بعد أن كان التفاؤل سيد الموقف، عادت لعبة "شد الأصابع" مرة أخرى لتصبح العنوان الأبرز لمفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي بين أمريكا وإيران، فما قصة التهديد بالانسحاب؟
كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وقادة إيران قد عادوا إلى طاولة المفاوضات في فيينا قبل نحو شهرين، وإن كان بشكل غير مباشر، وشهدت الجولة السادسة الأسبوع الماضي تفاؤلاً واضحاً بقرب التوصل إلى العودة إلى الاتفاق النووي، الذي كانت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب انسحبت منه عام 2018.
خطة العمل الشاملة المشتركة -أو الاتفاق النووي الإيراني- كان قد تم التوصل إليها بين طهران والدول الكبرى (أمريكا في ظل إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين) عام 2015، ووافقت بموجبها طهران على إخضاع برنامجها النووي للتفتيش الشامل والصارم من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية لضمان عدم حصول إيران على القنبلة النووية.
ماذا حدث بشأن العودة للاتفاق النووي؟
كانت الجولة السادسة من المفاوضات الحالية، التي تجري في فيينا بمشاركة جميع الأطراف، قد اختتمت الأحد 20 يونيو/حزيران بالتزامن مع انتخاب إبراهيم رئيسي، المحسوب على التيار المتشدد، رئيساً لإيران خلفاً للرئيس الحالي حسن روحاني الممثل للتيار الإصلاحي. لكن انتخاب رئيسي لم يقلل من التفاؤل الذي عكسته التصريحات الصادرة من إيران ومن المعسكر الغربي أيضاً بشأن قرب التوصل لاتفاق.
لكن تغيرت نبرة التصريحات فجأة خلال اليومين الماضيين. ففي مقابلة مع صحيفة The New York Times نشرتها السبت 26 يونيو/حزيران، قال وزير الخارجية الأمريكي إن استمرار السلطات الإيرانية في تطوير برنامجها النووي "قد يصبح قريباً عقبة لا يمكن التغلب عليها إطلاقاً".
وأضاف بلينكن: "إذا استمروا في تشغيل أجهزة طرد مركزية أكثر تطوراً، بشكل مستمر على مستويات أعلى وأعلى، فسنصل إلى نقطة صعبة للغاية من الناحية العملية" للوصول إلى الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015 بصيغته وبنوده الأصلية. ورداً على سؤال حول اليوم الذي قد تنسحب فيه إدارة بايدن من المحادثات النووية، قال بلينكن: "لا يمكنني تحديد موعده، لكنه يقترب".
وكان بلينكن قد كرر نفس الرسالة الجمعة خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفرنسي جان إيف لودريان في باريس، حيث أكد أن "خلافات جوهرية لا تزال قائمة حول الاتفاق النووي"، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وأكد أن بلاده "لن تتوصل لصفقة تعيد إحياء الاتفاق المتهاوي، منذ انسحاب الإدارة الأميركية، إلا إذا أوفت السلطات الإيرانية بالتزاماتها النووية". واعتبر بلينكن أن العودة إلى هذا الاتفاق "ستكون صعبة للغاية إذا طالت المحادثات أكثر من اللازم".
ولم يتأخر الرد من طهران، فقد أعلنت الخارجية الإيرانية السبت إمكانية إحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015 خلال محادثات فيينا، مستبعدة بالوقت ذاته استمرارها بالتفاوض إلى أجل غير مسمى.
وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده على حسابه في "تويتر" إن "إيران كانت أنشط طرف في فيينا وهي أكثر من قدم مسودات انطلاقاً من التزامها الراسخ بإحياء الاتفاق الذي حاولت الولايات المتحدة نسفه".
وأضاف خطيب زاده أن "طهران لا تزال تؤمن بإمكانية التوصل إلى اتفاق جديدة إذا قررت الولايات المتحدة التخلي عن الإرث الفاشل الذي تركه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب"، بحسب تقرير للأناضول.
ماذا يعني ذلك لفرص العودة للاتفاق؟
يرى فريق من المحللين أن التصعيد الواضح والتهديد المتبادل بالانسحاب من طرف واشنطن وطهران يشير على الأرجح إلى أن المفاوضات قد وصلت بالفعل إلى محطتها الأخيرة، وأن إعلان العودة للاتفاق النووي قد تتم بالفعل قبل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد أول أغسطس/آب المقبل.
