديو آخر يستهدف معهد كوينسي، وهو مركز أبحاث ذو نزعة رافضة للتدخلات مقره واشنطن العاصمة. وقد اتهم كذباً واحداً على الأقل من العاملين بمعهد كوينسي، إيلي كليفتون، بالعمل سابقاً في العاصمة الإيرانية.
وقال كليفتون، الذي تحدث لموقع The Intercept الأمريكي، رداً على ذكره في آخر حلقات جمرة: "إنَّه لأمر مثير للقلق أن ترى متصيد إنترنت سعودي بارز، لعب دوراً بارزاً في حملة مواقع التواصل الاجتماعي ضد جمال خاشقجي، يستهدف العاملين في مركز أبحاث أمريكي بأكاذيب وفبركات، لكن من الصادم تماماً أنَّ شركات تكنولوجيا أمريكية –تويتر وجوجل- تستضيف وتساعد عن وعي في نشر هذا المحتوى".
قال متحدث باسم تويتر في بيان: "لدينا سياسات واضحة مُطبَّقة بشأن السلوك المؤذي والتصرفات الكريهة والتهديدات العنيفة على الموقع، وسنتخذ إجراءات الإنفاذ أينما حددنا وجود انتهاكات واضحة"، ووفقاً لتويتر لم تنتهك تغريدات الغاوي أي سياسات.
وصف الغاوي نفسه في أحد فيديوهات جمرة، رداً على مزاعم تحديده لأعداء المملكة من أجل إيذائهم مستقبلاً، بأنَّه مجرد صحفي يؤدي خدمة عامة. وقال الغاوي: "ذخيرة الصحفي هي المعلومات، وسلاحه هي الكلمات".
لم تحقق لغة الطمأنة من الغاوي شيئاً يُذكَر لتهدئة الأمريكيين وغيرهم ممّن هم في الطرف المتلقي لحملاته على الإنترنت، التي تُبَث من دولة استبدادية لها سجل حافل في قتل منتقديها، أينما كانوا، حسب وصف التقرير.
وقالت واتسون: "يجب على إدارة بايدن أن تسأل نفسها ماذا ستفعل لحماية الأمريكيين من هذه الهجمات. طالما يشعر السعوديون أنَّهم يتمتعون بذلك الدعم الأمريكي غير الناقد، سيستمرون في الاعتقاد بأنَّ لديهم رخصة لمهاجمة منتقديهم بالطريقة التي يودُّون. وقد ثَبُتَ فعلاً أنَّ هذه الهجمات المُنسَّقة ضد الأشخاص الذين لا يحبونهم والتي تبدأ على الإنترنت يمكن أن تكون مميتة في عالم الواقع".