بات إجراء الانتخابات في ليبيا في موعدها المقرر نهاية العام الجاري محل شكوك عميقة، في ظل فشل ملتقى الحوار في التوصل إلى القواعد الدستورية الحاكمة لإجراء الانتخابات، فما قصة العقبات ومن الطرف المسؤول عنها؟
قبل الدخول إلى تفاصيل تلك العقبات، من المهم العودة لنقطة البداية في المرحلة الحالية وهي بداية عمل ملتقى الحوار الليبي برعاية الأمم المتحدة وما تم الاتفاق عليه على الورق، مقارنة بما يتم تنفيذه فعلياً على الأرض حتى تتضح الصورة.
فقد تزامن حلول الذكرى العاشرة للثورة في ليبيا هذا العام مع اختيار سلطة انتقالية موحدة تقود البلاد إلى إجراء انتخابات جديدة، في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وتم اختيار محمد يونس المنفي، وهو دبلوماسي ليبي لرئاسة المجلس الرئاسي، ورجل الأعمال عبدالحميد محمد الدبيبة لمنصب رئيس الوزراء، ووافقت جميع الأطراف الداخلية والخارجية على هذا المسار السياسي الذي رعته الأمم المتحدة، وتولى المنفي والدبيبة المسؤولية رسمياً منذ مارس/آذار الماضي.
سلطة موحدة في ليبيا.. ولكن
كانت المفاوضات السياسية برعاية الأمم المتحدة قد بدأت منذ اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبدا أن غالبية الأطراف قد اقتنعت أخيراً بأن مسار الحرب لن يؤدي إلى تحقيق أي نتيجة لصالح أي من تلك الأطراف، وهكذا صمد وقف إطلاق النار، باستثناء خروقات متناثرة من وقت لآخر من جانب خليفة حفتر، في محاولة منه لتذكير الجميع بقدرته على إفشال الجهود السياسية مرة أخرى.
ولتفويت الفرصة على الجنرال المتقاعد لإفساد الاتفاق السياسي، اتفقت الأطراف على أن يتولى المجلس الرئاسي منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة في ليبيا بينما يتولى الدبيبة منصب وزير الدفاع، لكن حفتر لا يزال مصمماً على عدم الانصياع لأي منهما رغم اعترافه الشكلي بسلطتهما.
وكان من المفترض أن تشهد بداية يوليو/تموز الجاري اتفاق أعضاء ملتقى الحوار الليبي برعاية البعثة الأممية على القواعد الدستورية الحاكمة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة نهاية العام الجاري، لكن ذلك لم يحدث.
إذ مرّ الأول من يوليو/تموز دون أن يتمكن ملتقى الحوار الليبي من إنهاء القاعدة الدستورية، ولم ينجز مجلس النواب قوانين الانتخابات المطلوبة، وهي مؤشرات سلبية على صعوبة إجراء الانتخابات في موعدها، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وكانت مفوضية الانتخابات قد حددت يوم 1 يوليو/تموز، آخر أجل لتسلم القاعدة الدستورية وقوانين الانتخابات، للشروع في التحضير للاقتراع البرلماني والرئاسي وإجرائه في موعده المحدد في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
ووصلت مشاورات ملتقى الحوار السياسي المنعقد في جنيف السويسرية إلى طريق مسدود، بسبب عدة ملفات على رأسها شروط الترشح لرئاسة الجمهورية. حيث يحاول أنصار حفتر الضغط على أعضاء الملتقى لتخفيف شروط الترشح للعسكريين ومزدوجي الجنسية؛ بما يسمح للأخير بدخول الانتخابات الرئاسية دون التنازل عن جنسيته الأمريكية ولا عن صفته العسكرية.
حفتر الطامح للرئاسة.. بشروطه الخاصة!
وانطلقت أشغال ملتقى الحوار في 28 يونيو/حزيران وكان من المقرر أن تختتم في 1 يوليو/تموز الجاري، ليتم تمديدها يوماً آخر بسبب احتدام الخلافات وإصرار المبعوث الأممي يان كوبيتش على عدم مغادرة أعضاء الملتقى جنيف قبل الاتفاق على قاعدة دستورية، لكن دون جدوى.
