تمثل الأزمة السياسية في تونس اختباراً وجودياً لمصير الديمقراطية الفتية التي نالت إشادة كبيرة ولحزب النهضة أيضاً، وهو حزب إسلامي رئيسي لعب دوراً مركزياً فريداً في دولة عربية من خلال صناديق الاقتراع.
فقد ألقى قرار الرئيس قيس سعيد بالسيطرة على الحكومة وإقالة رئيس الوزراء وتجميد عمل البرلمان بظلال من الشك حول الديمقراطية التونسية ومكانة حزب النهضة، مما أثار جدلاً حاداً في الحزب حول كيفية الرد على الرئيس.
ومنذ أن فجرت انتفاضة تونس عام 2011 ما سُمي بانتفاضات "الربيع العربي" واجهت معظم الأحزاب الإسلامية في الدول العربية قمعاً عنيفاً أو دُمجت في أنظمة سياسية تكون السلطة النهائية فيها لزعماء مستبدين.
وخلافاً لذلك، كانت حركة النهضة التونسية، التي كانت محظورة قبل الانتفاضة، جزءاً أساسياً في الحكومات الائتلافية المتعاقبة، وهي حالياً أكبر حزب في البرلمان (مجلس نواب الشعب) الذي يرأسه زعيمها راشد الغنوشي.
سنوات من الخسارة
وعملت الحركة، أو الحزب، لسنوات مع العلمانيين في الحكومات ودعمت حملات القمع ضد جماعات إسلامية تنتهج العنف مثل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في البلاد.
لكن النهضة أصبحت أضعف من أي وقت مضى منذ 2011 نتيجة الأزمة السياسية، وتخضع حالياً لتحقيق بخصوص مخالفات تتعلق بالتمويل في الانتخابات الأخيرة، وتنفي ارتكاب أي مخالفات.
ويرى مسؤولو الحزب أن خطر الأزمة يتحول إلى تهديد وجودي لحركة النهضة، إما من خلال الوصول إلى عصر جديد من الاستقطاب بين الإسلاميين والقوى الأخرى، أو من خلال حملة قمع إذا تحول سعيد إلى مسار سلطوي.
وسرعان ما رد الغنوشي ووصف تحركات سعيد بأنها انقلاب؛ وبذلك وضع نفسه في طليعة المعارضين للرئيس سعيد، وهو سياسي مستقل فاز في انتخابات 2019 بوعود بمكافحة الفساد والركود. لكن الغنوشي حث أيضاً أنصاره على التزام الهدوء وعدم الخروج إلى الشوارع.
وقالت مصادر عديدة مطلعة إن نقاشاً داخلياً حول أفضل السبل للتعامل مع الأزمة أثار خلافات غاضبة داخل حزب النهضة؛ مما أدى إلى تفاقم الانقسامات القائمة بالفعل بين مسؤولي الحزب حول استراتيجيته وقيادته.
وقال قيادي كبير في حزب النهضة لـ"رويترز"، مشترطاً عدم كشف هويته: "لا أحد يستطيع أن ينكر وجود خلافات واضحة وحادة أحياناً داخل النهضة.. الخلافات أكثر وضوحاً بعد الزلزال السياسي الأخير".
ورغم احتفاظه بقاعدة أنصار قوية من الموالين الذين خرجوا في مسيرة حاشدة في استعراض للقوة بتونس في فبراير/شباط، فقد ارتبط الحزب ارتباطاً وثيقاً بسنوات من الإخفاق الاقتصادي.
وأضر ذلك بشعبية حزب النهضة، إلى جانب دوره في السياسات الوطنية المتصدعة التي يقول العديد من التونسيين إنها نتاج سوء الحكم الذي أصاب البلاد بالشلل مع ارتفاع معدلات البطالة وتراجع الخدمات العامة.
