يسعى اليمين الفرنسي المتطرف إلى السيطرة على واحدة من أكبر مناطق البلاد عبر الانتخابات المحلية، لأول مرة في تاريخه، ضمن محاولة زعيمته ماريان لوبان للوصول إلى الإليزيه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وستجرى الانتخابات الإقليمية في فرنسا يومي 20 و27 يونيو/حزيران 2021، في ظل مشهد سياسي يغلب عليه الانقسام والاستقطاب الشديد.
وتسعى ماريان لوبان للتقارب مع ناخبي يمين الوسط التقليديين، مُحَوِّلة المعركة الانتخابية المحلية في منطقة ألب كوت دازور إلى نقطة انطلاق لمحاولتها الرئاسية الثالثة في الربيع المقبل، حيث يمكنها مرة أخرى الوصول إلى الجولة النهائية ضد ماكرون، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
ومع اقتراب موعد انتخابات الأقاليم أظهرت استطلاعات الرأي أن حزب "التجمع الوطني" الذي يمثل اليمين الفرنسي المتطرف برئاسة لوبان قد يكون في طريقه لتحقيق نتيجة تاريخية، وبالتحديد في منطقة "ألب كوت دازور" (جنوب شرق فرنسا)، التي تقع الآن تحت سيطرة اليمين التقليدي.
وكشف استطلاع للرأي أجراه معهد إبسوس/سوبرا لصالح إذاعة وتلفزيون فرنسا تقدم قائمة تييري مارياني من حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في منطقة "ألب كوت دازور"، في الدورتين الأولى والثانية للانتخابات الإقليمية خلال أسبوعين، بحسب تقرير لفرانس برس.
وقال ستيوارت تشاو، عالم الاجتماع والمستشار في منظم الاستطلاعات Viavoice: "هناك نوع من تأثير كرة الثلج؛ فماريان لوبان لم تُغير خطابها أو تخفف من أفكارها الرئيسية، لكن السياق الاجتماعي في فرنسا يعني أنها تستفيد من حقيقة أنَّ موضوعاتها التقليدية ترسخت بعمق في الرأي العام في السنوات الست الماضية؛ وهي: الجريمة والشعور بانعدام الأمن، والشعور بالانحدار وعدم المساواة الاجتماعية، وربطها بين هذه القضايا والهجرة وأوروبا والعولمة. ثم جاءت أزمة كوفيد وعزَّزت فكرة أنهم يعيشون أوقاتاً من القلق والحاجة إلى الحماية والسيادة الوطنية".
وأضاف تشاو: "كلما زاد عدد الأحزاب الأخرى التي تضع ماريان لوبان في قلب الجدل السياسي من خلال التركيز على النتائج التي يمكن أن تصل إليها، وكيف يمكن لهذه الأحزاب تقويض تلك النتائج -وكلما استغلت الأحزاب الأخرى مواضيعها- زادت من تطبيع حزبها".
اليمين الفرنسي المتطرف يسعى للسيطرة على منطقة لأول مرة في تاريخه
إنَّ السيطرة على منطقة فرنسية سيكون بمثابة زلزال سياسي لحزب ماريان لوبان القومي المناهض للهجرة، وسيمنحه مصداقية جديدة محتملة.
ويدير حزب التجمع الوطني -الذي غُيِّر اسمه من "الجبهة الوطنية" وأسَّسه الأب جان-ماري لوبان منذ ما يقرب من 50 عاماً- نحو 10 بلديات في جميع أنحاء فرنسا، لكنه لم يرأس أبداً منطقة إدارية فرنسية، حيث الميزانيات بالمليارات، وتشمل المسؤوليات المدارس الثانوية والنقل.
في الماضي كان التصويت التكتيكي -الذي شهد في الغالب انسحاب اليسار للسماح لليمين بـ"إيقاف خطر اليمين الفرنسي المتطرف"- يحد دائماً من النتائج الإقليمية للحزب.
منطقة الفيلات الفارهة والقرى الفقيرة
يُنظَر إلى منطقة ألب كوت دازور، التي تمتد من فيلات أصحاب الدخول المرتفعة في الريفيرا الفرنسية إلى القرى الأفقر في فوكلوز وعقارات السكان منخفضي الدخل في مرسيليا، على أنها المختبر السياسي لماريان لوبان، إذ تُظهِر استطلاعات الرأي أنَّ الفوز بالجولة الثانية لحزب لوبان في هذه المنطقة ممكن.