والتصعيد من جانب الطرفين من خلال التصريحات العلنية على الأرجح موجّه للداخل، سواء في واشنطن أو في طهران، أكثر مما هو موجه إلى إيران أو الولايات المتحدة، إذ أصبح ذلك الأسلوب على ما يبدو العنوان الأبرز للعلاقة بين الطرفين منذ رحيل ترامب وتولي بايدن.
فقد أعلنت إيران مراراً وتكراراً على لسان قادتها، المتشددين والإصلاحيين على السواء، أنها لن تعود إلى مائدة المفاوضات تحت أي ظرف من الظروف قبل أن تقوم إدارة بايدن برفع جميع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب. لكن في النهاية أرسلت طهران وفدها إلى فيينا للتفاوض، حتى وإن كان ذلك يتم بصورة غير مباشرة مع الأمريكيين.
ومن المهم هنا أيضاً ذكر تعرض أبرز منشآت إيران النووية -نطنز- لهجوم إلكتروني ضخم وجهت فيه طهران أصابع الاتهام لإسرائيل، ولم تنفِ الأخيرة ضلوعها في الهجوم، وكان ذلك أثناء جولات التفاوض الحالية في فيينا، ولم تنسحب إيران من تلك المفاوضات أيضاً.
فعلى الرغم من التصريحات الإيرانية المتحدية والرافضة لأي تنازلات بغرض إعادة إحياء الاتفاق النووي، فإن أغلب المحللين يشيرون إلى أن طهران تريد العودة للاتفاق فعلاً وتعتبر ذلك هدفاً استراتيجياً وهذا ما تؤكده أفعال إيران على الأرض.
والأمر لا يختلف كثيراً في واشنطن. فإدارة بايدن -الذي كان نائباً لأوباما عند توقيع الاتفاق عام 2015- ترى أن الاتفاق النووي هو الضمان الأكبر لمنع طهران من الحصول على سلاح نووي، في ظل المراقبة الدائمة والمستمرة والمفاجئة لأنشطة إيران النووية. ودائماً ما تنفي طهران أنها تسعى لامتلاك سلاح نووي من الأساس.
وكان بايدن قد أعلن صراحة أثناء الحملة الانتخابية أنه ينوي العودة للاتفاق النووي الذي كان ترامب قد انسحب منه بشكل أحادي، إذ لا يزال أطراف الاتفاق الآخرين (روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) يحترمون بنوده، بينما بدأت طهران التخلي عن التزاماتها بنود الاتفاق بشكل تدريجي دون أن تعلن انسحابها منه.
وفي هذا السياق، أعلن بايدن أنه على إيران العودة للالتزام ببنود الاتفاق أولاً قبل رفع العقوبات عنها، وهو ما رفضته طهران. واستمرت لعبة "شد الأصابع" بين الطرفين، حتى تم التوصل لمفاوضات فيينا الحالية والتي اختتمت جولتها السادسة الأسبوع الماضي، وسط تقارير عن الوصول إلى حل وسط عادت الوفود إلى عواصمها للتشاور بشأنه.
والخلاصة هنا هي أن التهديد بالانسحاب من جانب بلينكن، والرد الإيراني بأن طهران لن تتفاوض إلى ما لا نهاية، هو على الأرجح محاولة من جانب كل طرف للضغط على الآخر حتى لا يرتفع سقف التوقعات، خصوصاً أن التقارير الإعلامية من كواليس مفاوضات فيينا تشير إلى أن نقطة الخلاف الرئيسية المتبقية تتمثل في إصرار إيران على الحصول على ضمانات تتعلق بعدم تكرار ما أقدم عليه ترامب.
والمقصود هنا هو أن الانتخابات الأمريكية المقبلة قد تأتي برئيس جمهوري -ربما يكون ترامب نفسه حيث لا زال الباب مفتوحاً أمامه ليترشح مرة أخرى- ينسحب مرة أخرى من أي اتفاق يتوصل إليه الطرفان. لكن الواقع يشير إلى أن إدارة بايدن لا يمكنها تقديم أي ضمانات في هذا الشأن. فالضمان الوحيد هو أن يصدق الكونغرس على الاتفاق النووي ليصبح معاهدة دولية، وهو ما يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء.
وفي ظل الانقسام الحاد في الكونغرس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشكل عام، والانقسام الأكبر بشأن الاتفاق النووي بشكل خاص، يصبح الطريق الوحيد هو أن توقع الإدارة "اتفاقاً تنفيذياً" يمكن للرئيس المقبل أن يلغيه، تماماً كما حدث من جانب ترامب.