البداية كانت من حي الشيخ جراح ومقاومة خطط إسرائيل تهويد القدس وتهجير الفلسطينيين من بيوتهم، عندما احتدمت معركة الرواية والتوثيق عبر الإنترنت، وهكذا عادت رموز تاريخية للبروز جنباً إلى جنب مع رموز أحدث.
كانت محاولات الاحتلال تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة الشرارة التي أشعلت حريق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. تلك الحرب التي حققت فيها فصائل المقاومة انتصاراً أحدث زلزالاً سياسياً في الشرق الأوسط وصولاً إلى البيت الأبيض.
وعبر الفضاء الإلكتروني كانت "معركة الرواية" ولا تزال محتدمة وأظهر الفلسطينيون والمتعاطفين معهم صلابة ضخمة في مواجهة انحياز شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها للرواية الإسرائيلية والتعتيم على المحتوى الفلسطيني.
وفي هذا السياق، نشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً بعنوان "من الصور الساخرة إلى النكات.. طرق يقاوم بها الفلسطينيون الاحتلال على الإنترنت"، تناول تلك الرموز وكيف أصبحت تتصدر المعركة.
العلم الفلسطيني
فمنذ أن هدَّدَت إسرائيل بطرد الفلسطينيين قسراً من منازلهم بالشيخ جرَّاح وسلوان في القدس الشهر الماضي، مايو/أيَّار، ما أشعل موجةً من الاحتجاجات التي أعقبها انتقامٌ عنيف من قِبَلِ القوات الإسرائيلية والمستوطنين المُسلَّحين، لجأ الفلسطينيون إلى وسائل التواصل الاجتماعي لمكافحة الاحتلال.
وكانت هناك حملاتٌ تقليدية متواصلة عبر الإنترنت لتوعية الجمهور غير الفلسطيني بالأحداث فور حدوثها، بقيادة مجموعات مناصرة فلسطين، مثل "الشبكة"، و"الصوت اليهودي من أجل السلام"، ومعهد التفاهم في الشرق الأوسط. وكانت الحملات على الإنترنت تهدف أيضاً إلى التوعية بتاريخ فلسطين. لكن عالم الإنترنت شهد أيضاً ابتكار الفلسطينيين وأولئك الذين يدعمونهم لطرقٍ جديدة للدفاع عن التحرير الفلسطيني، بما في ذلك الرموز المرئية والميمات والنكات والمحاكاة الساخرة.
في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، غالباً ما كان الفلسطينيون يتطلَّعون إلى الماضي للحصول على الإلهام. ولطالما كان البطيخ رمزاً للمقاومة الفلسطينية، كما هو الحال بالنسبة للمفتاح، الذي يرمز إلى حقِّ العودة للاجئين الفلسطينيين. ووُلِدَت رموزٌ أخرى أيضاً، خاصةً في الآونة الأخيرة، في مساحاتٍ رقمية، من منطلق النقاش والمحادثات، ولكن غالباً ما كانت مرتبطةً بالماضي.
تظهر رموزٌ جديدة بشكلٍ يومي على وسائل التواصل الاجتماعي للتكيُّف مع الواقع المتغيِّر على الأرض، إذ تلقَّت العائلات الفلسطينية مؤخَّراً إخطاراتٍ بهدم منازلهم في أحياء القدس، وتعرَّضَ متظاهرون فلسطينيون لهجماتٍ من جانب الجيش الإسرائيلي، وتكافح غزة، التي عانت 11 يوماً من القصف الإسرائيلي، من أجل إعادة البناء.
وقد تنتشر بعض هذه الرموز لبضعة أيامٍ فقط، وبعضها يظهر من جديد، والبعض الآخر يستمر. لذا هناك حاجةٌ مُلِحَّة إلى توثيق هذه الرموز وسياقها. إذا كان الفلسطينيون يعتمدون على المقاومة في الماضي القريب من أجل الإلهام والقوة الإبداعية، فإن هذه اللحظة في التاريخ تحتاج أيضاً إلى توثيق.
إن توثيق هذا التاريخ في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي هو من أجل الشعب الفلسطيني في المقام الأول، إذ سيمنح للجيل القادم من الفلسطينيين سجلاً تاريخياً خاصاً بهم، لاستخدامه ليس فقط من أجل مواصلة أعمال المقاومة الإبداعية، بل أيضاً للأجيال القادمة لتستكشفه.
