بعد أسبوع من إقدام الرئيس التونسي قيس سعيد على تجميد البرلمان وإقالة الحكومة وانفراده بالسلطة التنفيذية ورئاسة النيابة العمومية، بدعم من مصر والإمارات، إلى أين تتجه أزمة تونس الدستورية والسياسية؟
وتواجه تونس منذ مساء الأحد 25 يوليو/تموز أكبر أزمة لها منذ أصبحت أول دولة عربية تتذوق الديمقراطية قبل عشر سنوات، بعد أن أطاح الرئيس قيس سعيد بالحكومة وجمد أنشطة البرلمان، في خطوة رفضتها الأحزاب الأربعة الأكبر في البرلمان.
ففي بيان صدر في ساعة متأخرة من مساء الأحد، استخدم سعيد الفصل الـ80 من الدستور لإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي وتجميد عمل البرلمان لمدة 30 يوماً، قائلاً إنه سيحكم البلاد إلى جانب رئيس وزراء جديد، يقوم سعيد نفسه باختياره، في خطوة مفاجئة جاءت بعد يوم من الاحتجاجات ضد الحكومة وحزب النهضة؛ وهو أكبر حزب في البرلمان عقب زيادة في الإصابات بفيروس كورونا وتزايد الغضب من الخلل السياسي المزمن والمشكلات الاقتصادية.
ويشكل هذا أكبر تحدٍّ حتى الآن لتونس بعد ثورة 2011 التي أطلقت شرارة "الربيع العربي"، وأطاحت بالحكم المطلق لصالح الحكم الديمقراطي، لكنها فشلت في تحقيق الحكم السليم أو الرخاء.
هل يوجد ضباط مصريون في تونس؟
وقبل الدخول إلى السيناريوهات المحتملة للأزمة الدستورية والسياسية الأعمق في تونس، بعد قرارات الرئيس سعيد وما سببته من انقسام خطير في مشهد لم ينقصه الانقسام ولا الصراع، نتوقف مع ما أورده تقرير لمنصة "أسباب" المعنية بتحليل أبعاد التطورات الإقليمية والدولية من منظور جيوسياسي اعتماداً على آلية تحليل المخاطر، بشأن الدور المصري والإماراتي فيما أقدم عليه الرئيس التونسي.
وفي هذا السياق، كان موقع ميديل إيست آي البريطاني قد نشر وثيقة سرية في مايو/أيار الماضي تفيد بأن سعيد يدبر خطة لديكتاتورية دستورية، وفصلت الوثيقة مع حدث بالفعل يوم الأحد 25 يوليو/تموز.
إذ تشير المعطيات التي توفرت لـ"أسباب" من مصادر متعددة إلى أن الإمارات ومصر كانتا على علم بتحرك الرئيس التونسي بشكل مسبق، وأن لكل من البلدين قوات في تونس أتت مؤخراً بغطاء المساعدة الطبية لمكافحة كورونا، ساهم ضباط منها في إدارة الأزمة من قصر الرئاسة، خاصة ضباط مصريين. ووفق مصدر رسمي فإن الولايات المتحدة طلبت من الرئيس التونسي بعد اتخاذه القرارات الاستثنائية أن تغادر القوات الإماراتية والمصرية تونس في أقرب فرصة.
الجزائر من جهتها، أبدت قلقها بشكل واضح من وقوع تونس تحت النفوذ السياسي والعسكري المصري، خاصة أن آخر زيارة لـ"سعيد" كانت إلى مصر في إبريل/نيسان الماضي، الأمر الذي تحدث فيه بشكل صريح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في مكالمته مع نظيره التونسي يوم 26 يوليو/تموز. وجدير بالذكر أن الرئيس الجزائري أجرى اتصالات مماثلة مع قادة أحزاب تونسية عدة بينها حزب النهضة، الأمر الذي سيجعل "سعيد" يأخذه بالاعتبار في أي تحرك داخلي يحاول فيه استنساخ تجربة انقلاب السيسي عام 2013.
