جاء إعلان إسرائيل عن إلغاء مسيرة الأعلام في القدس المحتلة ليفسد محاولة جديدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للبقاء بالسلطة، ومثلت انتصاراً جديداً للشعب الفلسطيني ولحركة حماس التي تسببت في إلغائها من قبلُ عبر قصفها القدس بالصواريخ لحظة المسيرة السابقة.
وكانت شرطة الاحتلال الإسرائيلي قد ألغت مسيرة الأعلام لأول مرة في القدس المحتلة يوم 10 مايو/أيار 2021، بعد إطلاق المقاومة الفلسطينية صواريخ باتجاه القدس المحتلة أثناء تنفيذ المسيرة، تنفيذاً لتوعدها في حال لم يتراجع الاحتلال عن قراره، وهو ما أدى إلى هروب المستوطنين المشاركين فيها بعد إطلاق صفارات الإنذار عقب استهداف صواريخ حماس للقدس.
وجاء قرار الإلغاء الأخير الذي اتُّخذ الإثنين 7 يونيو/حزيران 2021، بعد تهديدات قوية أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، حذَّرت فيها "الاحتلال، والوسطاء، وكل العالم" من اقتراب مسيرة الأعلام من المسجد الأقصى، حيث كان من المفترض أن تتم يوم الخميس القادم.
غضب إسرائيلي من إلغاء مسيرة الأعلام
وخرجت ردود فعل إسرائيلية غاضبة من قرار الإلغاء صدرت من زعماء بعض الأحزاب اليهودية، فقال زعيم حزب "الصهيونية الدينية" بتسلائيل سموتريتش: "نرى أن يحيى السنوار، زعيم حماس في غزة، هو الذي يتحكم بأمورنا"، واصفاً ما يحدث بأنه "خزي ووصمة عار"، مضيفاً: "إسرائيل تستحق قيادةً أقوى وأكثر مصداقية".
من جانبه، قال القيادي في "الصهيونية الدينية" إيتمار بن غفير، إن مفتش الشرطة الإسرائيلية استسلم لحركة حماس، وطوى العَلم، مضيفاً: "لا أنوي الاستسلام والخميس المقبل سأسير في الطريق الكامل حول البلدة القديمة بالقدس".
في السياق نفسه، قال مراسل "شؤون مناطق فلسطينية" بالقناة 12 الإسرائيلية، إنه "في إسرائيل نسمع منذ أكثر من أسبوعين حديثاً عن أن حماس ضعيفة وفي وضع صعب بعد الحرب، ولكن حين أصغي إلى نبرة يحيى سنوار طوال الأسبوعين الأخيرين، من الصعب عدم الشعور بأنه شخص مع منشطات (بمعنى مع ثقة عالية بالنفس)".
وكانت الشرطة الإسرائيلية قد أصدرت، أمس الأحد، وخلافاً لتوصيات بعض القادة ومنهم وزير الدفاع بيني غانتس، قراراً بالموافقة على تنظيم "مسيرة الأعلام" الخميس المقبل، والتي يستعد للمشاركة فيها آلاف المستوطنين المتطرفين، تحت حماية الشرطة، بمنطقة "باب العامود" أحد أبواب البلدة القديمة من المدينة المحتلة، وذلك قبل صدور قرار إلغائها الإثنين.
هذه المرة كانت المسيرة مختلفة
الحدث موضع الخلاف، صدر إعلان له تحت عنوان: "مسيرة الأعلام-سنطلب توحيد القدس إلى الأبد". بخلاف سنواتٍ سابقة، هذه المرة من الواضح جداً أن للمسيرة بُعداً مختلفاً، وهي أخطر هذه المرة، ومن المخطط أن تمر في باب العامود ضمن الحي المُسلم نحو حائط المبكى (ساحة البراق)، حيث ستُقام هناك صلاة جماعية.
ويقود عملية تنظيم مسيرة الأعلام هما عضوا الكنيست بتسلائيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ما أثار كمّاً غير قليلٍ من علامات استفهامٍ سياسية حول توقيت المسيرة وهدفها.
وكان القيادي في حركة"حماس" الدكتور خليل الحية قال: "نقول للوسطاء بشكل واضح، إنه آن الأوان للجم هذا الاحتلال، وإلا فالصواعق ما زالت قائمة".
موافقة نتنياهو على المسيرة هدفها محاولة أخيرة للبقاء في السلطة
وطلبت القائمة العربية المشتركة ومنظمة "تاغ مئير" (شارة مضيئة) من وزير الأمن الداخلي والمفتش العام للشرطة منع المسيرة.
وكان معارضو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد رأوا أن الموافقة على تنظيم هذه المسيرة تهدف إلى إثارة موجة جديدة من العنف مع استعداد الحكومة الجديدة المناهضة له أداء اليمين الدستورية أمام الكنيست، وهي حكومة تضم حزباً عربياً لأول مرة، هو الحركة الإسلامية الجنوبية التي تقود القائمة العربية الموحدة في الكنيست.
