نشرت صحيفة Washington Post الأمريكية تقريراً حول تراجع الدور الفرنسي في الساحل الإفريقي، وتقول الصحيفة إنه عندما تدرَّبَ آلاف الجنود من الولايات المتحدة وإفريقيا وأوروبا معاً هنا هذا الشهر، كانت هناك دولةٌ واحدةٌ غائبة بشكلٍ لافت، وهي فرنسا.
وقادت القوة الاستعمارية السابقة، لسنواتٍ من الزمن، واحدةً من أكبر القوى في القتال ضد الجماعات المسلحة الهادفة إلى السيطرة على الأراضي جنوب الصحراء الكبرى. لكن في الوقت الذي نظَّمَت فيه الولايات المتحدة أحد أكبر التدريبات العسكرية في المنطقة، أعلنت باريس أن "عملية برخان" توشك على الانتهاء، وهي خطوةٌ يقول مُحلِّلون إنها ستقلب استجابة المجتمع الدولي إزاء التهديد، في وقتٍ لا يُظهِر فيه العنف أيَّ علامةٍ على التراجع.
تحديات كبيرة أمام القوى الغربية بعد التراجع الفرنسي
تثير إعادة ترتيب الأوراق الأمنية أسئلةً حول استجابة إدارة بايدن الأمريكية للتهديدات المتزايدة عبر التضاريس المعروفة باسم منطقة الساحل الإفريقي، حيث اضطلعت القوات الأمريكية بدورٍ داعمٍ منذ فترةٍ طويلة.
تقول قوات غرب ووسط إفريقيا إنها بمفردها، وليس لديها ما يكفي من التمويل أو المعدَّات لحماية دولها من المُسلَّحين المرتبطين بتنظيمي القاعدة و"الدولة الإسلامية".
وقال ضابطٌ سنغالي تحدَّثَ شريطة عدم الكشف عن هويته، بموجب قوانين الجيش التي يتقيَّد بها، للصحيفة الأمريكية: "نحن بحاجةٍ إلى دعمٍ لمحاربة هذا الإرهاب الذي يقوِّض جهودنا التنموية. نحن بحاجةٍ إلى دعم جميع الشركاء. نحن بحاجةٍ إلى الجميع".
وتنشر فرنسا نحو 5100 جندي بمنطقة الساحل في إطار عملية برخان، التي شنَّتها عام 2014 بعد أن ساعدت القواتُ الفرنسية في منع المسلحين من الاستيلاء على عاصمة مالي.
أما الولايات المتحدة، فلديها ما يقرب من 1100 جندي في المنطقة، يركِّزون على التدريب والدعم اللوجيستي والاستخباراتي. وفي مؤتمرٍ صحفي عُقِدَ هذا الأسبوع، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه يطلب من واشنطن وحلفاء آخرين توفير قواتٍ خاصة لتحالف مكافحة الإرهاب الذي يهدف إلى الحلول محل عملية برخان.
لكن الحماسة الغربية إزاء هذا الجهد فاترة، والموارد العسكرية لدول المنطقة مُستنفَدة بالفعل ضد "التحديات الكبرى"، وفقاً لآخر تقريرٍ لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
الغرب يخشى أن تملأ الصين وروسيا الفراغ الفرنسي
ويقول الباحثون إن التراجع الفرنسي قد يفسح الطريق أمام الصين وروسيا، حيث تتطلَّع الدولتان إلى القارة الإفريقية لتوسيع نفوذهما على الصعيد العالمي. وقال جود ديفيرمونت، مدير برنامج إفريقيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن: "لقد وقَّع الروس بالفعل اتفاقياتٍ عسكرية مع العديد من دول الساحل، ومن المُرجَّح أن يقتنصوا هذه الفرصة".
ورغم عدم التدخُّل المُكثَّف للقوات الفرنسية والإقليمية لما يقرب من عقدٍ من الزمان، تستمر إراقة الدماء في منطقة الساحل. وامتدَّت الهجمات من مالي -بؤرة الصراع التي يقول الباحثون إن اشتعالها كان بسبب انهيار الحكومة الليبية في 2011- إلى جيرانها، وعلى رأسهم بوركينا فاسو والنيجر.
قُتِلَ ما يقرب من 7 آلاف شخص في أعمال عنفٍ خلال عام 2020، وفقاً لمشروع بيانات الأحداث ومواقع النزاعات المُسلَّحة، وهو الإحصاء الذي يُعَدُّ الأكبر من نوعه. وتعرَّضَت بوركينا فاسو لأخطر مذبحةٍ منذ سنواتٍ هذا الشهر (يونيو/حزيران)، عندما اقتحم مُسلَّحون قريةً شمالية وقتلوا 132 شخصاً على الأقل.
