أظهر القصف الأمريكي للميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا أن واشنطن تدور في حلقة مفرغة في نزاعها مع إيران ووجودها في الشرق الأوسط برمته.
وجاء القصف رداً على إطلاق تلك الميليشيات طائراتها المسيّرة المسلحة ضد القوات الأمريكية في العراق، وذلك للرد على هجومٍ أمريكي وقع في فبراير/شباط، والذي كان في الأصل رداً على هجومٍ من الميليشيات قبلها بأيام.
وكان الجيش الأمريكي قال، في بيان الأحد 27 يونيو/حزيران، إنه استهدف مرافق تشغيل وتخزين أسلحة في موقعين في سوريا وموقع في العراق، دون الإفصاح عما إذا كانت الهجمات قد أسفرت عن سقوط قتلى أو جرحى.
مأزق بايدن
وقد برّر المتحدث باسم البنتاغون آخر عمليات القصف الأمريكية بأنّها "فعلٌ ضروري، ومناسب، ومُتعمّد بهدف الحد من خطر التصعيد- إلى جانب أنّها تبعث برسالة ردعٍ واضحة ولا لبس فيها".
وجد الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه في مأزق. فمن الواضح أنّه لا يرغب في تعميق المشاركة العسكرية الأمريكية في المنطقة (ويتبيّن ذلك في أوامره لسحب القوات بالكامل من أفغانستان)، حسبما ورد في تقرير لمجلة Slate الأمريكية.
الهجمات جاءت بناء على توجيهات من الرئيس جو بايدن لتصبح ثاني مرة يأمر فيها بايدن بشن هجمات- يصفها الأمريكيون بأنها "انتقامية"- ضد فصائل مسلحة مدعومة من إيران منذ توليه السلطة قبل خمسة أشهر؛ أي في فبراير/شباط 2021.
أسباب القصف الأمريكي للميليشيات الموالية لإيران
وسواءً في حالة القصف الأمريكي للميليشيات الموالية لإيران، في فبراير/شباط أو القصف الأخير، فلقد اختار بايدن أصغر الخيارات الهجومية الموصى بها من هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي في إحاطتها. وبعد الهجوم الأوّل، بعث بايدن برسالة إلى قادة إيران أخبرهم فيها بأنّه لا يسعى إلى صراعٍ أوسع، ولكن عليهم أن يفرضوا سيطرتهم بشكلٍ أكبر على ميليشياتهم في العراق.
وقال مسؤولان أمريكيان، تحدثا لرويترز شريطة عدم الكشف عن هويتهما، إن الفصائل المدعومة من إيران شنت ما لا يقل عن خمس هجمات بطائرات مسيرة على منشآت يستخدمها عسكريون أمريكيون ومن قوات التحالف في العراق منذ أبريل/نيسان.
وقال البنتاغون إن المنشآت المستهدفة كانت تستخدمها فصائل مسلحة مدعومة من إيران من بينها كتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء. وقال مسؤول دفاعي إن إحدى المنشآت المستهدفة استخدمت لإطلاق الطائرات المسيرة واستعادتها.
"الحلقة المفرغة".. القوات الأمريكية في الخارج سلاح ذو حدين
تثبت هذه الأحداث أن تواجد القوات الأمريكية في الخارج هو سيفٌ ذو حدين لواشنطن: حيث يردع العدوان ضد حلفاء أمريكا أو الدول التابعة لها، لكن تلك القوات قد تمثل أهدافاً وفرصاً مغرية داخل الدول التي لا تزال تشهد صراعاً محتدماً- سواءً لإبراز صورة إحدى الميليشيات، أو لزيادة الضغط بدرجةٍ تعتقد الميليشيات أن أمريكا لن تتحملها، أو لإشاعة الفوضى ببساطة لأنّ النظام لا يصب في مصلحة الميليشيات.
وفي كل مناسبة، ينجر الرئيس الأمريكي حتى وإن كانت هذه هي آخر رغباته. ولهذا تواصل مثل هذه الأمور الحدوث، حتى في عهد رؤساء مختلفين تماماً.
وبالعودة إلى البيان الصحفي للبنتاغون: كانت عمليات القصف الأمريكية "فعلاً ضرورياً، ومناسباً، ومُتعمّداً"، حسب وصف المجلة الأمريكية، غير أنها تستدرك قائلة: "لكن لا يجب أن نخدع أنفسنا بأنّ هذه الهجمات "ستحد من خطر التصعيد أو تبعث برسالة ردع واضحة لا لبس فيها" إلى الإيرانيين والميليشيات- التي هدّدت فعلياً بـ"الحرب المفتوحة" ضد الولايات المتحدة. لدرجة أنّه حتى الحكومة العراقية، التي تحميها القوات الأمريكية، أدانت عمليات القصف الجوي لإدارة بايدن باعتبارها انتهاكاً للسيادة.
