بعد نحو 4 أشهر من اختيار سلطة تنفيذية جديدة في ليبيا، لم يُظهر اللواء المتقاعد خليفة حفتر أي تنازلات فعلية من أجل توحيد الجيش، رغم اعترافه شكلياً بالمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، ما يؤشر إلى تمسكه بمشروعه في السيطرة على السلطة بالعاصمة طرابلس، إن أتيحت له الفرصة لذلك.
ويحاول حفتر تسويق نفسه كمرشح محتمل للرئاسيات المرتقبة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، غير أن مشروع القاعدة الدستورية الذي أعدته اللجنة القانونية لملتقى الحوار وضع شروطاً تمنعه من الترشح، إلا إذا تنازل عن جنسيته الأمريكية.
وترشح حفتر للرئاسيات المحتملة غير مضمون النتائج، خاصة أن تُهماً بارتكاب جرائم حرب تلاحقه في الغرب، وهزائمه على أسوار طرابلس تشوه صورته بالشرق، واحتمال ترشح سيف الإسلام القذافي، نجل زعيم النظام السابق، يهدد بتقسيم معسكره إلى شطرين.
فالطريق نحو السلطة عبر الانتخابات ليس الخيار المفضل لرجل عاصر عهد الزعامات العربية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وليس الخيار العسكري ما يؤرق حفتر، بل تغيّر المناخ الدولي تجاه أي عمل مسلح ضد حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبدالحميد الدبيبة ما يعيقه.
فالولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الجديد جو بايدن تُلقي بثقلها خلف الحل السياسي بليبيا، وتضغط على حلفاء حفتر الدوليين على غرار فرنسا ومصر والإمارات لوقف تقديم أي دعم عسكري لقائد قوات الشرق الليبي.
وأخطر ما يزعج حفتر، الدعم العسكري الذي تقدمه تركيا للجيش الليبي، سواء في شكل استشارات أو تدريب أو تسليح، وبالأخص مُسيرات بيرقدار، التي أثبتت فاعليتها في المعارك.
إخراج القوات التركية
في ديسمبر/كانون الأول 2019، كانت قوات حفتر المدعومة بالمرتزقة الروس قاب قوسين أو أدنى من دخول وسط العاصمة طرابلس، واقتحام قاعدة بوستة البحرية، مقر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني.
إذ تمكنت في ذات الشهر من وضع يدها على مقر قيادة أركان الجيش الليبي في طرابلس، ولم يكن يفصلها عن ميدان الشهداء، الذي يحتضن قلعة السرايا الحمراء التاريخية سوى نحو 6 كلم فقط، قبل أن تتدخل تركيا وترمي بثقلها خلف الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق، مما أدى إلى قلب الطاولة على حفتر وقواته، مطلع 2020.
ولم تمر سوى 6 أشهر حتى وجدت ميليشيات حفتر نفسها مُطارَدة إلى ما وراء خطوطها الخلفية على بُعد أكثر من 400 كلم عن طرابلس.
ويدرك حفتر أنه في ظل وجود القوات التركية في غرب ليبيا، فلن يتمكن من السيطرة على طرابلس، وحكم البلاد بالكامل.
وهذا ما يفسر تأييد حفتر لاتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، بل ودعمِه من وراء ستار قائمة "محمد المنفي – عبدالحميد الدبيبة"، في انتخابات السلطة التنفيذية على مستوى ملتقى الحوار.
وجاء هذا الاختيار على حساب عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، الذي تحالف مع أشد خصوم حفتر، فتحي باشاغا، وزير داخلية حكومة الوفاق، وأحد الشخصيات السياسية والعسكرية النافذة في الغرب الليبي.
وخطة حفتر في هذه المرحلة تركزت على إعادة تنظيم صفوف ميليشياته بعد الهزيمة القاسية التي تلقاها في طرابلس، ومنع صعود أسماء قوية مثل باشاغا أو عقيلة صالح، إلى السلطة بشكل من شأنه تهديد سلطته على ميليشياته وعلى المنطقتين الشرقية والجنوبية.
والأهم من كل ذلك إعادة غرس رجاله في مختلف دواليب الحكومة والمناصب السيادية تحت شعار "الوحدة"، دون أن يتنازل على هيمنته الكاملة على المنطقة الشرقية.
فرئيس المجلس الرئاسي الجديد، وإن لم يُعرف عنه مواقف مؤيدة لحفتر، إلا أنه ليس أيضاً من معارضيه البارزين، وهو ما يفسر لقاء الرجلين في بنغازي، خلال أول زيارة للمنفي بعد أدائه اليمين الدستوري منتصف مارس/آذار الماضي.
