الانسحاب الأمريكي من العراق، الذي أعلن عنه مؤخراً، سيخلق حالة متوقعة من الفراغ في البلاد، فهل يؤدي هذا الفراغ إلى سيطرة إيران على العراق أم انبعاث جديد لداعش؟!
فخلال زيارة رئيس الوزراء العراقي البيت الأبيض لإجراء محادثات مع الرئيس جو بايدن، صدر إعلانٌ بأنّ كافة القوات القتالية الأمريكية المتبقية سوف ترحل عن العراق بحلول نهاية العام الجاري، ضمن "الحوار الاستراتيجي الأمريكي-العراقي" القائم.
إذ وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي، الإثنين 26 يوليو/تموز 2021، اتفاقاً يُنهي رسمياً المهمة القتالية الأمريكية في العراق بحلول نهاية 2021، بعد أكثر من 18 عاماً على دخول القوات الأمريكية البلاد.
مع قرار سحب آخر قوات أمريكية من أفغانستان بحلول نهاية أغسطس/آب، يضع الرئيس الديمقراطي نهاية للمهام القتالية الأمريكية في الحربين اللتين بدأهما الرئيس السابق جورج دبليو. بوش.
وأثار قرار بايدن بشأن الانسحاب الأمريكي من العراق تساؤلين مهمين: ما الفارق الذي سيتركه هذا القرار على الأرض؟ وهل سيفتح القرار الباب أمام عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؟، حسبما ورد في تقرير لشبكة BBC البريطانية.
كيف أجبرت إيران القوات الأمريكية على الرحيل؟
بعد 18 عاماً من غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة، لم يتبقَّ لأمريكا سوى 2.500 جندي فقط داخل العراق، بالإضافة إلى عددٍ صغير وغير مُعلن من القوات الخاصة التي كانت تُقاتل داعش.
وتتمركز هذه القوات داخل ثلاث قواعد عسكرية فقط، ولا تُمثّل سوى جزءٍ ضئيل من القوات التي بلغ قوامها 160 ألف جندي عند احتلال العراق عقب الغزو- ومع ذلك لا تزال تلك القوات الصغيرة تتعرض لهجمات الصواريخ والطائرات المسيرة من الميليشيات المدعومة من إيران.
وتتمحور وظيفة الجيش الأمريكي حول تدريب ومساعدة قوات الأمن العراقية التي لا تزال تُقاتل ضد جهاديي داعش بشكلٍ متفرق.
لكن وجود الجيش الأمريكي داخل البلاد ما زال أمراً مثيراً للجدل.
حيث يُريد الساسة والميليشيات المدعومة من إيران خروج الجيش الأمريكي، خاصةً عقب اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني مع زعيم بارز لإحدى الميليشيات العراقية الشيعية داخل مطار بغداد في يناير/كانون الثاني عام 2020.
حتى إنّ العراقيين المحايدين يرغبون في رؤية بلادهم تتخلص من القوات الأجنبية، لأنّ فكرة الاحتلال الأجنبي لا تزال مثيرةً للاحتقان.
وهذا أمرٌ يتوافق مع رغبات واشنطن، ولكن ليس لدرجة "تسليم العراق إلى الإيرانيين"، وهو ما قد يحدث بعد الانسحاب الأمريكي من العراق.
إذ تُحاول الولايات المتحدة منذ فترةٍ طويلة تخليص نفسها مما وصفه الرئيس بايدن بـ"الحروب التي لا تنتهي" داخل الشرق الأوسط. ومن هنا جاءت فكرة الانسحاب السريع للقوات الأمريكية من أفغانستان، بينما تُحوّل الولايات المتحدة والحلفاء الانتباه بشكلٍ متزايد صوب منطقة آسيا والمحيط الهادئ ومنطقة بحر الصين الجنوبي.
هل يمكن أن تعود داعش بعد الانسحاب الأمريكي من العراق؟
يقبع في خلفية الانسحاب الأمريكي من العراق شبح إعادة إحياء داعش واحتمالية أن يُعيد التاريخ نفسه.
ففي عام 2011، أعلن الرئيس باراك أوباما أنّ القوات الأمريكية سوف تنسحب من العراق.
ورغم أنّ عدداً صغيراً من القوات قد ظلّ هناك منذ ذلك الحين، فإنّ هذا الانسحاب- مضافاً إلى المزيج السياسي العراقي السام والحرب الأهلية المستعرة عبر الحدود في سوريا- قد فتح المجال المثالي أمام داعش للاستيلاء على الموصل قبل السيطرة في النهاية على منطقةٍ بحجم دولةٍ أوروبية.
فهل يُمكن أن يتكرّر ذلك الآن؟ وهل يمكن لداعش أن يكتسح من جديد الجيش العراق الذي قد يحرم من الدعم القتالي بعد الانسحاب الأمريكي من العراق.
والإجابة هي أنّها احتماليةٌ مستبعدة بعض الشيء، لعدة أسباب، حسب تقرير الشبكة البريطانية.