فإذا أشعل نتنياهو وسموتريتش القدس من جديد فلن تكون هناك ذرّة من الشك، فيما يخص الدافع والهدف، وهاجم رئيس حركة "ميرتس" اليسارية، نيتسان هوروفيتس، نتنياهو قائلاً: "لن نسمح لهما بإحراق البلد في طريق الخروج من بلفور".
فمن الواضح أن هدف المسيرة هو تفجير الأوضاع سواء بين إسرائيل وحماس أو داخل الحكومة الجديدة التي تستعد لحلف اليمين وتضم حزباً عربياً ذا جذور إسلامية.
تحذير أمريكي لغانتس
وبحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حذرت وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن منذ أيام، ونقلت رسائل أخرى لمسؤولين آخرين أيضاً تضمنت تحذيراً من إثارة الأوضاع في القدس مجدداً، وإعطاء الفرصة لجهود الوساطة لتحقيق تهدئة شاملة وطويلة.
وقالت وسائل إعلام إسرائيلية، إن "وزير الدفاع بيني غانتس، طلب عدم إجراء مسيرة الأعلام في القدس بمسار يحتاج إلى جهد أمني خاص".
كيف نشأت مسيرة الأعلام؟
مسيرة الأعلام أو "يوم القدس" هي احتفالات جديدة وليست قديمة، إذ يحتفل اليهود سنوياً بيوم القدس، بحسب التقويم العبرى، الموافق يوم 5 يونيو/حزيران والذي يشير إلى التاريخ الذي احتلت فيه القوات الإسرائيلية مدينة القدس بالكامل خلال حرب يونيو/حزيران عام 1967.
وفي كل عام يحيي المستوطنون هذا اليوم بعدد من الأحداث والمناسبات، إذ ينظمون مسيرة احتفالية قبل يومين من الذكرى ويشارك فيها الآلاف، معظمهم من نشطاء الاستيطان ومن يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة.
وفى ليلة الذكرى يقيم الحاخامات جلسات في المعابد اليهودية والأماكن الدينية بمشاركة بعض السياسيين وأعضاء الكنيست، حسبما ورد في تقرير لموقع بوابة الأهرام المصرية.
أما الحدث المركزي في هذا اليوم فهو "رقصة الأعلام" أو مسيرة الأعلام التي تقام في ساعات الظهيرة ويشارك فيها عشرات الآلاف من المستوطنين، معظمهم من صغار السن الذين ينتقلون بالأتوبيسات للقدس المحتلة من أجل المشاركة في هذا الحدث وينفذون الرقصات الاستفزازية.
وقد بدأت هذه الاحتفالات في عام 1974، عندما ابتدع مستوطن يدعى يهودا حيزني، الأغاني والرقصات في المسيرة وكانت تقام بالمساء، وفيما بعد تقررت إقامتها فى ساعات النهار، وباتت تنظم تحت رعاية حاخام المستوطنين حاييم دروكمان.
وبعد تنفيذ الرقصة الاستفزازية في باب العامود، يتفرق المستوطنون ليقتحموا البلدة القديمة عند باب العامود تحت حماية الشرطة وحرس الحدود، وصولاً إلى حائط البراق، حيث يقيمون الرقصة الأخيرة والطقوس الاحتفالية.
فقط في الفترة ما بين عامى 2010-2016، منعت الشرطة الإسرائيلية المستوطنين من اقتحام البلدة القديمة من باب الأسباط، بعد مواجهات مع الفلسطينيين ولأسباب أمنية، بينما كل عام تحدث مواجهات بين المستوطنين والفلسطينيين بالقدس في مختلف المناطق، ما يجبر الشرطة على تحويل المسار وفقاً لمقتضيات الظروف.
الخوف من تساقط صواريخ المقاومة على رؤوس المشاركين مجدداً
"في المرة الماضية التي كان يُفترض أن تجري فيها مسيرة رقصة الأعلام، بدأت تطير الصواريخ نحو القدس، وهذه هي بالضبط الخشية في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية"، حسبما نقل موقع الميادين عن تقرير لـ"القناة 13″ الإسرائيلية.
ففي 10 مايو/أيار، قررت الشرطة الإسرائيلية وقف مسيرة الأعلام الإسرائيلية بمدينة القدس، بعد قصف المقاومة الفلسطينية القدس وتل أبيب ومستوطنات غلاف غزة برشقات صاروخية. وجاء قصف المقاومة بعد المهلة التى وضعتها حماس لإسرائيل بإخلاء المسجد الأقصى والشيخ جراح من جيش الاحتلال حتى الساعة السادسة مساء الإثنين 10 مايو/أيار 2021 (بداية حرب غزة 2021).