فعدم حسم الخلافات المتعلقة بالقاعدة الدستورية يعني فشل البعثة الأممية ومؤتمر برلين، في تحقيق أهم بُند راهن عليه المجتمع الدولي لإنهاء 10 سنوات من المراحل الانتقالية، ألا وهو إجراء الانتخابات في تاريخها المحدد.
ولم تغن اللجنة الاستشارية التي اجتمعت في تونس في تسهيل توصل ملتقى الحوار لاتفاق بشأن النقاط الخلافية، بل بدأ الحديث ولو بصوت خافت عن تأجيل الانتخابات لما بعد 24 ديسمبر/كانون الأول، الأمر الذي تعارضه أغلب الأطراف الليبية.
ما دفع علي الدبيبة، عضو ملتقى الحوار، لدعوة المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته تجاه من يحاول عرقلة الانتخابات، مشيراً إلى أن البرلمان يتعمد تعطيل اعتماد الميزانية ومنع العمل في مدينة بنغازي (شرق).
وفي ظل هذا الانسداد، لجأت البعثة الأممية، مساء الأربعاء 30 يونيو/حزيران، إلى اقتراح تشكيل "فريق مصغر"، لمساعدة الملتقى "للتوصل إلى حل وسط، من خلال استعراض مختلف المقترحات، ومحاولة التوفيق بين النقاط الخلافية العالقة، وإنهاء الجدل".
ومساء الخميس، تم انتخاب 13 عضواً ليشكلوا "الفريق المصغر"، أبرزهم عبدالرحمن السويحلي (رئيس المجلس الأعلى للدولة سابقاً) عن مدينة مصراتة (غرب)، والنائب زياد دغيم، المحسوب على معسكر حفتر (شرق).
وكان واضحاُ أن مهمة لجنة التوافقات ستكون صعبة، خاصة أن اللجنة الاستشارية المنبثقة عن ملتقى الحوار، والتي عقدت اجتماعها في تونس، ما بين 24 و26 يونيو/حزيران، توافق على مقترح لحسم نقاط الخلاف الرئيسية، بعد أن تمت مناقشة 5 مقترحات تقدم بها الأعضاء الـ19 (تغيب منهم عضو).
غير أن مقترح القاعدة الدستورية الذي خرجت به اللجنة الاستشارية يختلف عن ذلك الذي تقدمت به اللجنة القانونية، في مايو/أيار الماضي، ما دفع 16 عضواً من ملتقى الحوار لمراسلة البعثة الأممية وانتقاد تجاهلها "التوافقات والجهد المبذول في مقترح اللجنة القانونية".
وخرجت لجنة التوافقات (اللجنة المصغرة الثالثة لاجتماع ملتقى الحوار) باللجوء إلى الانتخاب بدل التوافق ولكن بنسبة 75%، وحصرت الخلافات في 3 مقترحات:
المقترح الأول لأنصار حفتر، وينص على انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة (في 24 ديسمبر/كانون الأول) دون قيود للترشح (بما يسمح لحفتر وسيف الإسلام القذافي بالترشح)، وفق قاعدة دستورية مؤقتة.
والمقترح الثاني يطالب بانتخابات برلمانية (في 24 ديسمبر/كانون الأول)، على أن يتم الاستفتاء على الدستور بعدها ثم تجرى الانتخابات الرئاسية على أساس الدستور الجديد.
المقترح الثالث: يدعو إلى تنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية (في 24 ديسمبر/كانون الأول) بعد الاستفتاء على مشروع الدستور، وهو ما يطالب به المجلس الأعلى للدولة.
وتعتقد وسائل إعلام محلية أن البعثة الأممية لجأت إلى مقترح جديد للقاعدة الدستورية بعد رفض رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، لمقترح اللجنة القانونية، ما يعكس حجم الضغوطات والتجاذبات بين أطراف عديدة، حتى خارج ملتقى الحوار نفسه.
محاولات للتوافق دون جدوى
ولجأت البعثة الأممية إلى تشكيل لجنة ثالثة (لجنة التوافقات) بعد أن فجر مقترح اللجنة الاستشارية الخلافات داخل ملتقى الحوار بدلاً من أن يقرب وجهات النظر.
وبالتدقيق مع بنود المسودة التي توافقت عليها اللجنة الاستشارية، يتبين أنها فصلت على مقاس حفتر، بما يتيح له الترشح للرئاسيات، مع تغليفها بديباجة عامة وغامضة لإعطاء انطباع بأنها توافقية.