ويظلُّ العلم الفلسطيني الوسيلة الأكثر شعبيةً للتعبير عن التضامن الفلسطيني، حتى عندما يجرِّم الاحتلال الإسرائيلي رفعه أو التلويح به. ودُمِجَت الأعلام الفلسطينية في الرسومات، ورسمها الأطفال لرفع الروح المعنوية. ولطالما كانت الرموز التعبيرية (الإيموجي) للعلم الفلسطيني وسيلةً لإثبات جنسية الفلسطينيين، خاصةً في منصاتٍ مثل تويتر وإنستغرام، حيث قد تكون المساحة ضيِّقة لتستوعب الكثير في الوصف الخاص بالحساب.
تطوَّرَ الوضع خلال الأشهر القليلة الماضية، مع استخدام إيموجي العلم بشكلٍ متكرِّر من قِبَلِ الفلسطينيين لإظهار التضامن مع القضية. وقد أدَّى ذلك ببعض الفلسطينيين إلى مناقشة ما إذا كانوا يجدون أنه من المناسب لغير الفلسطينيين استخدام الرموز التعبيرية، حيث جادَلَ الكثيرون بأن إظهار فلسطين وعلمها لهما الأسبقية.
البطيخ.. رمز تاريخي يعود للتصدر
يُعتَبَر البطيخ رمزاً للمقاومة الفلسطينية منذ الثمانينيات، بعد أن حظرت إسرائيل رفع العلم الفلسطيني في أيِّ مكانٍ في الأراضي التي تحتلَّها. وقد استخدم الفلسطينيون البطيخ بدلاً من العلم، إذ يحتوي على ألوان العلم الفلسطيني: الأحمر والأسود والأخضر والأبيض.
وفي مايو/أيَّار 2021، ظهرت رسومٌ عديدة تُذكِّر الناس برمزية البطيخ؛ كيف دمجه فنانون مثل سليمان منصور في أعمالهم الفنية، وكيف حمل الفلسطينيون شرائح منه احتجاجاً على الاحتلال الإسرائيلي؟
ابتكرت المصمِّمة الجرافيكية بسمة قشطة رسمةً بالبطيخ، مصحوبةً بالهاشتاغ #قاوم. وأنتج الفنان الفلسطيني مايكل حلاق محاكاةً ساخرة لقطعة الموز الفنية لماوريتسيو كاتيلان لعام 2019، والتي اشتهرت بانتشارها على نطاقٍ واسع.
لكن بدلاً من الموزة، ألصق حلاق شريحةً من البطيخ على الحائط بشريطٍ أزرق، ثم باعها من خلال معرض Tabari Artspace، على أن تذهب العائدات إلى صندوق إغاثة الأطفال الفلسطينيين.
واستخدمت مجموعة Native Threads، وهي مجموعةٌ لأزياء الشارع، زخارف البطيخ في أعمالها لجمع التبرُّعات للفلسطينيين. وصار إيموجي البطيخ يُدمَج في الرسائل النصية والتغريدات.
غرد وكأن "فلسطين حرة"
في 24 مايو/أيَّار، غرَّدَت مُحرِّرة الصحافة الموسيقية الإسكتلندية إيف بارلو، قائلةً: "شاهَدَ صديقي اليهودي لافتةً تقول موقف مجاني للسيارات (Free Parking)، لكنه قرأها بالخطأ الحرية لفلسطين (Free Palestine)".
حُذِفَت التغريدة في النهاية، ولكن ليس قبل أن تتحوَّل إلى ميم. نشر الناس تنويعاتٍ مختلفة خاصة بهم على منصة تويتر، مُبدِّلين في كلٍّ منها كلماتٍ مختلفة. وتحوَّلَت كلمة "مواقف مجانية للسيارات – Free Parking" إلى رمزٍ من تلقاء نفسها، إذ ظهرت على لافتات الاحتجاج والتغريدات الداعمة لفلسطين وغير ذلك، وأحياناً كانت تظهر جنباً إلى جنبٍ مع شرائح البطيخ.
انطلق هاشتاغ #غرد_وكأن_فلسطين_حرة مرةً أخرى في أواخر يونيو/حزيران 2021، إذ غرَّد مستخدم تويتر كما لو كانت فلسطين حرة. وقد ظهر الهاشتاغ عدة مرات في الماضي، كما يشير مستخدم تويتر الذي يحمل اسم Nour Gaza.
وفي الآونة الأخيرة، عبَّرَت التغريدات عن الرغبة في التمكُّن من التنقُّل بحريةٍ من لبنان إلى سوريا إلى فلسطين، واستخدام مطارات غزة، وتناول الإفطار في الأقصى، والعودة مع أفراد الأسرة الذي فروا عام 1948 إلى أراضيهم.