ومع سماع دوي صفارات الإنذار بالقدس هرب المشاركون في المسيرة الاستفزازية وحاولوا إيجاد أماكن للاحتماء بها من الصواريخ، وطالبتهم الشرطة بتفريق المسيرة ومغادرة المنطقة.
هذه الأحداث وصفها يوسي ميلمان، المحلل السياسى بصحيفة هآرتس، بـ"مسيرة الحماقة" التي دفعت إسرائيل إلى جولة أخرى من المواجهة مع الفلسطينيين، حسبما ورد في بوابة الأهرام.
ويضيف ميلمان قائلاً: "في كتابها عن الحماقة تقول المؤرخة بربارة توخمان، إن الحماقة عمل أو تمسُّك بسياسة تناقض المصلحة الذاتية. هذا ما يحدث في الأسابيع الأخيرة بأعقاب سلسلة قرارات لرئيس الحكومة الانتقالية بنيامين نتنياهو والجهات التنفيذية الأخرى، خاصةً شرطة إسرائيل".
يضاف إلى كل ذلك، التحيز اليميني والعنف الذي يميز شرطة إسرائيل، التي تسيء التصرف تقريباً في كل حدث. هكذا كان الأمر في أعقاب ضغوط سياسية لنتنياهو ووزير الأمن الداخلي ووزراء الأحزاب الدينية والأصولية، فإن الشرطة الإسرائيلية رغم التحذيرات من كارثة، لم تمنع أو تقلص احتفالات المستوطنين.
الهدف فرض صلاة جماعية في الأقصى
ومع أن مسيرة الأعلام تعود لسنوات، لكن من الواضح هذا العام أن أهداف المستوطنين من تحركاتهم ضد الأقصى والقدس عامة، تبدو أكثر خطورة وجدية، هذا العام.
ففي مطلع شهر رمضان، أعلنت جماعات استيطانية عن تنفيذ "اقتحام كبير" للأقصى يوم 28 رمضان (10 مايو/أيار)9 الذي احتلت فيه إسرائيل القدس الشرقية عام 1967.
وزعم المستوطنون أن ثلاثين ألفاً منهم سيقتحمون الحرم القدسي الشريف؛ للاحتفال بما يسمونه تاريخ توحيد القدس.
وبدأت المواجهات في شهر رمضان بالمسجد الأقصى مع قيام شرطة "إسرائيل" بقطع أسلاك مُكبرات الصوّت بالمسجد في أول أيام رمضان؛ بحجة تخوّفها من قيام المُصلين بالإزعاج خلال طقوس الاحتفال بـ"يوم ضحايا الإرهاب"، ما أثار موجة غضبٍ عارمة لدى الشباب المقدسي، حسبما ورد في تقرير لموقع عمان نت، استناداً إلى مصادر إسرائيلية.
تلا هذا اقتحامات مُستفزة لمستوطنين مُتدينين للحرم القُدسي، ردّ عليها الشباب المقدسيّ، ما أدى لمواجهات قامت على أثرها شرطة الاحتلال بتفريق صلاة التراويح واعتقال بعض الشباب المقدسيين.
والهدف من كل ذلك فرض "صلاة علنية جماعية" لليهود في المسجد الأقصى، حسبما حذّر حنا ناصر، رئيس الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات.
ولولا هبّة المقدسيين وعرب 48 والقصف الصاروخي الذي نفذته حركات المقاومة الفلسطينية من غزة، لكانوا قد اقتربوا من تحقيق هذا الهدف.
يأتي كل ذلك في وقت يريد فيه نتنياهو البقاء بالحكم بأي ثمن وإفساد تحالف القائمة العربية الموحدة مع معارضيه، خاصةً أنه يواجه تهماً بالفساد، قد تُدخله إلى السجن، في حال لم يبقَ بمنصبه، وهو ما جعله يصعّد الأحداث في القدس، الأمر الذي دفع حماس للرد بقصف المدينة خلال مسيرة المستوطنين، وانتهت الحرب بنتيجة مخيبة للآمال.
وها هو نتنياهو في أيامه الأخيرة يعاود مجدداً عبر السماح للمستوطنين بتنفيذ مسيرة الأعلام، ولكن إسرائيل اضطرت إلى إلغائها بعد تهديدات حماس وتحذيرات الجانب الأمريكي وشعور كثير من السياسيين الإسرائيليين بأن نتنياهو قد تمادى في تفجير الأوضاع لمصلحته الشخصية.
ولكن لا يعني إلغاء المسيرة زوال الخطر عن الأقصى، فالخطر مازال قائماً، فقد تعيد إسرائيل السماح بها، والخطر لن يزول بخروج نتنياهو من الحكم ومجيء حكومة ائتلافية واسعة، لأن من الواضح أن تفجير الأوضاع في القدس بات أداة ابتزاز مفضلة لليمين الإسرائيلي المتطرف.