حيث استفاد تنظيم داعش حينها من السخط الشعبي الهائل الذي شعر به المسلمون السنة في العراق تجاه الحكومة الشيعية شديدة الطائفية لرئيس الوزراء نوري المالكي؛ إذ أدار البلاد بين عامي 2006 و2014، وحرم السنة من حقوقهم بشكلٍ ممنهج، ودفع بالكثيرين إلى أحضان داعش.
لكن المعادلة السياسية اليوم تلقى قبولاً أكبر بكثير بين الجماعات الإثنية المتنافسة، رغم أنّها تظل بعيدةً كل البعد عن المثالية.
فمنذ هزيمة داعش، أنفقت الولايات المتحدة وبريطانيا الكثير من الوقت والجهد في تدريب قوات مكافحة التمرد العراقية، ومن المتوقع أن يتواصل هذا التدريب بدعمٍ من حلف الناتو.
وثالثاً، نجد أنّ قيادة داعش الاستراتيجية- أو ما تبقى منها- تبدو أكثر تركيزاً على استغلال المناطق غير المحكومة في إفريقيا وأفغانستان، بدلاً من القتال ضد قواتٍ أمنية جيدة التسليح في قلب الدول العربية.
حيث قال بريغ بين باري، ضابط الجيش البريطاني السابق والمحلل الدفاعي الآن لدى مؤسسة International Institute for Strategic Studies "إنّ هجمات متمردي داعش تبدو قابلةً للاحتواء بواسطة القوات الحكومية العراقية. رغم أنّ الأسباب الجذرية للتمرد ستظل قائمةً في غياب التسوية السياسية مع العراقيين السنة".
وقد نجح تنظيم داعش في تنفيذ عمليةٍ خاطفة ناجحة بالمنطقة في صيف عام 2014، نظراً- جزئياً- لأنّ الغرب كان قد أبعد انتباهه عن العراق.
أمريكا قد تعود مجدداً في هذه الحالة
وبعدما استغرق تحالفٌ من 80 دولة نحو خمس سنوات، وأنفق مليارات الدولارات، من أجل هزيمة داعش. لا أحد يرغب الآن في العودة لخوض نفس التجربة مجدداً.
لذا فرغم الانسحاب الأمريكي، الذي سيشهد بقاء عددٍ قليل من القوات الأمريكية هناك، فإنّ الغرب سيراقب عن كثب ليرى إنّ كان تنظيم داعش أو غيره من الجماعات الجهادية سيبدأ في استخدام العراق كمنصة انطلاق لتنفيذ هجماتٍ عابرة للحدود- وخاصةً في الغرب.
حيث أوضح باري: "في حال رصدت الولايات المتحدة أنّ داعش في العراق يُحاول إعداد هجمةٍ ضد المصالح الأمريكية خارج العراق؛ فمن المحتمل أن تُهاجم واشنطن بشكلٍ أحادي". ويمتلك البنتاغون الوسائل اللازمة لفعل ذلك؛ بفضل الموارد الكبيرة المتوافرة عن قرب قبالة شواطئ الخليج.
وقال بايدن للصحفيين خلال اجتماعه مع الكاظمي: "سيكون دورنا في العراق؛ أن نكون هناك، أن نواصل التدريب، أن نعاون، أن نساعد وأن نتعامل مع داعش بينما تنهض، لكننا لن نكون، بحلول نهاية العام، في مهمة قتالية".
إيران يبدو أنها نجحت في لعبتها طويلة الأمد
نجد هنا أنّ الصورة الكبيرة بعيدة المدى تصب في صالح إيران، حسب تقرير لشبكة BBC
فمنذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 وإيران تحاول إجلاء القوات الأمريكية من الدول المجاورة، حتى تصير القوة الكبرى في المنطقة.
لكنها لم تنجح كثيراً في الدول الخليجية، حيث تنعدم الثقة في طهران وتتواجد القواعد العسكرية للجيش الأمريكي داخل الدول الست- ومنها المقر الرئيسي للأسطول الخامس الأمريكي النافذ في البحرين.
لكن إطاحة الولايات المتحدة بنظام صدام حسين في العراق عام 2003 قضت على أكبر عقبة في طريق التوسعات الإيرانية، ولم تُفوّت طهران الفرصة منذ ذلك الحين. حيث نجحت في زرع الميليشيات الشيعية داخل نسيج المؤسسة الأمنية العراقية، وصار لحلفائها صوتٌ قويٌّ داخل البرلمان.
كما فتحت الحرب الأهلية السورية الباب أمام التواجد العسكري الإيراني الكبير هناك، بينما صار حزب الله اللبناني الحليف لإيران أكبر قوةٍ فعّالة داخل بلاده.
وتلعب إيران هنا لعبةً طويلة؛ حيث يأمل قادتها في حال واصلت الضغط العلني والسري، أن تُحوّل في النهاية الشرق الأوسط إلى منطقةٍ لا تستحق من الولايات المتحدة مواصلة التدخل فيها عسكرياً.
ومن هنا تأتي الهجمات الصاروخية المتواصلة على القواعد الأمريكية، والدعم الإيراني للاحتجاجات المدنية التي تُطالب القوات الأمريكية بالرحيل.
وسيرى الكثيرون في طهران أنّ الاتفاق الذي سيُنهي العمليات القتالية الأمريكية داخل العراق سيُمثّل خطوةً في الاتجاه الصحيح.