لكن الدبيبة تفادى الوقوع في فخ حفتر، وزار المنطقة الشرقية من بوابة عقيلة صالح، ما أغضب اللواء المتقاعد، الذي لا يريد حكومة الوحدة إلا ضعيفة تحت وصايته على غرار الحكومة المؤقتة لعبدالله الثني، لذلك عرقل رجاله زيارة رئيس الحكومة لبنغازي (شرق).
ولإضعاف حكومة الوحدة الوطنية، غرس حفتر العديد من رجاله في الحكومة على غرار نائب رئيس الحكومة حسين القطراني، الذي كان أول لقاء رسمي له عقب أدائه اليمين الدستورية مع حفتر، بمكتب الأخير.
غير أن أخطر الوزراء المحسوبين على حفتر، نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية، التي يبدو أنه أُوكلت لها مهمة إخراج القوات التركية من ليبيا، عبر الضغط الدبلوماسي، متجاوزة كلاً من رئيس المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة، اللذين عبَّرا عن مواقف واضحة بتمسكهما باتفاقيتي التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية مع تركيا.
وتجاهلت المنقوش المرتزقة الروس والأفارقة الذي مازالوا يتدفقون على ليبيا لدعم حفتر، رغم توقف القتال، وركزت هجومها على القوات التركية التي تقدم استشارات للجيش الليبي وتدريباً عسكرياً لعناصره، بالإضافة إلى مساهمتها الملموسة في نزع الألغام التي زرعها مرتزقة فاغنر جنوبي طرابلس قبل انسحابهم منها.
فبحسب الجيش الليبي فإن "المرتزقة يقيمون في قاعدة بنينا الجوية (في بنغازي) وعددهم 3 آلاف"، و"وصول دفعة جديدة قوامها 1500 من المرتزقة السودانيين خلال شهر رمضان الماضي".
وتكشف الصفحة الرسمية لعملية بركان الغضب التابعة للجيش الليبي أنه "منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى الآن (نهاية مايو/أيار)، 74 رحلة لطيران أجنحة الشام السورية، التي تنقل المرتزقة إلى حفتر".
وهذا الأمر يُبين أن حفتر يعمل على جبهتين، الأولى ممارسة مزيد من الضغوط على تركيا لسحب قواتها من ليبيا عبر "المنقوش"، بالموازاة مع تعزيز ميليشياته بمزيد من المرتزقة والأسلحة وإجراء مناورات عسكرية استعراضية، استعداداً لـ"ساعة صفر" جديدة.
صراع صامت بين حفتر والحكومة على أموال النفط
ويسعى حفتر أيضاً لتعيين أحد أتباعه في منصب محافظ البنك المركزي، وفق اتفاق تقاسم المناصب السيادية بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وهذا ما يتيح له تمويل ميليشياته والمرتزقة الأجانب أيضاً.
فقوات حفتر تتهم حكومة الوحدة الوطنية بعدم تضمن موازنة الدولة لأي مخصصات مالية لها، وهذا أحد الأسباب وراء عرقلة مجلس النواب لاعتماد مشروع الموازنة.
إذ شدَّد مجلس النواب، في جلسة عُقدت في 24 مايو/أيار المنصرم "على ضرورة تخصيص ميزانية" لميليشيات حفتر.
فمجلس النواب الذي يضم نحو 170 نائباً من إجمالي 200 منصوص عليهم في الدستور عاد ليصبح خاضعاً لإرادة عقيلة صالح، المتحالف مع حفتر، بعد توحيد صفوف البرلمان عقب منحه حكومة الوحدة الثقة، في مارس/آذار الماضي، بحضور نحو 134 نائباً.
ويعكس عدم منح حكومة الوحدة موازنة لقوات حفتر، رغبة في إجبارها على الاعتراف والخضوع لسلطتها، في حين لجأ حفتر للنواب الموالين له وعلى رأسهم عقيلة، لمنع الحكومة من التصرف في أموال الموازنة قبل منحه حصة منها. إنه أشبه بابتزاز ومساومة.
وبلغت مداخيل النفط والغاز، خلال شهر أبريل/نيسان الماضي، أكثر من مليار و300 مليون دولار، بينما تجاوزت مليارَي دولار في مارس/آذار الماضي، بعد ارتفاع الإنتاج إلى أكثر من 1.1 مليون برميل يومياً، صعوداً من أقل من 100 ألف برميل في النصف الأول من 2020.
وإذا استقر إنتاج النفط الليبي مع استمرار تحسن أسعاره فإن مداخيله السنوية ستتجاوز 15 مليار دولار، وقد تُلامس سقف 20 مليار دولار.