وهذه المنطقة تضم شاطئ الريفيرا الشهير، الذي يعد من أهم منتجعات الأثرياء في العالم، كما تعد هذه المنطقة من أكثر مناطق فرنسا استقبالاً للهجرة، فوفقاً لدراسة أجريت عام 2009، كان لدى ما يقرب من 40% من جميع الأطفال حديثي الولادة في بروفانس ألب كوت دازور في عام 2007 أحد الوالدين على الأقل من أصول مهاجرة، معظمهم من الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين والمغاربيين.
وهذا هو ثاني أعلى معدل بعد إيل دو فرانس (باريس الكبرى)، حيث كان الرقم حوالي 56%. منذ الستينيات، إذ كانت المنطقة مركزاً رئيسياً للهجرة إلى فرنسا، ويرجع ذلك في الغالب إلى الهجرة القادمة عبر البحر الأبيض المتوسط من دول مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا والجزائر وتونس والمغرب.
3 شروط لفوز لوبان
وللفوز في هذه المنطقة، يحتاج حزب ماريان لوبان إلى استهداف ناخبي اليمين التقليدي بقوة. وحذَّر مركز أبحاث Fondation Jean Jaurès مؤخراً من أنَّ فوز ماريان لوبان بالرئاسة لعام 2022 ربما لا يزال غير مرجح، لكنه يمكن أن يحدث اعتماداً على إدارتها لواحد من ثلاثة عوامل، حسب ما ورد في تقرير الصحيفة البريطانية.
أولاً، تحتاج ماريان إلى كسب أعداد كبيرة من ناخبي يمين الوسط.
ثانياً، إنَّ حملة العلاقات العامة التي تقودها من أجل "إزالة الشوائب" عن صورة حزبها وإبعاده عن إيحاءات الماضي الوحشية يجب أن تكون ناجحة جداً، بحيث لا يعتبرها الناخبون السائدون خطراً، ولا يكلفون أنفسهم عناء التصويت تكتيكياً لردعها.
وأخيراً، يجب أن يُنظَر إلى ماكرون بنفس المستوى العام من عدم الثقة مثل ماريان لوبان نفسها، لجعل الناخبين يرفضون التصويت لصالحه.
لم تُنظَم هذه العوامل بنجاح حتى الآن، لكن منطقة ألب كوت دازور تُراقَب عن كثب باعتبارها اختباراً حاسماً. وفي جميع أنحاء فرنسا انخفضت نسبة الأشخاص الذين يرون أنَّ حزب ماريان يشكل خطراً على الديمقراطية إلى 49%. إضافة إلى ذلك يزداد عدد الذين لديهم نظرة إيجابية عن ماريان من بين المنتمين إلى اليمين التقليدي.
وحزب ماكرون انسحب من المنطقة
وفي خطوة غير معتادة، انسحب حزب ماكرون بالفعل من سباق منطقة ألب كوت دازور الإقليمي، واصطفّ مع اليمين في محاولة لإيقاف تقدم ماريان، وتحالف حزب ماكرون تحديداً، مع حزب "الجمهوريين"، بزعامة رونو موزيلييه، وهو سياسي يميني مخضرم.
ويرى كثير من المحللين أن تحالف ماكرون مع أحد أحزاب اليمين التقليدي يمثل سلاحاً ذا حدين، إذ قد يؤدي ذلك إلى تفتيت أصوات اليمين في تلك المنطقة وحرمان "التجمع الوطني" من الفوز، لكن قد يحدث العكس ويفقد موزيلييه جانباً من الأصوات لصالح مرشحي حزب لوبان.
وقد أحدث تحالف موزيلييه مع حزب ماكرون انقساماً بالفعل بين الجمهوريين الداعمين لموزيلييه، وشجبت قيادتهم بسرعة هذا التحالف، الذي قالوا إنه قد يضعف الحزب في الانتخابات الإقليمية.
من جانبه، قال تييري مارياني، المرشح الإقليمي لحزب ماريان لوبان، في خطاب بمدينة كان: "هذه الانتخابات اختبار. منطقة ألب كوت دازور فريدة من نوعها، لأنَّ حزب الجمهوريين [اليمين التقليدي] تعاون مع إيمانويل ماكرون ضدنا. إذا خسروا، فسيُظهِر ذلك أنَّ ماكرون، حتى بعد الاصطفاف مع آخرين، يواجه صعوبة كبيرة، وسيُظهِر أنَّ الجمهوريين لم يعد لديهم أي خط سياسي، وأنَّ حزب ماكرون، الجمهورية إلى الأمام، قد فشل في ترسيخ مكانته في قاعدة فرنسا الشعبية".