الموقف الأمريكي كان معتدلاً لناحية عدم وصفه ما جرى بالانقلاب، غير أن المسؤولين الأمريكيين في اتصالاتهم بالرئيس التونسي أعربوا عن استيائهم مما جرى. يلعب دوراً في هذا الموقف الأمريكي الذي بات أكثر انحيازاً للخيارات الديمقراطية كون العناصر الديمقراطية من جناح "ساندرز" متواجدين أكثر من أي إدارة ديمقراطية سابقة في مفاصل صنع القرار السياسي الخارجي، وباتوا يؤثرون في مواقف البيت الأبيض والخارجية من أزمات المنطقة العربية بشكل خاص دون انحياز فاقع للديكتاتوريات، كما في السابق.
كما لوحظ إصرار عدد من الدول الغربية على دعوة الرئيس التونسي لاحترام الدستور، الأمر الذي قد يحد من إمكانية تماديه في القرارات الاستثنائية لتصل حد تعطيل الدستور، رغم أن تجارب شعوب المنطقة مع المواقف الغربية تجاه الثورات المضادة تُثير الشكوك، حيث ظهر الانحياز للأنظمة الديكتاتورية في نهاية المطاف برغم تصريح بعضها بخلاف ذلك.
كيف قررت "النهضة" مواجهة "سعيد"؟
كانت حركة النهضة- صاحبة الكتلة البرلمانية الأكبر- سريعة وحاسمة في رفض قرارات الرئيس. وانتقد راشد الغنوشي، أحد مؤسسي حزب النهضة ورئيس البرلمان، خطوات قيس سعيد معتبراً إياها "انقلاباً ضد الثورة والدستور". كما أدانت الأحزاب الكبرى الأخرى في البرلمان، وهي ائتلاف الكرامة وأحزاب قلب تونس والتيار الديمقراطي العلمانية، تحركات "سعيد" باعتبارها غير دستورية.
وتوجه الغنوشي إلى مقر البرلمان المغلق ووجه رسالة إلى التونسيين لمقاومة "انقلاب الرئيس"، معلناً الاعتصام أمام مقر البرلمان، وداعياً باقي النواب للانضمام إليه، قبل أن يقرر التراجع عن التصعيد في الشارع.
وفي هذا السياق، أشارت معلومات "أسباب" إلى أن قيادة "النهضة" اتخذت قراراً بتبنّي "خيار إسلاميي السودان" في التعامل مع قرارات "سعيد"، وذلك من خلال تسجيل موقف مبدئي ضد الحدث، ثم التعامل مع نتائجه بهدوء وعدم اللجوء للتصعيد، ووضع الرئيس وأطراف سلطته لاحقاً في مواجهة الظروف الاقتصادية والصحية الصعبة، مراهنين على عدم قدرة "قيس" وداعميه على إدارة البلاد.
وستسعى "النهضة" إلى ألا تقف منفردة في مواجهة "سعيد"، وإنما تحركاتها ستكون تحت مظلة أحزاب المعارضة، حتى لا يتم الاستفراد بها، خاصة أن "سعيد" قد يستغل سيطرته على النيابة العامة لاستهداف خصومه السياسيين، ومنهم "النهضة"، عبر تحقيقات قانونية حول قضايا فساد، وربما توجيه اتهامات بالقيام بأنشطة تخريبية أو مزعزعة للاستقرار.
إضافة لذلك، فإن المعارضة ترى بأن هناك عقبات قانونية من الصعب على الرئيس تجاوزها، أهمها الاستمرار طويلاً في تجميد عمل البرلمان، وحاجته في تشكيل أي حكومة لأحد خيارين: إما مشاورة رئيس البرلمان (زعيم النهضة)، أو تعطيل العمل بالدستور.
ويميل ميزان القوة في هذه المرحلة لصالح "سعيد"، ويظل الشخصية الأكثر شعبية في تونس (تضعه استطلاعات الرأي اليوم قرب مستوى 40%)، وقد يوافق التونسيون الساعون إلى وجود رئاسة أقوى، وأيضاً أولئك المعادون للأحزاب السياسية، وخصوصاً النهضة، على قراراته.
