إعلان رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد عن خطة لبناء أكثر من 100 سد جديد، في خضم الموقف المتوتر مع مصر والسودان بشأن الملء الثاني لسد النهضة يعتبر استفزازاً مهما كانت مبررات التصريح.
نعم آبي أحمد يواجه تحديات داخلية ضخمة والانتخابات العامة المقررة خلال يونيو/حزيران الجاري تمثل منعطفاً مفصلياً في مسيرته السياسية، لكن هذا لا يمنع أن تصريحه الأخير بشأن السدود في هذا التوقيت ربما يدفع الأمور إلى الانفجار، فهل هذا ما يسعى إليه؟
ماذا قال آبي أحمد عن السدود؟
خلال كلمة له بمناسبة إطلاق المرحلة الأولى من طريق سريع هو "أداما – أواش" يبلغ طوله 60 كيلومتراً، ويهدف إلى تعزيز التكامل الاجتماعي والاقتصادي مع جيبوتي والمناطق المتاخمة لمدينة أداما، أعلن آبي أحمد أن بلاده ستبني أكثر من 100 سد صغير ومتوسط في مختلف أقاليم إثيوبيا في السنة المالية الجديدة القادمة، بحسب وكالة الأنباء الإثيوبية.
وزعم آبي أحمد أن بلاده تعتزم بناء تلك السدود في مناطق مختلفة بحلول عام الميزانية الإثيوبية القادمة والذي سيكون له دور فعال في الإنتاج الزراعي بهدف ضمان الأمن الغذائي.
وأضاف أحمد أن "الأصوات التي سمعت مؤخراً ضد إثيوبيا ليست قائمة على الحقائق الواقعية وتهدف إلى تقويض العلاقات الدبلوماسية طويلة الأمد للبلاد على الساحة العالمية"، وأكد أن "إثيوبيا ستتحول وسيظهر الازدهار في السنوات المقبلة".
تصريحات الزعيم الإثيوبي تأتي في وقت عنوانه التوتر مع مصر والسودان هو سيد الموقف، في ظل إصرار أديس أبابا على تنفيذ الملء الثاني لسد النهضة العملاق على مجرى النيل الأزرق، الذي يمثل الرافد الرئيسي لمياه نهر النيل، دون التوصل إلى اتفاق قانوني مُلزم بشأن تعبئة وتشغيل السد كما تطالب القاهرة والخرطوم.
والمفترض أن يعقد الاتحاد الإفريقي جولة جديدة من المفاوضات بشأن هذا الاتفاق الذي تريده مصر والسودان وترفضه إثيوبيا، بعد أن أعطت الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن بعضا من اهتمامها لأزمة السد وأرسلت مبعوثاً إلى المنطقة، وبالتالي فإن تصريحات آبي أحمد بشأن اعتزامه تشييد هذا العدد الكبير من السدود هو رسالة مباشرة مفادها أن أديس أبابا تعتبر نهر النيل بحيرة إثيوبية خالصة بالفعل.
كيف ردت مصر على آبي أحمد؟
كان طبيعياً أن ترفض مصر تصريحات آبي أحمد، وقال السفير أحمد حافظ المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية إن هذه التصريحات "تكشف مجدداً عن سوء نية إثيوبيا وتعاملها مع نهر النيل وغيره من الأنهار الدولية التي تتشاركها مع دول الجوار وكأنها أنهار داخلية تخضع لسيادتها ومُسَخرة لخدمة مصالحها".
تصريحات الخارجية المصرية تعيد التذكير بتغريدة لوزير الخارجية الإثيوبي الأربعاء 22 يوليو/تموز من العام الماضي عبر حسابه الرسمي على تويتر كان قد قال فيها: "تهانينا! كان اسمه نهر النيل وأصبح النهر بحيرة. لن يتدفق الماء عبر النهر مرة أخرى. ففي البحيرة، استسلمت إثيوبيا لجميع مطالب التنمية. الحقيقة هي أن النهر ملك لنا!".
وأشار المتحدث باسم الخارجية المصرية إلى أن تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي ما هي إلا استمرار للنهج الإثيوبي "المؤسف الذي يضرب عرض الحائط بقواعد القانون الدولي واجبة التطبيق والتي تنظم الانتفاع من الأنهار الدولية والتي تفرض على إثيوبيا احترام حقوق الدول الأخرى".
وواصلت وسائل الإعلام المصرية هجومها العنيف على آبي أحمد، متهمة إياه بالهروب إلى الأمام والقفز على الانقسامات الداخلية في بلاده عن طريق تصريحات اعتبرتها "استفزازية" للقاهرة، سعياً لتحقيق انتصار في الانتخابات التشريعية التي من المفترض أن تشهدها إثيوبيا أخيراً يوم 21 يونيو/حزيران الجاري.
كانت تلك الانتخابات مقررة في أغسطس/آب من العام الماضي، لكن حكومة آبي أحمد اتخذت قراراً بتأجيلها مبررة قرارها بوباء كورونا المستجد، وهو ما لم تقبل به "جبهة تحرير شعب تيغراي" الشريك الأساسي في الائتلاف الحاكم برئاسة آبي أحمد، مما أدى لانسحاب الجبهة وإقامة انتخابات في الإقليم ليشن آبي أحمد بالتعاون مع إريتريا حربا ضد الإقليم مطلع نوفمبر/تشرين الثاني.