مَنَحَ الهاشتاغ الفلسطينيين بعض المساحة بعيداً عن عمليات الإخلاء القسري والعنف الإسرائيلي في سلوان والشيخ جراح، والاعتقالات والمداهمات واسعة النطاق، والحصار المفروض على غزة، ومَنَحَهم كذلك مساحةً يُطلَق فيها العنان للتخيُّل والمزاح قليلاً عن المستقبل.
تعديل الرسوم البيانية
نشرت الممثِّلة الأمريكية ديبرا ميسينغ على منصة تويتر سلسلةً من الرسوم البيانية تحثُّ الناس على فهم "المعلومات المضلِّلة إزاء إسرائيل"، بما في ذلك انتقاد استخدام مصطلح "التطهير العرقي".
انتُقِدَت بشدة كونها معاديةً للفلسطينيين، واستخدم روَّاد وسائل التواصل الاجتماعي القوالب نفسها لإنشاء رسوم بيانية خاصة بهم.
وفي الفقاعات التي يُكتَب فيها الكلام، انتقد مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي مصطلح "السكَّان الأصليين"، ووضعوا عبارة "أجدادي من أوروبا ولكني من السكَّان الأصليين لفلسطين.
عائلة الكرد في الشيخ جراح
كان الضوء مُسلَّطاً على عائلة الكرد بحيِّ الشيخ جرَّاح خلال الأشهر القليلة الماضية، وأظهر ذلك للعالم ما يحدث في حيِّهم الواقع في القدس الشرقية، حتى حين عزفت وسائل الإعلام الرئيسية عن القيام بذلك.
يستخدم التوأم منى ومحمد الكرد تويتر وإنستغرام لتوثيق نزوحهما الوشيك من الشيخ جرَّاح، لكن والدهما نبيل أصبح أيضاً رمزاً، بدءاً من نشر صورة لنفسه بجانب كتابات على جدار منزلهما تقول "لن نرحل".
ومنذ ذلك الحين، انتشرت رسوماتٌ مختلفة له، بما في ذلك تلك التي رسمتها الفنانة الفلسطينية هبة ياسين. كانت تلك صورةً مُعدَّلة لصورة له بجانب الكتابة على الجدار، وبأسلوب الفن الشعبي الفلسطيني. رسمٌ آخر رسمته الفنانة الفلسطينية هيا فني، في اقتباسٍ من صورة نبيل الكرد وهو جالس في حي الشيخ جرَّاح.
صُوِّرَ نبيل لاحقاً على أبواب مركزٍ للشرطة في القدس محتجاً على اعتقال أبنائه في يونيو/حزيران الجاري، إذ كان يجلس على مقعدٍ بلاستيكي أحضره بنفسه. وانتشرت الصورة على نطاقٍ واسعٍ وكانت دعوةً لحملةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي لإطلاق سراح منى ومحمد.
مشاهير من أجل فلسطين
أصبحت عائلة حديد الفلسطينية الأمريكية (أنور وبيلا وجيجي حديد العاملون في مجال الأزياء)، والمغنية دوا ليبا، أيقوناتٍ في المجتمع الرقمي الفلسطيني بسبب دعمهم لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي وفي أرض الواقع. ونتيجة لذلك، استقطبوا حملات تشهيرٍ من إسرائيل وأنصارها.
وفي مواجهة ردِّ الفعل العنيف جزئياً، انطلقت الميمات والرسوم للاعتراف بدعم دوا ليبا وتأييد حديد لفلسطين، حتى أن بيلا حديد قد صُوِّرَت في احتجاجٍ في مدينة نيويورك.
كيف تحولت "المكنسة" إلى رمز؟
مرةً أخرى، احتلَّت الفكاهة جزءاً كبيراً من أساليب المقاومة الفلسطينية عندما صادر جنودٌ إسرائيليون مكنسةً في القدس، وانتشر مقطع فيديو للواقعة على نطاقٍ واسع. كثيراً ما يصادر الجنود الإسرائيليون الأغراض اليومية، مثل الأعلام والمكانس، دون مُبرِّرٍ يُذكَر، بهدف استفزاز الفلسطينيين.
صار الفلسطينيون يغرِّدون مستخدمين عبارة "أنقذ المكنسة"، أو "الحرية للمكنسة". وعاد الميم للظهور مرةً أخرى في 15 يونيو/حزيران حين مُنِعَ الفلسطينيون من الوصول إلى البلدة القديمة في القدس بسبب مسيرةٍ للمستوطنين مرَّت عبرها، إذ استخدم الفلسطينيون المكانس لتنظيف باب العامود بعد أن سار المستوطنون وهم يهتفون "الموت للعرب"، و"النكبة الثانية قادمة".