إذ اشترطت مسودة اللجنة الاستشارية في المترشح للرئاسة "ألا يكون حاملاً لجنسية أخرى"، لكنها أضافت بنداً غامضاً ومرسلاً.. "ما لم يكن مأذوناً له بذلك، وفقاً للقوانين والقرارات ذات العلاقة الصادرة عن الحكومات المتعاقبة". وهذه الإضافة من الممكن أن تكون المنفذ الذي يسمح لحفتر بالترشح دون التنازل عن جنسيته الأمريكية بعد أخذ "إذن" من جهة غير محددة.
النقطة الثانية، التي توافقت عليها اللجنة الاستشارية واختلف بشأنها أعضاء ملتقى الحوار، تتمثل في عدم اشتراط استقالة المرشح للرئاسة من المؤسسة العسكرية بفترة معينة. ونص المقترح أنه "يعتبر مستقيلاً من مهمته العسكرية في المؤسسة العسكرية كل من يفوز في الانتخابات من المرشحين المنتمين لها". أي أن هذا النص يتيح لحفتر الترشح للرئاسة دون نزع قبعته العسكرية إلا في حالة فوزه في الانتخابات.
وهذا ما دفع نزار كعوان، عضو ملتقى الحوار، القيادي في حركة العدالة والبناء (إسلامي) للتعليق، بأنه "علينا أن ندشن قاعدة دستورية عامة مجردة وليست مفصلة على أشخاص وتستهدف آخرين".
هل تنحاز البعثة الأممية لحفتر؟
وفي اتهام ضمني للبعثة الأممية في الضغط على أعضاء الحوار للتوصل إلى هذا التوافق، قال كعوان، بحسب ما نقلت عنه قناة "ليبيا بانوراما": "هناك من يريد الوصاية على الشعب بحجج مختلفة كالمخاوف أو المصالح، ونحن جئنا لمعالجة هذه المخاوف. إلا أن خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري)، كان صريحاً عندما اتهم البعثة الأممية بانتهاج (سياسة التحيز لحفتر)".
فبعد أن تأكد فشل ملتقى الحوار في جنيف، توالت ردود فعل غاضبة من قبل عدة أطراف سياسية، في وقت يخشى فيه الليبيون، من أن يؤدي انهيار العملية السياسية، إلى عودة الحرب والفوضى للبلاد، ونسب خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى الليبي، فشل الحوار في الوصول إلى قاعدة دستورية للانتخابات، إلى أطراف قال إنها تريد الحكم بالقوة، ومحاولتها فرض انتخابات دون شروط محددة للترشح، بحسب تقرير لبي بي سي.
كما تحفظ المشاركون في الملتقى العسكري الأول في طرابلس على "أي مخرجات قد تُنتج قاعدة دستورية مشوهة من ملتقى الحوار المنعقد في جنيف". وطالب الملتقى في بيانه الختامي بضرورة "البدء في توحيد المؤسسة العسكرية، قبل إجراء الانتخابات لضمان نجاحها".
فترشح شخصيات جدلية مثل حفتر أو سيف الإسلام القذافي، واحتمال فوز أحدهما في الانتخابات بشكل أو بآخر، من شأنه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، خاصة أن المشري، سبق أن حذر من أن "عدم خضوع حفتر لأي سلطة، يهدد إمكانية إجراء الانتخابات".
من جانب آخر، تم حسم الخلاف بشأن آلية انتخاب الرئيس على مستوى اللجنة الاستشارية لصالح الانتخاب الحر والمباشر والمتزامن مع الانتخابات البرلمانية، بعد أن كان هناك مقترح ثان للجنة القانونية يدعو لانتخاب الرئيس بشكل غير مباشر عن طريق البرلمان المقبل، تم إسقاطه في اجتماع اللجنتين الاستشارية والتوافقية.
وافتراق أعضاء ملتقى الحوار في جنيف دون حسم القاعدة الدستورية، ووضع اشتراطات "شبه مستحيلة" للتوافق بنسبة 75%، في ظل الانقسام الحاد بين أكثر من فريق في الملتقى، يجعل من موعد 24 ديسمبر/كانون الأول أقرب للفرصة الضائعة، لتصبح ليبيا أقرب إلى مرحلة انتقالية جديدة.