وأظهرت تقديرات مشروع بيانات الأحداث ومواقع النزاعات المُسلَّحة أن قوات الأمن وجماعات الدفاع المجتمعي قتلت أيضاً مئات المدنيين. ويقول الباحثون إن الأبرياء غالباً ما يُنظَر إليهم باعتبارهم أعداءً، أو يُعاقَبون لتقاسم القرى مع المقاتلين.
وقالت هانا أرمسترونغ، المُحلِّلة في مجموعة الأزمات الدولية، إنَّ خفض القوات قد يؤدِّي إلى قتالٍ أقل وحوارٍ أكثر. وقالت: "كان من شأن نشر قوات مكافحة الإرهاب القضاء على بعض القادة، لكنه فشل في إلحاق الهزيمة بهذا التهديد أو احتوائه". وفي المقابل، كان هناك تصاعدٌ في الحكم الاستبدادي، وتفشي عدم الاستقرار، ومخاطر أخرى أكبر بكثيرٍ على المدنيين.
شعبية فرنسا تتراجع في الساحل الإفريقي
أصبحت الحرب في منطقة الساحل لا تحظى بشعبيةٍ داخلية في فرنسا، وتزايدت المخاوف بغرب إفريقيا من أن الهجوم الأجنبي يضرُّ أكثر مِمَّا يساعد. وطالب المتظاهرون في مالي وجيرانها بمغادرة القوات الفرنسية.
وقال ضابطٌ في جيش بوركينا فاسو تحدَّث شريطة عدم الكشف عن هويته، لأنه غير مُخوَّل له التحدُّث إلى وسائل الإعلام: "نحن بحاجةٍ إلى مزيدٍ من المساعدة لمحاربة الإرهابيين، لكن على مدار سنوات أظهرت فرنسا عدم قدرتها على القيام بذلك. هذا هو السبب في أن السكَّان يثورون أكثر وأكثر".
وجاء إعلان ماكرون عن الانسحاب، بعد ثلاثة أسابيع من الانقلاب الذي شهدته مالي، وهو الانقلاب الثاني خلال تسعة أشهر، في تطوُّرٍ وصفه الزعيم الفرنسي بأنه "غير مقبول".
القادة العسكريون صاروا بموقع المسؤولية الآن في مالي، والحكومات الغربية قطعت المساعدات الأمنية حتى استعادة الحكم الديمقراطي (لدى الأمم المتحدة قوة حفظ سلام، قوامها 13 ألف فرد في مالي، لكن هذه القوة تركِّز على حماية المدنيين).
وقال ضابطٌ بالجيش المالي تحدَّثَ شريطة عدم الكشف عن هويته أيضاً: "تدهور الوضع الأمني منذ الانقلاب. إذا انتهت العملية الفرنسية، فآمل أن تنتهي بالاسم فقط. نحن بحاجةٍ إلى كلِّ المساعدة التي يمكننا الحصول عليها هنا".
باريس تبحث عن شركاء في تحمُّل تبعات وجودها بالساحل الإفريقي
بدأت باريس في البحث عن مزيدٍ من الشركاء الأوروبيين بمنطقة الساحل، العام الماضي، من خلال عملية تاكوبا. هذا الفريق، الذي من المُتوقَّع أن يتولَّى زمام الأمور من عملية برخان، لديه 600 جندي فقط من القوات الخاصة في مالي، معظمهم من فرنسا والسويد وإستونيا وجمهورية التشيك.
لم تذكر القيادة الأمريكية في إفريقيا ما إذا كانت القوات الأمريكية ستنضم إلى عملية تاكوبا بناءً على طلب ماكرون. كانت العمليات الخاصة محدودة في المنطقة منذ أن قَتَلَ مسلَّحو تنظيم "الدولة الإسلامية" أربعة جنود أمريكيين قبل أربع سنواتٍ في غرب النيجر.
وقالت سيندي كينغ، المتحدِّثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية: "نقدِّر شراكتنا مع فرنسا والشركاء الدوليين الآخرين في منطقة الساحل، ونتطلَّع إلى معرفة المزيد خلال الأسابيع القليلة المقبلة حول خطط فرنسا لتطبيق هذا التحوُّل الاستراتيجي، وضمن ذلك وجهة نظرها بشأن الموارد التشغيلية وآليات التنسيق اللازمة".
وتُعَدُّ التدريبات العسكرية إحدى الطرق التي عادةً ما يتعاون بها الحلفاء في المنطقة. ويتشارك الجنود الأمريكيون التدريبات القتالية مع نظرائهم الأفارقة والأوروبيين. وحضر أكثر من 7800 جنديٍّ تدريبات هذا العام التي استمرَّت أسبوعين في المغرب، تلك التدريبات التي أُطلِقَ عليها "الأسد الإفريقي"، وهي أكبر مناورات حربية تديرها الولايات المتحدة في القارة.