تواصل حركة طالبان تقدمها على الأرض في أفغانستان بوتيرة متسارعة، وذلك بهدف إحكام سيطرتها على عموم البلاد بحدودها ومعابرها الاستراتيجية، الأمر الذي بات يتسبب في انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة من التحالف الدولي، في وقت أشرفت فيه عملية الانسحاب العسكري الأمريكي من هذا البلد على نهايتها، بعد 20 عاماً من الغزو والقتال.
والآن، يبدو أن حركة طالبان التي ظلت واشنطن تحاربها طوال عقدين واتهمتها بإيواء أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، وكانت منبوذة من المجتمع الدولي، إلا باكستان، ستعود لتحكم أفغانستان مرة أخرى، وبالتالي يبدو أنه لا خيار للعالم إلا بالتعامل مع طالبان من الآن فصاعداً، وذلك في ظل انهيار الحكومة المركزية وجيشها بعد رحيل الأمريكيين تحت أستار الليل.
طالبان.. من الحكم إلى حرب العصابات إلى الحكم مجدداً
حكمت حركة طالبان أفغانستان أو أجزاء كبيرة منها بين عامي 1996-2001، وقد أعلنت قيام "الإمارة الإسلامية في أفغانستان"، وذلك بعد أن سيطرت على عدد من الولايات الأفغانية، وطورت أهدافها لتصبح "إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة" في مقدمة أهدافها عام 1996.
فبعد دحر الاحتلال السوفييتي عام 1992، تردت الأوضاع في أفغانستان وشاع قانون الغاب بين القوى الأفغانية المتناحرة. وفي عام 1994 نشأت الحركة الإسلامية لطلبة المدارس الدينية، المعروفة باسم طالبان (جمع كلمة طالب في لغة البشتو) على يد الملا محمد عمر، في ولاية قندهار جنوب غرب أفغانستان على الحدود مع باكستان، وهي حركة إسلامية سنية تعتنق المذهب الحنفي، وينتمي معظم أفرادها إلى قومية البشتو.
ومن بين أهداف الحركة التي نشأت عليها "أن يكون الإسلام دين الشعب والحكومة جميعاً، وتكون الشريعة الإسلامية مصدر القانون، وحفظ أهل الذمة والمستأمنين وصيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ورعاية حقوقهم المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية، وتحسين العلاقات السياسية مع جميع الدول الإسلامية وفق القواعد الشرعية، وتعيين هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع أنحاء الدولة".
وغداة سيطرتها على البلاد وسقوط العاصمة كابول في يد الحركة بعد انسحاب القوات الحكومية إلى الشمال، في 27 سبتمبر/أيلول 1996، أعلنت طالبان أنها تسعى لاستعادة الأمن والاستقرار وجمع الأسلحة من جميع الأطراف، وإزالة مراكز جمع الإتاوات من الطرق العامة التي "سلبت الناس أموالهم وانتهكت أعراضهم".
وفي مايو/أيار 1997، اعترفت باكستان بحكومة طالبان، ثم تلتها السعودية والإمارات العربية المتحدة. وقد استطاعت الحركة في عام 2000 بسط نفوذها على قرابة 90% من الأراضي الأفغانية.
لم يلبث حكم حركة طالبان لأفغانستان طويلاً حتى وقعت تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001، في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت مرحلة فاصلة في تاريخ الحركة، حيث اتهمت واشنطن تنظيم القاعدة وزعيمها المقيم في أفغانستان أسامة بن لادن بارتكابها، فيما اعتبرت إدارة جورج بوش الابن حركة طالبان هدفاً لها، وقررت غزو أفغانستان في أكتوبر/تشرين الأول عام 2001، الأمر الذي أدى في النهاية لإسقاط حكم طالبان.
ظلت الحركة بعد انهيار حكمها في حالة من المقاومة للغزو الأمريكي والكر والفر، وانتقلت من حكم البلاد إلى حرب العصابات، التي كبّدت التحالف الغربي هزائم مريرة، ورغم كل ذلك لم يدرج البيت الأبيض الحركة على قوائم "الإرهاب".
الانفتاح على حركة طالبان خلال الغزو الأمريكي
بعد 9 سنوات من المعارك العنيفة والخسائر العديدة التي تكبدتها القوات الأجنبية في أفغانستان، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بتغيير قناعاتهم في الحرب على حركة طالبان عام 2010، وبدأت بعض القيادات الغربية في التحالف بالاعتقاد أن الحل العسكري لن يحسم المعركة في تلك البلاد، ولا بد من حل سياسي. وفي مطلع عام 2012، عُقدت آمال كبيرة على إجراء محادثات سلام بين طالبان وواشنطن، لكن الحركة علقت في مارس/آذار من العام نفسه مفاوضات السلام التمهيدية مع الولايات المتحدة.
لكن المحاولات بالتفاوض لم تنقطع، حيث سمحت دولة قطر بأن تفتح الحركة في في يونيو/حزيران 2013 بالدوحة مكتب اتصال لها، وأكدت أن فتح المكتب جاء تمهيداً لإيجاد حل للنزاع في أفغانستان، فيما اعتبرت واشنطن ذلك "خطوة أولى مهمة نحو تسوية سياسية في أفغانستان".
وتوصلت واشنطن وحركة طالبان في نهاية مايو/أيار 2014، بوساطة قطرية، إلى صفقة جرى بموجبها إفراج الحركة عن جندي أمريكي كان أسيراً لديها لخمس سنوات، مقابل إطلاق خمسة من قادتها الذين كانوا معتقلين في سجن غوانتانامو سيئ السمعة.