وهذا الرقم يغري الكثير من الأطراف الداخلية والخارجية، وسيرفع أسهم حكومة الوحدة الوطنية، ويقوي نفوذها، على غرار التزامها بمساعدة تونس في أزمتها الاقتصادية.
حيث قال وزير الشؤون الاجتماعية التونسي محمد الطرابلسي، إن "ليبيا تعتزم منح تونس وديعة مالية بمليار يورو".
سيناريو الهجوم على طرابلس ليس مستبعداً
إذا نجح حفتر في الإيقاع بين حكومة الوحدة وتركيا، ودفع الأخيرة إلى سحب قواتها ومستشاريها العسكريين من ليبيا فلن يكون تكرار هجومه على طرابلس مستبعداً.
فاتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه لجنة 5+5 العسكرية المشتركة، تضمّن سحب المرتزقة في 23 يناير/كانون الثاني 2021، وحتى مطلع يونيو/حزيران الجاري، مازال المرتزقة الأفارقة يتدفقون على معسكرات حفتر.
فبعد أكثر من 7 أشهر من الاتفاق العسكري لم تتمكن لجنة 5+5 العسكرية من توحيد الجيش كما كان متوقعاً منها، ولا حتى إزالة الألغام وفتح الطريق الساحلي الرابط بين الشرق والغرب، ناهيك عن إبعاد المرتزقة من خطوط التماس.
وعدم تقدم عملية توحيد الجيش، ولا حتى تنفيذ معظم ما تم الاتفاق عليه يعني أن المواجهة العسكرية قد تحدث في أي لحظة، في ظل وجود حشود من الطرفين على خطوط التماس.
فحفتر يبدو يائساً من إمكانية فوزه في الانتخابات الرئاسية، في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، بعد إصرار أعضاء اللجنة القانونية على وضع شرط يمنع مزدوجي الجنسية من الترشح لمنصب الرئيس، خاصة أنه يحمل الجنسية الأمريكية، ولديه أملاك عقارية في ولاية فرجينيا، وليس من السهل عليه التخلي عنها.
وأخفق ملتقى الحوار في حسم النقاط الخلافية بشأن القاعدة الدستورية التي ستجرى على أساسها الانتخابات، خلال اجتماعه الافتراضي نهاية مايو/أيار المنصرم، في حين أن أمامه أقل من شهر لحسم هذا الملف، وإلا سيتعرض لنفس التسويف الذي شهده مشروع الدستور، الذي لم يعرض للاستفتاء منذ 2017.
وعدم إنجاز القاعدة الدستورية، قبل 1 يوليو/تموز المقبل، الذي حددته مفوضية الانتخابات، من شأنه التأثير على إجراء الانتخابات في موعدها.
وحتى إن تمكن ملتقى الحوار من الاتفاق على القاعدة الدستورية فيتوجب حصول موافقة مجلسي النواب والدولة عليها.
وهذا من شأنه تأخير جاهزية القاعدة الدستورية، خاصة أن مجلس النواب لديه "خبرة" في تعطيل إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور، الذي لا يتيح لحفتر الترشح للرئاسة لنفس السبب.
ويملك مجلس النواب سلاحاً آخر لتعطيل إجراء الانتخابات، يتمثل في دوره في إعداد قانون الانتخابات البرلمانية، فضلاً عن قانون الانتخابات الرئاسية الذي سبق أن أعده في 2019.
وكل هذه النقاط تصب في هدف واحد، هو تأجيل إجراء الانتخابات، والتمديد للبرلمان وإفشال حكومة الوحدة وإضعافها، ما يُسهّل إسقاطها، وهو ما يتيح لحفتر فرصة الاستيلاء على الحكم عبر المناورات السياسية أو العمل العسكري.
فعدم إقرار مجلس النواب لموازنة الدولة سيُكبل عمل الحكومة لحل أزمات البلاد المستعجلة وعلى رأسها الكهرباء، خاصة مع اقتراب فصل الصيف، وبداية الانقطاعات للتيار الكهربائي، ما قد يؤلّب الناس على حكومة الوحدة، كما حدث في صيف 2021، ضد حكومتي الوفاق والمؤقتة.
وقد يلجأ حفتر مجدداً لغلق آبار وموانئ النفط لتجفيف منابع تمويل الحكومة، إذا تجاوزت عراقيل مجلس النواب، ولجأت إلى موازنة "الأمر الواقع" مثلما فعلت حكومة الوفاق.
فحفتر يلجأ إلى نفس الأساليب السابقة التي استعملها ضد حكومة الوفاق، ويطبقها على حكومة الوحدة، لإضعاف الجيش الليبي في المنطقة الغربية، قبل الانقضاض عليه عندما تحين الفرصة.