تحركات عسكرية مصرية
ويبدو أن آبي أحمد أراد من تصريحاته الأخيرة بشأن اعتزامه تشييد مزيد من السدود أن يظهر الملء الثاني لسد النهضة وكأنه أصبح أمراً من الماضي، رغم أن المفترض أن التنفيذ الفعلي لتلك المرحلة مرتبط بالأساس بموسم الأمطار الذي يبدأ في يوليو/تموز، ورغم أن الموقف بين القاهرة وأديس وأبابا يشهد تصعيداً غير مسبوق.
فقد شهدت نهاية مارس/آذار الماضي التهديد الأقوى منذ نشوب أزمة سد النهضة بين البلدين قبل 10 سنوات، حيث قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إن "مياه النيل خط أحمر، وأي مساس بمياه مصر سيكون له رد فعل يهدد استقرار المنطقة بالكامل".
كما أكدت الحكومة السودانية في أبريل/نيسان الماضي أنها قادرة على إرغام إثيوبيا على عدم المضي قدما في الملء الثاني لخزان سد النهضة من دون اتفاق، وقالت وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي إن الخلافات بشأن السد يمكن حلها خلال ساعات إذا توفرت الإرادة السياسية.
والأسبوع الماضي أصبح السيسي أول رئيس مصري في التاريخ يزور جيبوتي، وقالت القاهرة إن الزيارة استهدفت تعزيز العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية، والأمنية، والعسكرية، كما سبقت زيارة السيسي شحنة من المساعدات الغذائية والطبية أرسلتها مصر إلى جيبوتي.
وجيبوتي هي خامس دولة مجاورة لإثيوبيا – بعد السودان وأوغندا وبوروندي وكينيا – تعزز معها مصر تعاونها العسكري خلال الأشهر الثلاثة الماضية. كما اختتمت مصر والسودان أمس الاثنين 31 مايو/أيار تدريبات عسكرية شاركت فيها للمرة الأولى قوات برية وجوية وبحرية وأطلق عليها "حماة النيل".
وقال الخبير العسكري المصري العميد صفوت الزيات لهيئة الإذاعة البريطانية BBC إن الفرق بين التدريبات المصرية السودانية المشتركة "حماة النيل" وما سبقها، "نسور النيل 1" و"نسور النيل 2″، هو أن القوات اقتربت جغرافياً أكثر من الحدود السودانية-الإثيوبية.
وأوضح الزيات أن هذا من شأنه المساعدة في اكتساب الخبرة والتدريب على البيئة القتالية هناك، الأقرب إلى الأهداف التي قد تتعامل مصر معها عسكرياً في إثيوبيا، إن قررت ذلك، مضيفاً أن اقتراب القوات من أهدافها يجعل الطلعات الجوية ذات مدى قريب بدلاً من طلعات المدى البعيد فقط، وهذا سيتيح حمل ذخيرة أكبر بدلاً من استهلاك الطاقة الاستيعابية في حمل الوقود.
وكان لافتاً أن تعلق إثيوبيا على تلك التدريبات العسكرية "حماة النيل"، إذ قال المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي: "من حق البلدين فعل ما يرونه مناسباً معاً من تدريبات عسكرية"، لكنه تابع قائلاً: "إثيوبيا لديها قوات مسلحة قوية وقادرة على حفظ أمن البلاد وردع أي عدوان خارجي".
وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي في مصر والسودان وإثيوبيا بالتعليقات حول إمكانية المواجهة العسكرية بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى، وكذلك بالنقاشات حول القدرات العسكرية للبلدان الثلاثة.
هل ما زال الحل العسكري وارداً؟
على الرغم من أن نافذة توجيه ضربة عسكرية من جانب مصر والسودان لسد النهضة لا ينتج عنها أضرار كارثية على الخرطوم وبدرجة أقل على مصر نتيجة اندفاع كميات هائلة من المياه – حال نجاح تلك الضربة – قد أصبحت ضيقة، فإن كثيراً من المحللين العسكريين لا يستبعدونها بشكل كامل.
فسد النهضة حالياً يحتجز خلفه نحو 5 مليارات متر مكعب، بعد تنفيذ الملء الأول العام الماضي، وتخطط أديس أبابا لتخزين نحو 13.5 مليار متر مكعب خلال الملء الثاني المقرر في يوليو/تموز، وهو ما يعني أن نافذة الحل العسكري قد أصبحت محصورة في نحو أربعة أسابيع أو أكثر قليلاً، قبل أن تصبح شبه مستحيلة بحسابات الأضرار التي قد تتسبب فيها.
وفي هذا السياق، كان وزير الخارجية المصري سامح شكري قد استخدم لغة "الغموض الاستراتيجي" خلال مداخلة هاتفية عبر فضائية "mbc مصر" الأسبوع الماضي، عندما اعتبر أنه "من غير الملائم الحديث عن الخيارات المصرية علناً" في رده على سؤال عن خيارات مصر في حال تخطي أديس أبابا الخطوط الحمراء (التي قد يُفهم منها أنها الملء الثاني لسد النهضة).
وتصريح شكري، بقدر غموضه يحمل تهديداً مبطناً لا يمكن تجاهله، لأن الخيارات التي لا يجوز الحديث عنها عادة هي الخيارات الاستخباراتية والعسكرية، ومع تزامن هذا التصريح مع إجراء مصر والسودان مناورات "حماة النيل"، تصبح الأمور أكثر وضوحاً.
وبالتالي فإن تصريحات آبي أحمد بشأن تخطيط أديس أبابا مزيداً من السدود العام المقبل يطرح تساؤلات بشأن الأسابيع القليلة المقبلة وما قد تحمله فيما يتعلق بالخيار العسكري من جانب مصر، التي استنفذت جميع الوسائل الدبلوماسية لتفادي الوصول لنقطة الصدام.