ومع ذلك، فإنه إن لم يستطع الوصول إلى صفقة- على سبيل المثال- مع صندوق النقد الدولي (الذي يشترط أن يتعامل مع حكومة توافقية وليس حكومة يعينها الرئيس)، فالتقديرات تشير إلى أن "سعيد" لن يتمكن من دفع رواتب موظفي الدولة بعد شهرين أو ثلاثة في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.
بيئة سياسية غير مستقرة وعالية المخاطر
حتى لو كان الرئيس سعيد يسعى من خلال إجراءاته الأخيرة للحكم بصورة أكثر فعالية، فإنَّ خطته الأطول أجلاً ما تزال غير واضحة. وستساعد بعض المؤشرات الرئيسية والتطورات التالية في قادم الأيام والأسابيع في تحديد ما إن كانت تونس تمر بأزمة دستورية مؤقتة، أم تحول أكبر في المسار نحو نظام أقل ديمقراطية يشهد تركيز مزيد من السلطة في يد الرئيس.
فمن شأن حدوث اعتقالات جماعية للإسلاميين، بتهم زعزعة الاستقرار أو "الإرهاب"، وحظر أحزاب سياسية معارضة باتهامات مماثلة، أن يؤشر على استمرار حملة القمع من جانب الحكومة، بدعم من الجيش والأجهزة الأمنية، وزيادة احتمالية تصعيد العنف الأهلي.
كما أن استمرار قوات الأمن في مداهمة وإغلاق مكاتب وسائل الإعلام التي يعتبرها أنصار "سعيد" السياسيون مرتبطة بالمعارضة وبخاصة الإسلاميون، سيؤشر على محاولة مستمرة لعزل "النهضة" وأنصارها.
والمؤشر الثالث هو أن يكون لمرشح "سعيد" لمنصب رئيس الحكومة خلفية في الجيش أو أجهزة المخابرات، وهو ما سيزيد احتمال تهميش العملية الديمقراطية في تونس لصالح هيكل حكم مدعوم من الجيش أو الأجهزة.
وفي المقابل، من شأن الحوار السياسي بين الفاعلين الرئيسيين (مثل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والسياسيين داخل وخارج البرلمان) أن يساعد في تبديد المخاوف بشأن استمرار الإدارة الحالية إلى أجل غير مسمى. وبعكس ذلك، فإن عدم تحقق الحوار سيهدد بتغيير كامل نظام الحكم في البلاد على المدى الطويل.
أحد العوامل الأخرى المهمة التي ينبغي مراقبتها هو رد فعل المجتمع الدولي إزاء التطورات في تونس، فباستثناء تركيا، التي أعلنت بقوة رفضها قرار سعيد "تعليق العملية الديمقراطية"، تبنَّت معظم البلدان والهيئات التي أدلت بدلوها (ألمانيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة) بشكل عام نهج "لننتظر ونرى"، فأعربت عن القلق وحثَّت على ضبط النفس والحوار.
لكن إذا ما تحرك الفاعلون الخارجيون بقوة ضد المحاولة "الانقلابية"، سيترك هذا فرصة لقوى مثل السعودية والإمارات للتأثير في الأزمة دعماً لسعيد، تماماً مثلما فعلتا مع الرئيس "عبد الفتاح السيسي" في مصر.
وفي ظل الوضع الضعيف للاقتصاد التونسي، من الممكن جداً أن يُحدِّد الدعم -والمساعدات- الخارجية نتيجة هذه الأزمة، خاصة لجهة تدخل صندوق النقد الدولي الذي تحتاج تونس لتمويله مؤسسات الدولة وإنجاز المفاوضات القائمة معه حالياً، فأي مساعدة مالية أخرى سواء من دول مثل الإمارات والسعودية لن تحل أزمة اقتصاد تونس الحادة.
كيف وظَّف "سعيد" الخلل المتراكم في النظام السياسي؟
وإجمالاً يمكن وصف الانقسام السياسي الداخلي في تونس بأنه أحد سمات المرحلة الانتقالية التي أعقبت ثورة 2011، فضلاً عن تمخّض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عن برلمانٍ ممزق جلب إلى السلطة رئيساً يرى نفسه دخيلاً على المنظومة السياسية، حيث اكتسح "سعيد" بصفته أستاذ قانونٍ مستقلاً انتخابات عام 2019.