وفي أواخر ديسمبر/كانون الأول 2014، وصفت الحركة انتهاء المهمة القتالية لحلف شمال الأطلسي "الناتو" في أفغانستان بـ"الهزيمة"، بعد بقائها في أفغانستان 13 عاماً، واتهمت الناتو بجر البلاد إلى ما وصفته بـ"حمام دم".
وفي موقف أثار اعتراض الجمهوريين، رفض البيت الأبيض في نهاية يناير/كانون الثاني 2015، تصنيف حركة طالبان تنظيماً "إرهابياً"، وظل يعلق آمالاً على إنهاء الحرب والتوصل إلى تسوية سياسية مع طالبان، التي كانت على الدوام ترفض التراجع أو التنازل في مواقفها. فيما بدأت الحركة بتجديد بيتها من الداخل بعد وفاة مؤسسها الملا عمر، حيث انتخب مجلس شورى طالبان بالإجماع في 29 يوليو/تموز 2015، الملا أختر منصور زعيماً جديداً للحركة.
في النهاية، توصلت الولايات المتحدة إبان فترة حكم دونالد ترامب، إلى اتفاق مع حركة طالبان في فبراير/شباط 2020 بالعاصمة القطرية الدوحة، يمهد الطريق نحو انسحاب كامل للقوات الأجنبية من أفغانستان في غضون 14 شهراً، لكن بعد وصوله لسدة الحكم، قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن تأجيل انسحاب قوات بلاده المتبقية من أفغانستان إلى شهر سبتمبر/أيلول 2021.
ولكن مع ذلك، كان الزخم على الأرض مع حركة طالبان وليس مع الأمريكيين وحلفائهم، لذلك قرر الأمريكيون تقديم الانسحاب بشكل تدريجي وصل ذروته في يوليو/تموز 2021، تاركين خلفهم حكومة أشرف عبدالغني ضعيفة وهشة، تتعرض كل يوم لخسائر كبيرة أمام ضربات طالبان، التي تقول تقارير إنها باتت تسيطر على نحو 85% من مساحة البلاد.
العالم يعود للتعامل مع طالبان مجدداً بعد نبذها 20 عاماً
لا تنظر حركة طالبان إلى نفسها باعتبارها مجموعة متمردة، بل ترى نفسها على أنها حكومة تنتظر دورها لممارسة السلطة. وتشير الحركة إلى نفسها على أنها "إمارة أفغانستان الإسلامية"، وهو الاسم الذي كانت تطلقه على حكومتها التي أدارت شؤون البلاد من عام 1996 حتى الإطاحة بها عقب هجمات سبتمبر/أيلول 2001. وتمتلك الحركة اليوم هيكل "ظِل" متطور، بما فيه مسؤولون يديرون الخدمات الأساسية في مناطق عديدة خاضعة لسيطرتها، وهي تتجهز خلال الأشهر القادم للعودة إلى حكم البلاد معتمدة على قوتها ونفوذها الكبيرين.
هذه القوة التي تستند عليها طالبان والتي اكتسبتها بقوة السلاح والندية في التفاوض مع الأمريكيين، باتت تفرض على العديد من القوى الكبرى والدول المحيطة الفاعلة في الشأن الأفغاني التعامل من طالبان مجدداً، كإيران وروسيا والصين وباكستان وغيرها من الدول.
وزارت وفود من قيادة حركة طالبان خلال الفترة الماضية بعض العواصم الفاعلة في الملف الأفغاني، لطمأنتها على ما هو مقبل بعد الانسحاب الأمريكي، حيث اجتمع وفد رفيع المستوى من طالبان في فبراير/شباط الماضي مع الحكومة الإيرانية في العاصمة طهران، التي سيطرت الحركة على بعض المعابر الحدودية معها مؤخراً.
فيما استقبلت باكستان أكثر من مرة، خلال الأشهر الماضية، وفوداً رفيعة من حركة طالبان، حيث كان على رأس المستقبلين لقيادة طالبان رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، ووزير خارجيته شاه محمود قريشي. حيث ناقشت الحركة مع القيادة الباكستانية عملية السلام الأفغانية وعودة اللاجئين الأفغان والمشاكل التي يواجهها التجار الأفغان في التجارة الحدودية مع باكستان.
كما زارت قيادة الحركة مطلع الشهر الجاري العاصمة الروسية موسكو، في زيارة هي الأولى منها نوعها، لإجراء مباحثات حول تطورات الأوضاع في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، حيث أكد الوفد من موسكو أن "الحركة تجري مفاوضات مع ممثلي المجتمع الأفغاني لتحديد الهيكل العام للدولة". فيما قالت الحركة إنها ناقشت مع الجانب الروسي قضية رفع العقوبات عنها.
وسعت طالبان لطمأنة الروس حول نشاطها المتسارع في أفغانستان، وتعهد وفد طالبان "بعدم انتهاك حدود دول آسيا الوسطى، وضمان أمن البعثات الدبلوماسية في أفغانستان، ودعم مساعي السلام عن طريق المفاوضات، واحترام حقوق الإنسان في البلاد".
كما أكد الوفد على "عزم الحركة مكافحة تنظيم داعش الإرهابي في أفغانستان، والقضاء على إنتاج المخدرات بالبلاد بعد انتهاء الصراعات الداخلية"، في رسالة طمأنة إلى العواصم الغربية والمجتمع الدولي، الذي لا يزال حتى اللحظة يرفض التعامل مع طالبان، ولكن يبدو أنه سيكون مجبراً في النهاية خلال الأشهر القادمة على التعامل مع الطرف الأقوى في المعادلة الأفغانية بأي شكل من الأشكال.