موطن الرجل الذي حظر البوركيني
لم تكن مدينة كان، التي تعتبر معقلاً لحزب الجمهوريين اليميني التقليدي قديم الطراز، من الأراضي المعتادة لماريان لوبان. وأعيد انتخاب عمدتها اليميني، المدافع عن حظر عام 2016 على "البوركيني" على شواطئ الريفيرا الفرنسية، بحصوله على 88% من الأصوات، لكن على طول الساحل بين كان ونيس، قال الناشطون من اليمين الفرنسي المتطرف إنَّ الناس بدأوا يلينون في أفكارهم تجاههم.
وقال غابرييل توماتيس، طالب التاريخ البالغ من العمر 22 عاماً، من نيس، الذي انضم إلى الحزب في سن 17 عاماً، "اعتدنا أن نضع ملصقات (الحزب) تحت غطاء الليل ونغيرها كثيراً لأنها تتعرض للتخريب، لكن الآن نضعها في وضح النهار ويتوقف الناس لتهنئتنا".
وتجذب ماريان لوبان حالياً الناخبين القلقين بتزايد بشأن العنف والجرائم. وربطت الجريمة بـ"الهجرة الجماعية غير المنظمة"، قائلة إنَّ فرنسا تواجه "الفوضى".
وفي حين أنَّ اليسار يرد بأنَّ الإحصائيات تثبت عدم صحة هذا، فقد تعزز موقف اليمين الفرنسي المتطرف من خلال تسرُّب خطاب ماريان لوبان إلى الاتجاه السائد، حيث حذّر وزير داخلية ماكرون، جيرار دارمانين، في حديثه عن الجريمة، من "الوحشية المتزايدة لجزء من المجتمع الفرنسي".
كوفيد 19 يساعد اليمين الفرنسي المتطرف
وفي سوق مدينة كان للسلع الرخيصة والمستعملة، كان بول، البالغ من العمر 83 عاماً، قد نهض في الخامسة صباحاً ليقود سيارته من نيس، ليضع كشكه الخاص لبيع أدوات المائدة العتيقة. واعتاد التصويت لليمين التقليدي، لكنه الآن سيختار ماريان لوبان، ومع وجود عدد قليل جداً من السياح بسبب "كوفيد-19" كانت الأوقات صعبة. في بعض الأحيان كان يكسب فقط ما بين 10 إلى 15 يورو (12 إلى 18 دولاراً أمريكياً تقريباً) في سوق السلع المستعملة، أي بالكاد ما يغطي تكاليف البنزين. وقال "هناك أزمة اقتصادية كبيرة قادمة، الجريمة في ارتفاع، وليس هناك ما يكفي من الشرطة، الناس من حولي يقولون: لماذا لا نجرب ماريان لوبان؟".
من جانبها، وصفت كريستيل لاجييه، محاضرة في السياسة بجامعة أفينيون، مؤيدي حزب الجبهة الوطنية الجنوبيين من تيار اليمين بأنهم مثل من لديهم وظائف "دون قوة إنفاق كبيرة، لكنهم مع ذلك يعملون ويدفعون الضرائب، ولديهم شعور بأنَّ نظام إعادة التوزيع الاجتماعي لا يعمل لصالحهم". وقالت إنَّ ناخبي حزب الجبهة الوطنية شعروا أنهم لم يحصلوا على نفس المزايا مثل الآخرين، وفي خطاب ماريان لوبان، شعروا بأنهم سيحصلون على نفس القدر الذي يحصل عليه السكان المهاجرون.
ووصف كريستوف كاستانير، وهو شخصية رئيسية في حزب ماكرون في الجنوب، خطاب الجبهة الوطنية المناهض للهجرة بأنه "كاذب" و"مناهض للجمهورية"، قائلاً إنه "حزب عنصري"، لديه قناعات تاريخية بمعاداة السامية ومُموَّل من الخارج.
وفي مدينة كان، قال جان لوك، الشريك في شركة هندسة معمارية، الذي كان يصوت دائماً لليمين التقليدي، إنَّ نسبة الاقتراع المرتفعة لحزب ماريان لوبان مثيرة للقلق. وأكد: "سأظل في صف اليمين [التقليدي]، لأنهم يمكن الوثوق بهم في الاقتصاد، وهذا هو الأهم".