ويوم الأحد، هاجم محتجون فروع حزب النهضة خلال المظاهرات المناهضة للحكومة على مستوى البلاد والتي دفعت سعيد إلى التحرك.
وقال سعيد إن استيلاءه على السلطة مشروع بموجب الدستور لتجنب الاضطراب الناجم عن جائحة كوفيد-19 والخلل السياسي، موضحاً أن البرلمان سيُجمد لمدة 30 يوماً فقط.
حوار أو مواجهة؟
دعا الغنوشي في البداية الناس إلى الخروج ضد سعيد، كما فعل المتظاهرون ضد زعيم سلطوي مخضرم عام 2011 وقاد اعتصاماً أمام مقر البرلمان قبل أن يتراجع ويحث على الهدوء والحوار.
وقال ماهر مذيوب، مساعد رئيس البرلمان راشد الغنوشي، وهو قيادي في النهضة: "هناك وعي داخل النهضة أنه يجب تجنب التصعيد. لا أحد يريد عنفاً وحرباً أهلية.. نرغب في الحفاظ على الهدوء في الديمقراطية التونسية".
وتشكلت حركة النهضة من خلال عقود من القمع قبل الانتفاضة التونسية، ثم أصبحت نموذجاً يحتذى به بعد الربيع العربي في مصر؛ حيث فاز الإخوان المسلمون في انتخابات حُرة عام 2012 لكن الجيش أطاح بهم بعد عام واستخدم العنف لقمعهم.
وأضاف مذيوب: "لا أحد يرغب أن يرى سيناريو رابعة يُعاد في تونس. لذلك التهدئة يجب أن تقود إلى استئناف المسار الديمقراطي بسرعة وأن يستمر قطار الديمقراطية مع جهود جماعية للتغلب على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"، في إشارة إلى ميدان رابعة بالقاهرة؛ حيث قُتل المئات من أنصار جماعة الإخوان المسلمين حين فضت قوات الأمن اعتصامهم في 2013.
ومع ذلك عارضت القرار شخصيات أخرى داخل حزب النهضة ترى أن التراجع سيسمح لسعيد بقمع الحركة بسهولة. وقال أحد المسؤولين إن تجنب المواجهة سيكون له ثمن "باهظ".
ويأتي ذلك بعد عامين من جدل داخلي حول الاستراتيجية جعل قيادة الغنوشي موضع شك. والغنوشي سجين سياسي سابق عاش في المنفى وقوبل بترحيب بالغ لدى عودته بعد الانتفاضة.
وخسر حزب النهضة أنصاره بشكل مطرد على مدى العقد الماضي؛ حيث كان يروج لموقف أيديولوجي معتدل ويدعم حكومات متعاقبة فرضت خفضاً في الإنفاق أضر بشدة بالمناطق الفقيرة؛ حيث كان الحزب يحظى بأقوى تأييد.
وتراجع نصيب الحزب من التصويت في الانتخابات المتتالية حتى عام 2019 عندما حصل على ربع المقاعد فقط في البرلمان رغم أن أداءه كان أفضل من منافسيه.
وفي انتخابات رئاسية أُجريت في وقت متزامن، خسر مرشح النهضة في الجولة الأولى وأيَّد الحزب سعيد في جولة الإعادة ضد قطب الإعلام نبيل القروي الذي واجه تهماً بالفساد.
ورغم تأييده الأولي لرئاسة سعيد، انضم الغنوشي لاحقاً لحزب القروي، قلب تونس، في دعم رئيس الوزراء هشام المشيشي في خلاف مع الرئيس.
وأثارت الاستراتيجية، التي تستهدف تعزيز نفوذ حزب النهضة في الحكومة، استياء بعض الأعضاء الأصغر سناً وأحدثت انقساماً في القيادة. ودعا 100 عضو بالحزب الغنوشي العام الماضي للتخلي عن نهجه التوافقي والالتزام بإصلاحات شاملة والتنحي في نهاية المطاف.