ومنذ ذلك الحين، تميَّز الرئيس في سلوكه بازدراء الطبقة السياسية بشكلٍ عام، ودخل في صراعٍ ضد حركة "النهضة"، ومؤخراً، واجه خلافات حادة في الرأي مع رئيس الوزراء، هشام المشيشي، حول طريقة إدارة أزمة كوفيد-19.
وقد تسبّب النظام شبه الرئاسي الذي جاء به دستور تونس 2014، ويُشارك من خلاله "سعيد" السلطة مع رئيس الوزراء، في تعطيل الحركة السياسية فعلياً داخل تونس، في ظل الخلاف المتكرر حول السلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان "راشد الغنوشي"، ما أدّى إلى تعميق المشاعر العامة بخيبة الأمل في العملية السياسية، ودعوة المزيد من التونسيين- عبر الاحتجاجات وأشكال النشاط السياسي الأخرى- إلى حلّ مجلس النواب والأحزاب التي يرى البعض أنّها مهتمةٌ بمصالحها الشخصية أكثر من المصالح الوطنية.
ووسط هذا المناخ، وبدلاً من التفاوض على مراجعةٍ للدستور، قرّر "سعيد" الاستيلاء على السلطة بالكامل استناداً للمادة 80 من الدستور التونسي. ويشير الاستخدام المثير للجدل لتلك المادة إلى زيادة خطر تفاقم الانقسام في المشهد السياسي للبلاد؛ حيث إنّ الاطلاع على المادة المذكورة يكشف أنّها تنص على ضرورة التشاور مع رئيس الوزراء ورئيس البرلمان قبل تطبيقها، وأنّ البرلمان يجب أن يظل "في حالة انعقادٍ دائم طوال تلك الفترة" – وليس تجميده كما قرر الرئيس.
علاوةً على ذلك، فإن الجهة الوحيدة التي يُمكنها الفصل فيما إذا كانت المادة 80 قد استُخدِمت بالشكل الصحيح، والتي يُمكنها أيضاً إنهاء صلاحيات "سعيد" الاستثنائية، هي المحكمة الدستورية التي لا وجود لها على أرض الواقع حتى الآن؛ حيث إنّ المشهد السياسي الممزق في تونس حال دون توافق الأحزاب على عضوية المحكمة، رغم نص دستور عام 2014 على تشكيلها.
وليس بعيداً عما جرى في دولٍ مجاورة، يمكن القول بأنّ الظروف الجيوسياسية المضطربة في المنطقة قد لعبت دوراً في هذا الاستيلاء على السلطة، مع بقاء الدافع الذاتي لـ"سعيد" المحرك الرئيسي لما جرى. فمنذ صعوده إلى الرئاسة، سعى "سعيد" فعلياً لحكم تونس بنظامٍ رئاسي، وهذا ما كشفته الوثيقة التي جرى تسريبها من ديوان الرئاسة قبل شهرين فقط واحتوت على خطة "سعيد" لما جرى في 25 من يوليو/تموز.
وفي كل الأحوال، على الأرجح ستقود الخطوات التي أقدم عليها الرئيس التونسي لتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، لا سيما أن الوقت لا يسير في صالح السلطات التونسية التي كانت تقود حراكاً دولياً، بحثاً عن السيولة النقدية وعودة نسق الاستثمارات الأجنبية.
وتشير تقديرات "فيتش" إلى أن قرارات الرئيس التونسي ستقلّل من استعداد الشركاء الغربيين لدعم بلاده، كما أن فشل التفاوض مع النقد الدولي سيؤدي إلى استمرار الاعتماد الشديد على التمويل المحلي، وسيزيد من الضغوط على السيولة الدولية.
وبالتالي، فإن الموقف الدولي والإقليمي يكتسب أهمية واسعة في الحالة التونسية، وتشير المعطيات إلى أن العامل الخارجي سيكون ضاغطاً على "سعيد" لمنع حدوث حالة من الفلتان أو عدم الاستقرار، وضمان عدم ذهابه بعيداً في استعمال الصلاحيات والسلطات الدستورية.