صدمة الطائرات المسيرة
كما تقدم هذه الجولة الأخيرة درساً آخر؛ وهو أنّ الميليشيات الإيرانية تمتلك الآن على ما يبدو طائرات مسيرة. فحين اخترعت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السلاح العجيب الجديد عام 2001، واستخدمته بفاعلية من أجل الإطاحة بحركة طالبان من السلطة في أفغانستان؛ اعتقد الكثيرون أنّ لا أحد سيتمكن من تسخير التقنية اللازمة لصنع هذه الأسلحة المرتبطة بالحرب عن بُعد قبل وقتٍ طويل- وخاصةً الميليشيات. لكن ها نحن اليوم أمام واقعٍ جديد.
إذ باتت الطائرات المسيرة أداة عسكرية مفضلة للميليشيات في العديد من مناطق الشرق الأوسط.
وفي النهاية، ربما تحمل هجمات "الصاع بالصاع" الانتقامية هذه عواقبها الأوسع خلال الأسابيع والشهور المقبلة.
كيف سيؤثر ذلك على المفاوضات النووية؟
وبات السؤال الذي يطرحه القصف الأمريكي للميليشيات الموالية لإيران، هل يؤثر على المفاوضات بشأن إحياء الاتفاق النووي؟
إذ يحاول بايدن إعادة الاتفاق النووي الذي وقعه أوباما عام 2015، قبل أن يُلغيه ترامب بعد ثلاث سنوات.
الضربة العسكرية الأولى التي أمر بها بايدن في فبراير/شباط واستهدفت فصائل عراقية مدعومة من إيران لم تؤدّ إلى مزيد من التصعيد، بل شهدت عقبها المفاوضات النووية تقدماً لافتاً.
ولكن هناك تطور جديد، ففي وقتٍ مبكر من الشهر رغم ذلك، ومع تقدم المفاوضات وتعثرها في فيينا؛ انتخبت إيران رئيسها المتشدد إبراهيم رئيسي ليحل محل الرئيس حسن روحاني الأكثر اعتدالاً في أكتوبر/تشرين الأول.
السؤال الأهم هل سيسهل القصف الأمريكي للميليشيات الموالية لإيران عملية إقناع نقاد بايدن -خاصةً داخل الكونغرس- بأن إعادة إحياء الصفقة لن تعني تساهله مع الممارسات الإيرانية في المنطقة، أم ستزيد الضربات الجوية المتبادلة من الجانبين إصرار النقاد في الكونغرس على أنّ أي اتفاقٍ جديد حول البنية التحتية النووية الإيرانية يجب أن يتضمن فرض القيود على الصواريخ الباليستية ودعم الجماعات الإرهابية- وهو الشرط الذين قال زعماء إيران إنّهم لن يقبلوا به؟
هل أرادت الميليشيات تعطيل الدبلوماسية؟
ليس من الواضح الآن إنّ كانت الدبلوماسية المزدوجة لا تزال ممكنة بين الولايات المتحدة وإيران. كما أنه ليس من الواضح ما إن كانت الميليشيات قد شنّت هجماتها جزئياً بهدف تعطيل آفاق الدبلوماسية- لإبقاء التوترات مع الولايات المتحدة في أعلى مستوياتها وتبرير قمع طهران للمنتقدين في الداخل- أم أنّ التوترات الراهنة قد تصاعدت الآن على سبيل المصادفة. وربما تكون تأثيرات هذه الهجمات واحدةً حتى الآن بغض النظر عن النوايا.
فخلال الأشهر الأخيرة من رئاسة ترامب، بدأت إيران تتجاوز حدود تخصيب اليورانيوم المسموحة- ولكن بعد عامٍ كامل من خرق ترامب للمعاهدة بالكامل عن طريق إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران. وفي الأشهر الأولى من رئاسة بايدن، أهدر البلدان الكثير من الوقت الثمين في الجدال حول هوية الطرف الذي سيتخذ الخطوة الأولى في تهدئة هذه التوترات- هل يجب أن تقلل إيران معدلات التخصيب قبل أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات، أم العكس؟
والوقت ينفد من الجانبين- ومن الأطراف الأوروبية التي وقعت على المعاهدة وتُدير محادثات فيينا الآن، كما أنّ عمليات القصف تزيد ضرورة التوصل إلى تسوية، وتجعل منها أمراً مستبعداً في الوقت ذاته.
والسؤال الآن هو ما إذا كان الجانبان يرغبان فعلياً في إعادة إحياء الاتفاق النووي، لأنّه يجب في هذه الحالة على الدبلوماسيين أن يزيدوا من تركيزهم وسرعة عملهم.